كفرناحوم.. عندما يقاضي الطفل أبويه

فاز فيلم “كفرناحوم” للمخرجة اللبنانية نادين لبكي بجائزة “لجنة التحكيم” بعد مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” في دورته الأخيرة الـ71 الذي عُقد خلال الفترة 8–19 مايو 2018، الأمر الذي أعاد إلى الذهن فوز المخرج اللبناني مارون بغدادي بنفس الجائزة أيضا عام 1991 وذلك عن فيلمه “خارج الحياة”.

“كفرناحوم” هو الفيلم الروائي الثالث في مشوار نادين لبكي الإخراجي الذي بدأته بفيلمها “سُكَّر بنات” عام 2007، ثم تلاه فيلم “هلأ لوين؟” عام 2011. مَن شاهد فيلمي نادين لبكي السابقين وفيلمها الأخير كفرناحوم لمس كثيرا من التطور الملحوظ على عمل المخرجة، وإن لم يصل هذا التطور بعد إلى مرحلة من النضج الفني التام أو التَمَكُّن الحِرَفي الملحوظ والسيطرة التامة على مختلف جوانب العمل، وخلق الانسجام والاتساق بين مُكوناته، وقبل هذا كله بين الشكل والمضمون.

كفرناحوم.. مشاكل القضايا الكبرى

“كفرناحوم” فيلم لا يتناول قضية واحدة فقط بل العديد من القضايا. ومثل الغالبية العُظمى من الأفلام الأولى للمُخرجين أو تلك التي تتصدى لمجموعة من القضايا الكبرى -اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية- عجز الفيلم في النهاية عن طرح ومُناقشة وتعميق قضية واحدة من قضاياه المُتعددة أو حتى حَملِهَا والمُضي بها حتى نهاية المشوار.

بالطبع، لا أحد يُنكر أبدا أهمية القضايا التي رغبت نادين لبكي في تناولها بالفيلم، مآسي المُجتمع وظلم الأهل والطفولة البائسة تعذيبا أو تشردا، إضافة إلى الجهل المُركب والفقر المُذل، إلى جانب زواج القاصرات وعمالة الأطفال والهجرة والعمالة غير الشرعيين والتحرش والعنصرية وبيع الأطفال، وغيرها الكثير من القضايا التي ناءت دراما الفيلم عن حملها، وأسقطت كل ما هو فني تحت ثِقلها.

“كفر ناحوم” هو الفيلم الروائي الثالث في مشوار نادين لبكي الإخراجي  .

قطعا بالإمكان تناول كل هذه القضايا في فيلم سينمائي فني رفيع المستوى، إن تسنى للقائم عليه التمكن من صياغة وتقديم جزء من هذا الخليط أو كله، وخلق التجانس أو الانسيابية بين مُكوناته، وأكسبه المصداقية المطلوبة.

في “كفرناحوم” نرى كل تلك البشاعات والمآسي التي ذكرناها بقسوتها وميلودراميتها، والاستسلام التام للخراب والدمار والانسحاق الحياتي. أرادت نادين تصوير هذا كله بمُنتهى الصدق ولفت الانتباه إليه وبقوة، وفي ذات الوقت جعله استعارة تدمغ مدننا أو عواصمنا العربية من ناحية، والارتقاء بكل هذا لمصاف القضايا الإنسانية العالمية من ناحية أخرى، إلا أن الوجهة تاهت والخطوات تعثرت في النهاية.

كفرناحوم.. لعنة السيد المسيح

رغبة نادين لبكي في جعل كل ما سبق استعارة لمُدُنِنَا، وعدم ذكر “بيروت” صراحة، بادية من عنوان الفيلم ذاته “كفرناحوم”، وهو من بين المُشكلات الطفيفة لجمهور السينما العادي، إذ إنه لا يمت بصلة إلى بلدة “كفرناحوم” التاريخية في فلسطين المحتلة، حيث ألقى السيد المسيح مواعظه وأتى بالكثير من المعجزات. لكن العنوان في الوقت ذاته يُحيل بكل ما له من رموز ودلالات إلى المعنى الإنجيلي للكلمة، حيث لعنها السيد المسيح في الإنجيل وتنبأ بفوضاها وخرابها ودمارها، لكنه استثنى الأطفال وخصَّهم، وهذا المعنى هو ما أرادته المخرجة كاستعارة لمحتوى فيلمها الذي يتنبأ بالفوضى والخراب والدمار.

