مارتن لوثر كينغ.. المُلْهِم

قيس قاسم

أراد المخرج "مايكل هاملتون" من خلال الفيلم قراءة "مارتن لوثر كينج" ، قراءة تحليلة/ سياسية تربط خلاصاتها بالحاضر، من خلال شخصيات عرفته وشاركته نضاله .

مارتن لوثر كينغ جونيور.. المناضل العنيد ضد العنصرية والتمييز ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية، المُقرن إيمانه بحقهم في العيش بكرامة وكبشر لا يختلفون عن غيرهم من أبناء وطنهم، بالعمل السياسي الشجاع حد الموت. الشخصية الفذة المتعددة المواهب، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، وهو في سن الخامسة والثلاثين، ليكون بذلك الأصغر سناً بين الحاصلين عليها. اللَبق، الشفاهي الساحر، على جمال نثره وخطبه، من بين أشهرها؛ “عندي حلم” و”لهذه الأسباب أعارض حرب فيتنام”، منحته “غرامي” جائزتها لأجمل نص شفاهي، ولِما له من حضور طاغٍ في الحياة السياسية سمَتَّه مجلة “تايم” الأمريكية عام 1963 “رجل العام”.

على تلك العلامات، وفي الذكرى الخمسين لاغتياله أراد المخرج “مايكل هاملتون” قراءة “مارتن لوثر كينغ” مجدداً، قراءة تحليلة/ سياسية تربط خلاصاتها بالحاضر، من خلال شخصيات عرفته وشاركته نضاله وأخرى لم يتح التاريخ لها فرصة معايشته شخصياً، لكنها، تسلحت بقراءه واعية له، حين اعتبرته نتاجاً تاريخياً و”ظاهرة” موضوعية أفرزها المجتمع الأمريكي المأزوم بعنصريته، لهؤلاء خصص الوثائقي مساحة جيدة من زمنه لا تقل عن المساحة الممنوحة لشهادات رفاقه ومصاحبي مراحل نضاله، المعززة بتسجيلات فيلمية وأرشيفية وَفْرَتها تثير الإعجاب، ومنحته في الوقت نفسه مصداقية وسلاسة بحيث تبدو على لسانهم وكأنها حكايات شعبية، يعاد من خلالها ترتيب الأحداث وتصور الصراعات التي خاضها “كينج” وانتهت باغتياله عام 1968. حكايات مليئة، بالإعجاب والفخر بشخصه ومن خلالها هدفوا إلى فتح الباب واسعاً أمام المطالبين بعده لنيل حقوقهم، لفهم أسلوب عمله وتعامله الحاذق في المنعطفات السياسية الخطيرة.

رحلة النضال الشاقة تلك يكثفها فيلم   I AM MLK Jrبساعة ونصف  تقريباً، غطى خلالها جزءاً مهماً من أحداث خمسينات وستينيات القرن الماضي، الأكثر تأثيراً في مسار حركة نضال السود، والأكثر رفداً لقادتها الأفذاذ، مثل “كينغ” الذي نراه فيها رجلاً، رغم صغر سنه أنضجته الحياة مبكراً، وأغنت المعرفة تجاربه السياسية فيما لعب بؤس الواقع الذي يعيشه أبناء جلدته في تعزيز ثباته على المطالبة بتغييره، فصار لهذا واحداً من أشجع وأهم رجالاتها. فهمه العميق للعنصرية ورؤيته الواضحة لها، قادته لابتكار أساليب جديدة لمناهضتها، ستدفع محبيه لاحقاً منحه عليها لقب “المُلهم” وعلى تسجيدها سينمائياً سيشتغل صناع فيلم “أنا مارتن لوثر كينغ جونيور” كثيراً.

وثق فيلم   I AM MLK Jr خلال ساعة ونصف  تقريباً، جزءاً مهماً من أحداث خمسينات وستينيات القرن الماضي، الأكثر تأثيراً في مسار حركة نضال السود.

