أبطال الدولار.. عبودية كورية غير مرئية

لجأ المخرج الألماني “كارل غيلستوفر” ومساعده “سباستيان ويس” إلى أساليب “غير عادية” من أجل فضح التعتيم على حركة بيع قوة عمل الكوريين الشماليين الرخيصة إلى بلدان أخرى
لم يتوقع “تاي يونغ هو” نائب سفير كوريا الشمالية في لندن أن يفتح هروبه وبعض العمال المشتغلين بالسُخرة إلى كوريا الجنوبية أنظار العالم على قضية “العبودية الكورية”، فلطالما حرص نظام “بيونغ يانغ” على أن تبقى هذه القضية خلف الأضواء وفي إطار حديدي من السرية والتكتم، وذلك أنها واحدة من مصادر حصوله على العملة الصعبة التي سعى المجتمع الدولي إلى منع وصولها له خوفاً من توسعه في صناعة الأسلحة النووية المحظورة.
وبسبب السرية والتعتيم الشديدين على حركة بيع قوة عمل الكوريين الشماليين الرخيصة إلى بلدان أخرى مثل الصين وروسيا وبولندا، وذهاب أغلب ما يحصلون عليه بشقاء إلى جيوب قادتهم السياسيين، لجأ المخرج الألماني “كارل غيلستوفر” ومساعده “سباستيان ويس” إلى أساليب “غير عادية” من أجل فضحها، كالتنكر بشخصيات رجال أعمال وهمية والتصوير بكاميرات مخفية عن الأنظار قامت بنقل تفاصيل الاستغلال البشع لعمال فقراء هُدرت سنوات طويلة من حياتهم في أعمال سُخرة خارج وطنهم، وتُعيد بشاعاتها إلى الأذهان ظروف عمل “العبيد” والاتجار بهم في مراحل مختلفة من تاريخ البشرية، مع فارق أن العبودية الكورية الشمالية تتستر عليها دول وشركات بعضها غربية اشتركت في مص دمائهم دون رحمة.
“أبطال الدولار.. عملات أجنبية للدكتاتور“
لهذا اكتسب فيلم “أبطال الدولار.. عملات أجنبية للدكتاتور” طابعا وثائقيا استقصائيا شجاعا يفسر حماسة اشتراك مؤسسات إنتاجية كبيرة في دعمه، مثل قناة “زد دي أف” الألمانية و”آر تي” و”بي بي سي” وغيرها، وتفسر أيضا سبب اقتراحها توسيع فكرته لتشمل مساحات أخرى من العالم، يجمعها عنوان شامل يعبر عن مضمونها: “لماذا العبودية؟”.
ناهيك عن اسم مخرجه المعروف بقدرته على خرق أكثر جدران “المنع” عُلوا ومتانة كما رأينا في فيلميه “نهاية أكتوبر الأحمر (2010)”، و”نحن نريد لك أن تعيش (2015)” الذي توقع فيه مبكرا احتمال عودة وباء “إيبولا” ثانية إلى القارة الأفريقية بعد اكتشافه حجم الفساد الدولي في “القضاء” عليه ومساعدة عوامل داخلية كثيرة على بروزه من جديد.
من كوريا الجنوبية انطلقت رحلة الوثائقي “أبطال الدولار.. عملات أجنبية للدكتاتور” الممتدة لأراض وبلدان أخرى، وفي عاصمتها “سول” يقابل مساعد المخرج “سباستيان” أحد العمال الهاربين من “العبودية”، ليحكي له جزءا يسيرا مما عاشه في الصين وسيبيريا. وقد قَبِل الحديث معه لأنه أَمَّن عائلته معه ولم يعد خاضعا لتهديدات سلطات بلاده بأخذ عوائل العمال “المتطوعين”، فسول تسمي من ترسلهم إلى الخارج للعمل لمصلحتها رهائن، إذ إنها تضغط عليهم بمن تبقى من أهاليهم في البلاد وتهددهم باعتقالهم في حال ظهر منهم ما لا ترضاه من سلوك اعتراضي.
يتحدث العامل الهارب من أعمال السخرة موضحا أن حكايته بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، يوم أُرسل إلى سيبيريا للعمل في حقل البناء هناك، فساعات عمله كانت تمتد إلى أكثر من عشر ساعات يوميا دون استراحة، وخلال سبع سنوات قضاها هناك لم يتمتع بأي إجازة سنوية، وأكثر من 90% من راتبه استلمه نيابة عنه عميل السلطة الموجود في مواقع العمل الذي أنيطت به مهمة ترتيب عمليات تحويل الرواتب بالعملة الصعبة إلى سلطات بلاده.
وبالتجربة، فإن المتبقي من سنوات الكدح ضئيل جدا، إذ بخّرت قلّته الأحلامُ الكبيرة بتحويل مبالغ جيدة من المال إلى العائلة في الوطن. وبدلا من ذلك اكتشفوا مع الوقت أن ما جَنوه مقابل عَرَقِهم وشقائهم ليل نهار ذهب إلى جيوب الطبقة الحاكمة التي صرفته على ترفها وبذخها، وعلى سياسات تسلح نووي يُراد بها إشباع طموح القائد “المعبود”.
يُقابل مساعد المخرج -وفي المكان نفسه- سفيرا هرب من الشمال إلى الجنوب. فقد ساعد قُرب هذا السفير من السلطات على عرض صورة واضحة لكيفية خرق نظام “كيم جونغ أون” حصار الأمم المتحدة الهادف إلى منع حصوله على عملات صعبة تعينه على بناء ترسانته النووية، ومع ذلك ظلت العملات الصعبة تصله من مواطنيه المُغيبين عن الصورة والذين لا يُعرف الكثير عنهم ولا عن أجورهم المنهوبة التي تأخذ أسماء تمويهية ودعائية عدة من بينها “ضريبة الحزب”.