” في شخصية زين الكثير من الإحالات أو الإسقاطات التي أرادتها المُخرجة أن تُلامس بعض جوانب شخصية المسيح

 “زين” (زين الرفيع) في الثانية عشرة من عمره، ربما في شخصيته الكثير من الإحالات أو الإسقاطات التي أرادتها المُخرجة أن تُلامس بعض جوانب شخصية المسيح، حيث الحكمة والنضج والتَبَصُّر حتى وإن لم يكن الأمر كذلك، فمن الصعوبة التغافل تماما عن مدى حكمة وبلاغة وطلاقة وفصاحة ووعي هذا الصبي. صحيح أنه تربى منذ صغره في الشارع حيث يعمل لإعالة أسرته، ومن ثم فقد نضج قبل أوانه، لكن النُضج واكتساب خبرة الحياة شيء، والبلاغة والحكمة والنضج وغيرها من سمات الشخصية شيء آخر تماما، ومن الصعوبة تقبُّلها لا سيما من صبي رأينا كيف نشأ وتربى، وتعرفنا على ماهية المُحيط من حوله.

تلك المُشكلة مع الأسف، ليست مُشكلة شخصية “زين” فحسب، بل كل الشخصيات أيضا، ربما باستثناء شقيقته “سحر” (سيدرا عزام)، وهي في الحادية عشرة من عمرها.

والد زين ووالدته –وعموم شخصيات الفيلم- يُفترض أنهما لم ينالا أي قدر من التعليم، وظروفهما الحياتية والمعيشية البائسة جلية للعيان، ومع ذلك ينطق لسانهما بمُفردات يندر سماعها في حياتهما الواقعية. تلك المُشكلة في الحقيقة ليست مُشكلة فيلم كفر ناحوم فحسب، بل تنطبق على الغالبية العظمى من أفلام السينما العربية التي تنطق شخصياتها بمُختلف أعمارها ومُستوياتها بما لا يتفق مع تركيبتها ولا مُحيطها، ورغم ذلك فإن شخصية “زين” مرسومة على نحو جيد بعض الشيء مُقارنة بغيرها، والعلاقة بينه وبين شقيقته “سحر” من أجمل وأصدق ما نُلاحظه في الفيلم فيما يتعلق بالعلاقات بين أفراد أُسرة زين الكبيرة العدد.

البناء الفيلمي وتقنية الفلاش باك

تُعتبر الجوانب الجمالية والفنية في فيلم كفر ناحوم من أضعف وأكثر الجوانب المُثيرة للارتباك فيه، بصرف النظر عن اللقطات الافتتاحية للفيلم التي لن يستوعب المُشاهِد دلالاتها إلا قرب نهايته، هذا إن تذكرها أصلا خاصة وأن الفيلم تزيد مدته على الساعتين.

ثمة مُشكلة كبرى في بناء الفيلم ليس مردُّها أنه يعتمد على بنية غير خطية في سرد الأحداث، ولا أنه في أكثر من موضع يمزج السينما التسجيلية بالروائية أو يتأرجح بين هذه وتلك، بالعكس، المُشكلة في نظرنا تكمن في الارتكان لتقنية “الفلاش باك” أو العودة زمنيا إلى الخلف الضعيفة جدا فنيا وجماليا في بناء الأفلام، خاصة مع الإفراط فيها. في الفيلم، لم تُفرط نادين لبكي في استخدامها فحسب، بل أيضا في امتدادها الزمني لدرجة أنه قُرب انتهاء الفيلم سنُدرِك أنه عُبارة عن مجموعة بالغة الطول من “الفلاش باك” والمُنفذة بشكل سيئ.

علاقة جمالية وإنسانية نسجها الفيلم بين “زين” والطفل “يوناس”

مع الدقائق الأولى للفيلم، حيث يقف زين أمام القاضي مع مُحاميته نادين لبكي ووالديه، وهو بالأساس يقضي خمس سنوات عقوبة في سجن للأحداث -نعرف لاحقا سببها- نجِدُه يُطالب القاضي بمُقاضاة والديه لأنهما أنجباه وجاءا به إلى الحياة. لاحقا نكتشف أن مَشاهِد المُحاكمة القصيرة التي تَرُدّنا إليها المُخرجة بين كل فلاش باك وآخر –بعدما نكون قد نسيناها– هي مُجرد متكأ أو حيلة كي تسرد بينها أحداث الفيلم، وبالطبع تنتهي الأحداث دون معرفة تفاصيل أو ما انتهت إليه القضية. وهذا ليس مهما نظرا لكونها مُجرد مدخل لسرد أحداث الفيلم. بالتأكيد لو حذفت نادين لبكي مُونتاجيًا تلك المَشاهِد التي يُبدو أنها أُعجِبَت بها في حد ذاتها نظرا لغرابتها واستعاضت عن “الفلاش باك” بسرد خطي أو حتى جعلت الفيلم كله “فلاش باك”، لكانت بنية العمل الفنية أكثر قوة وإحكاما ولا تُسَبِّبُ أي ارتباك.

عبر الفلاش باك، نرى كيفية تَشَكُّل شخصية “زين” وعالمه وأسرته وعلاقته بشقيقته وحبه لها وخوفه عليها ومُلاحظته لاهتمام الشاب صاحب عمله بشقيقته، ثم لاحقا تقدمه لخطبتها وبعد ذلك الزواج منها وانتهاء بوفاتها. كذلك رحلة هروبه من المنزل عقب المُشاجرة مع الأهل، وضربه المُبرح من جانب أمه نظرا لاعتراضه على تلك الزيجة.