من البداية يبدو ميل المخرج  “مايكل هاملتون” ومساعده “جون باربيزان”، نحو إشباع مُشاهد فيلمهما، بالانطباعات الشخصية عنه ظاهراً، من خلال حشدهما شخصيات كثيرة من بينهم السياسي والنشاط المجتمعي جيسي جاكسون، الكاتب تافيز سمايلي، الممثل نِك كانون، المعلق السياسي فان جونز وعدد من أصدقائه ورفاق دربه، أعطاهم فسحاً كبيرة نسبياً من فيلمه للحديث عما يجدونه في شخصية الدكتور “كينغ”. على وصفهم له يؤسس صانعه معمار فيلمه السردي، ومن بعضها يذهب إلى عمق مشكلات تطال هيكيلية الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها دولة قامت أصلاً على إبادة سكان البلاد الأصليين وعلى استغلال الأفارقة عبيداً. ولأن عملية اغتياله تفسر في جانب منها حجم كراهية العنصريين البيض له، وخوف أجهزة الشرطة والمخابرات الأمريكية من نشاطه السلمي المؤثر في قطاعات شعبية كبيرة، حراكها أغضبهم وأرادوا إيقافه بأي ثمن. لا يبحث الوثائقي، المُفتَتح مساره بمشهد الاغتيال كما يصفه السياسي جاكسون بدقة، في فعل القتل والبحث عن مرتكبه، لأنه في النهاية بالنسبة إليه، هو نتاج موقف أكبر، من رجل أُتخذ قرار تصفيته دون رجعة، وفي هذه الحالة الأجدى به بحث الأسباب الحقيقة الكامنة وراء فعل الاغتيال السياسي، عبر مراجعة لتاريخه النضالي، الذي يشكل علامة فارقة في تاريخ سود الأمة الأمريكية وتأسيسه “حركة حقوق المواطن” التي ظلت شعلتها مُتقدة مُلهمة، لأجيال كثيرة من بعده.

واحدة من الصفات المُتَحلي بها والمجمع عليها؛ حلاوة لغته وقوة تأثيرها الروحي على مستمعيها، المُستَلهمة أغلبها من النص التوراتي. لقد تشبع ابن الراهب جونيور، بالنص الديني وعرف خلال سنوات نضجه كيف يُجيّره لصالح نضاله العادل. مقاطع من خطبه تعكس ذلك التوصيف الدقيق وسيكتب التاريخ لاحقاً بروز متحدث سياسي ألمعي قل نظيره في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.  ومن الروح الدينية السمحة، التي جُبل عليها ستتبلور فكرة النضال السلمي (اللاعنفي) وسيكون هو المعبر الأمين عنها والمُتمسك بها في ظروف يصعب التمسك بها، مع خباثة أجهزة شرطة ودهاء مخابرات تعمل على استفزاز السود ودفعهم إلى مجابهة العنف بالعنف ليبرروا به لاحقاً بطشها لهم.

 طيلة حياته السياسية ظل أميناً على ذلك النهج الناجع الذي أثمر وفي مرحلة مبكرة من حياته كسراً للذل العنصري المتجلي بأبشع أشكاله في قوانين النقل العام. كان يمنع في مدينة ممفيس، التابعة لولاية تينيسي الجنوبية على السود الجلوس على مقاعدها وحتى الوقوف في مقدمتها. قاد “الخطيب” حملة سلمية مذهلة في تنظيمها وصبرها على الأذى، وبعد أضراب عن صعود السود اليها طال شهوراً، تراجعت الحكومة وسمحت بجلوسهم في مقاعدها. تجربة ستُلهم السود لابتكار مزيد من الطرق النضالية الجديدة المثمرة النتائج، وسيعيد بعدها في خطاباته على أسماع مريديه تجربة الزعيم الهندي غاندي المشابهة، والمتأثر هو كثيراً بها.

من البداية يبدو ميل المخرج  "مايكل هاملتون" ومساعده "جون باربيزان"، نحو إشباع مُشاهد فيلمهما، بالانطباعات الشخصية عنه ظاهراً، من خلال حشدهما شخصيات كثيرة من بينهم السياسي والنشاط المجتمعي.