أيضا في أطول فلاش باك بالفيلم –يُمكن اعتباره الأقوى والأجمل فنيًا، فهو قوام الفيلم، ولو اقتصر “كفرناحوم” عليه مع بعض الإضافات لاقترب العمل من كونه فيلما فنيا وإنسانيا رفيع المستوى– نرصد العلاقة بين “زين” والعاملة الإثيوبية والمقيمة غير الشرعية التي آوته “رحيل” (يوردانوس شيفراو)- ثم لاحقا بينه وبين ابنها “يوناس” (تريجر بنقوله)، بعد اختفائها المُفاجئ.

ورغم ما نسجته المُخرجة من علاقة جمالية وإنسانية في هذا الجزء بين “زين” والطفل “يوناس”، وكل ما تَحَمَّلَه وبَذَلَه “زين” من أجل رعاية الطفل والاهتمام به، نجد السيناريو في النهاية يُفسد كل هذا، فقد قَبِلَ “زين” -الإنسان الناضج الحكيم الحنون الذي كان بمثابة الأب لشقيقته ولـ”يوناس”- بما عارضه وما لم يرتضيه لشقيقته منذ البداية وكان السبب وراء فراره وضياعه في الشوارع، وما أدى لاحقا لارتكاب جريمته والقبض عليه، ونقصد به بيع شقيقته أي تزويجها للشاب “أسعد”.

صحيح أن البيع الأول كان تحت مُسمى الزواج ولم يكن ضالعًا فيه، وحاول قدر استطاعته إيقافه، بينما البيع الأخير ونقصد به بيعه للطفل “يوناس”، فيقوم به أساسا لمصلحته الخاصة كي يحصل على 500 دولار تُساعده في الهروب من البلد ومن الفقر والمصير المأساوي إلى السويد أو غيرها من البلاد الأوروبية الغنية التي لم يسمع بها من قبل. تلك النُقطة في بناء هذا الجزء تتعارض وتركيبة “زين” التي جرى تقديمها على امتداد الفيلم. أما ميله للعنف وحِدَّته وعَصَبيته ورغبته في الانتقام لشقيقته والذهاب لقتل “أسعد” فمُتَّسِقَة مع بناء الشخصية.

أكثر من كاتب سيناريو ولكن!

“كفرناحوم” مال للتبسيط المُخلّ في الكثير من جوانبه الأخرى مع الأسف، وإلى اللجوء للعديد من كلاشيهات السينما العربية المحفوظة، مردّ هذا كله بالأساس للضعف الملحوظ في أكثر من مكان بالسيناريو الذي كتبه أكثر من ثلاثة كتاب. وبخلاف تجلي هذا في بناء الشخصيات الرئيسية أو المواقف، ثمّة كوارث في العديد من الجمل الحوارية على لسان الشخصيات التي فاقت الخطابية والكلاشيهات والمباشرة الفجّة.

بصريا يعد فيلم كفر ناحوم أكثر تركيبا وتعقيدا من أفلام نادين لبكي السابقة.

مثلا حديث الأب “سليم” (فادي كامل يوسف) والأم “سعاد” (كوثر الحداد) أمام القاضي عن ظروفهما ونشأتهما وحتمية أن يكون هذا مصيرهما ومصير أولادهما الذي لا فرار منه، أو وصف الأم لقسوة الحياة والمعيشة والغلاء وقلة المال إلخ، ثم وصفها لأبنائها قائلة “هول أولادي، زهرة حياتي”.

والفيلم مليء بالكثير خلاف هذا، وهو ما أثقل الفيلم بالفعل، وكان من السهولة البالغة التخلص منه وإحكام بناء الفيلم وإيقاعه وزمنه وشخصياته وحواراته، وحتى محورته حول قضية واحدة تصبُّ باتجاه اجتماعي وسياسي وإنساني –وفي قالب فني– أكثر قوة وعُمقًا وبراعة مما شاهدناه وعجزت المُخرجة عن الارتقاء إليه.

بصريا يعد فيلم كفرناحوم أكثر تركيبا وتعقيدا من أفلام نادين لبكي السابقة، وكما أسلفنا يعتبر خطوة إلى الأمام في مشوارها، تجلّى هذا في أكثر من موضع خاصة فيما يتعلق باختيار الأماكن الخارجية والتصوير بصفة عامة (تصوير كريستوفر عون) حيث التوظيف المُتعدد للكاميرا والتنويع المُتباين والجيد في العديد من اللقطات، وكذلك إضاءة أكثر من مشهد لا سيما المشاهد الداخلية، وهذا كله يعني المزيد من التطور فيما يخص التفكير والجهد والاختيار الفني والحسّ البصري للمخرجة وتَجَنّب الأخطاء لاحقا.


إعلان