نجاحه العملي أواسط الخمسينات وقوة تأثيره سيسرعان من تكليفه قيادة مسؤولية “حركة حقوق المواطن” في منطقة ألباما ـ مونتغمري، وسيشجع أسلوب ادارته لها الكثيرين للمشاركة في نشاطاتها وفعالياتها الاحتجاحية ومن بينهم زوجته، التي ستظل وفية له، رغم كل ما مر به من ظروف قاهرة، ومعها سيُجل  التاريخ له تشجيعه النساء على دخول ساحات النضال. صموده وشجاعته في مواجهة الخصم أذهلت المُحيطين به وألهمتهم العزيمة. شهادات المقربين تقول كم كان الضغط شديداً عليه. كانت تصله عشرات رسائل التهديد يومياَ من العنصريين الجنوبيين ومكالمات صريحة تهدده مع عائلته ومع كل ذلك ظل متماسكاً يدعو إلى تصعيد حركة المطالبة الشعبية المكفولة دستورياً. “أب الدستور الأمريكي” سيطلق عليه كُثر من أصدقائه هذا اللقب، لقناعتهم بأنه السياسي الأمريكي الوحيد الذي نقل نص دستور الخاص بحقوقهم إلى واقع. فالديمقراطية المتباهى بها ظلت كلاماً فيما يخص السود والمواقف العنصرية بقيت مستمرة. حين عاد لمراجعة نصوصه أخذ من الإيجابي فيها أفكاراً، راح ينطلق بها في خطاباته ويسطرها في كتاباته.

شرح كيف أن نهاية الحرب الأهلية الأمريكية لم تنه العنصرية، عملياً فظل الفصل العنصري (الأبارتيد) قائماً وبدعوته لإلغائه، دعا إلى تطبيق روح الدستور، في خطوة اعتبرها البعض “دمقرطة” حقيقية له، ومشروع تغيير مستند على القانون. ستُلهم أفكاره قادة أفارقة آخرين في بقية البقاع، كما ألهمت مواقفه النضالية ثوار العالم من قبل. قلة من قادة السود أستغل السجن مكاناً لفضح الشرطة وسلوكها الهمجي ضدهم. عرف قيمة الإعلام فأستغله لعرض ما يجري لهم داخله وما تشهده زنزانته من انتهاك لحقوق الإنسان. وخارجه كانت صلابته في المضي بها تجبر الشرطة لكسرها بالقوة. مشاهدها المصورة ونقل العنف المنفلت لرجال الشرطة في قمعها، وكلها متوفرة في متن الوثائقي، ستكون سبباً في إثارة الرأي العام الأمريكي ضدها وانضمام كثير من البيض إلى جانبهم.

 أراد تأسيس جبهة أمريكية (من السود والبيض) ضد العنصرية، سيعبر عنها خطابه الشهير “عندي حلم” أمام البيت الأبيض  في واشطن وسيُعبر مضمونه عن دعوة عامة لنبذ الكراهية بطرق سلمية. سلمية المظاهرة الأكبر في تاريخ نضال السود الأمريكان ستدفع الرئيس كندي، لمقابلته والثناء على خطبته وسلمية توجهه السياسي، فيما ستتحول الخطبة الى دروس ثورية ملهمة. صرامة المواقف خصلة ثابتة فيه، ومواجهتها حسب ظروفها كانت تدهش أبناء جلدته وتبعث الخوف في قلوب خصومه. في مدينة مونتغمري الأشد عنصرية في الجنوب الأمريكي، سيعلن أمام مؤيده استعداده للدفاع عن المتظاهرين بكل الوسائل الممكنة!. كلمات أخافت الخصوم وأجبرتهم على التراجع.

قام الوثائقي بنقل مشهد اغتياله بعيار ناري أطلقه مجهول عليه، بأسلوب سينمائي رائع، جعل منه تحفة، تستحق المشاهده.

هل خرق سلميته المعروف بها؟ ذلك السؤال سيجيب عليه في كراس كتبه في السجن؛ عن أساليب النضال وضرورة معرفة نفسية الخصم وإخافته، بمعرفة نقاط ضعفه، والمثال الحيوي على تنويعاته جسدتها دعوته إلى مقاطعة منتجاتها في مدينة عرفت بشدة كراهيتها للسود. بعد مدة وإثر ضغوطات مارسها أصحاب الشركات على محافظها، اضطر إلى الموافقة وسمح للسود بإلقاء خطبهم الحماسية أمام بوابة بلديته. في تقدير معارفه الأقرب يتمثل دوره الأبرز في الضغط على الحكومة الأمريكية وقطاعات كبيرة من البيض، لمنح السود حق المشاركة في الانتخابات الرئاسية، والطريقة البارعة التي أجبر بها الإدارة الأمريكية على الاستجابة لمطاليبهم، بعد طول عذاب مع العنصريين وقادة رجال شرطة. يستغل الوثائقي المبهر الفرصة لكشف تورط كثير منهم في أعمال غير قانونية ضد السود وانضمام بعضهم إلى حركات عنصرية متطرفة.

 تجاربه الناجحة كثيرة لكن الفاشلة كانت موجودة أيضاً في حياته، والغريب أن أكثرها وقعت في الشمال الأمريكي “الليبرالي”، فحيما أراد “كينغ” توسيع نشاط “حركة حقوق المواطن” وعدم حصرها في الجنوب. تصور أنه سيواجه معارضة أقل لها في الشمال. لم تكن حساباته دقيقة وتجربة مظاهرات شيكاغو السلمية ستمثل له نموذجاً لخذلان مواطنيها له. لم يكتفوا بعدم استجابتهم لدعوته بل راحوا  يطلقون النار على المتظاهرين، ويضربونهم دون رحمة. سيصيبه الإخفاق بالحزن، ويدعوه إلى قراءة ما جرى بروح نقدية شجاعة، وبالنسبة للوثائقي أرادها فرصة ليميُّز نفسه عن بقية الأفلام التي تناولت حياته وذلك بالذهاب إلى شباب من الجيل المعاصر والاستماع إلى آرائهم حول تلك الأحداث التاريخية. من موقفهم من ما جرى في الشمال، يستنتج الوثائقي عمومية العنصرية وعدم حصرها بقسم جغرافي محددة، لسبب جد بسيط يتعلق بهيكيلية العنصرية الأمريكية، التي وصفها بعضهم ب”داء” غير مستأصل بعد.

ما زال في حالة نشاط جوهره عنصري يرفض الأبيض فيه مساواته بالأسود. وعلى المستوى الرسمي وعلى الورق الكل سواسية لكن على أرض الواقع فرص السود ما زالت قليلة ومساحة حرية التعبير عن حقوقهم ضيقة لأن “ديقراطية” البلد تعاني أصلاً من خلل منهجي يُعبر وجود التمييز عنه بوضوح. أما موقف أجهزة الشرطة وقادتها فله صلة بثقافة أمريكية متجذرة، تعتبر الأبيض متفوقاً، أما سلوك العنف المنتشر، فله حضوره القوي في المشهد العنصري الأمريكي، من مفارقاته أن نسبة “المعدومين شنقاً” من السود على يد العنصريين ومنظماتهم في الولايات الشمالية تاريخيا أكبر من الجنوب!؟. سيقود السؤال النابع من المعطيات التاريخية الى اللحظة التي يعبر فيها الكارهون لـ”كينغ” عن حجم البغضاء الكامن في نفوسهم، إلى درجة لم يتحملوا فيها سلمية نضاله فقرروا في نيسان عام 1968 إنهاء نشاطه بقتله.

المفارقة العكسية التي لم يدرك القتلة أنهم يجسدونها تتمثل في استلهام ملايين السود تجربة قائدهم واعتباره قدوة ونموذجاً يحتذون به. مشهد اغتياله بعيار ناري أطلقه مجهول عليه، ومراسيم دفنه توجزان جوهر المشهد العنصري الأمريكي العام، الذي قام الوثائقي بنقله بأسلوب سينمائي رائع، جعل منه تحفة، تستحق المشاهدة، ربما أكثر من مرة!. فمن يريد أن يعرف معنى ما فعله “كينغ”  ولماذا صار ملهماً للملايين عليه أن يتعرف ولو قليلاً على الظروف التي أحاطت حياته ودفعته للنضال والعمل، والتي يصعب على فن آخر غير السينما تكثيفها بدقائق.  

 

 


إعلان