عمالة كورية.. إجحاف روسي
المعلومات المتحصلة ستقود الوثائقي إلى روسيا، وفي مدينة قريبة من الحدود الصينية الكورية سيصل إلى عمال كوريين يعملون في حقل البناء بكتمان وسرية، وبعد دقائق قليلة من وصوله جاءت الشرطة وطالبته بالخروج من المكان.
وفق اتفاقات رسمية يتكتم على بنودها الطرفان، تتم عملية تشغيل الكوريين في المناطق الروسية بشروط مجحفة لا مصلحة لطرفيها في كشفها أو إذاعتها، لكن الوثائقي استطاع كشف واحدة من أكثر أشكالها غير الإنسانية، فبعد العمل النهاري المتعب يذهب العمال ليلا للعمل بصمت وفي العتمة في بناء وحدات سكنية بأجور زهيدة ولساعات طويلة.
السكن الجماعي الذي يقيم به هؤلاء العمال بائس ومراقب ولا يحق لأحد الخروج منه. وعند أوان تسليم الأجور تُدفع إلى وكيل الدولة من مديري الشركات الروسية مباشرة. أما العامل فليس أمامه سوى الخضوع لرغبة الدولة وقائدها الذي يعد وجودهم في الخارج مِنَّة منه وخدمة للنظام “الاشتراكي” و”تضحية وطنية”.
عدد العاملين بالسخرة في الخارج سري، لكن مجريات الأحداث وفي كل مرحلة من مراحلها تعرض أرقاما تأخذ في التصاعد مع مرور زمن الوثائقي المعتمِد في الأساس على تقصي الحقائق وجمع أكبر كمّ من المعلومات وتقديمها بأسلوب سينمائي ممتع.
وعدا الخرائط والإحصاءات المتحركة، هناك البحث المعلوماتي الموازي للبحث البصري المنجز في أغلبه بسرية وبكاميرات وأجهزة صوت مخفية، وبالتالي كانت الصورة متباينة المستوى، في الخارج مُشبعة بالوضوح، أما صور الحوارات الداخلية فمهزوزة، أولوياتها نقل الحقائق لا الجماليات.

الكوريون.. عمالة تُزاحم السوق الصينية
في الصين الأرقام هي الأكثر لقربها من كوريا الشمالية، ولفتح أبوابها أمام العمالة الخارجية الرخيصة. وعلى الرغم من قلة ما يحصل عليه العامل الصيني، يعد دخل الكوري بالمقارنة به ضئيلا، لهذا يفضل أصحاب الشركات التعامل مع “المتطوعين” وبشكل خاص النساء اللواتي يعملن في حقول تحتاج إلى صبرهن ودقة عملهن اليدوي.
ففي معمل لتعليب الأسماك تعمل كوريات ليل نهار، يسكنّ في “أكواخ باردة” قريبة منه تسهيلا لوصولهن بسرعة إليه، لا يعرفن شكل المال، فكله يذهب إلى وكيل الحكومة.
وفي تسجيل سري له، يكشف الوثائقي في حديث للوكيل نظرة النظام إلى هؤلاء “العبيد”، إذ يعتبر أن مجرد سفرهم للعمل في الخارج خدمة جليلة مُقدَمة لهم، فليس بمقدور جميع الناس في كوريا الخروج من البلاد، وحتى لو استلموا 7٪ من أجورهم، فهذه نعمة يتفضّل بها النظام عليهم، أما الذين يموتون أو يتعرضون لحوادث عمل فإنهم يدفعون بذلك ثمن ما يحصلون عليه.

حتى أنتِ يا أوروبا!!
تلك النظرة ليست حصرا على الصينيين والروس وحدهم، فحتى بعض الأوروبيين وجدوا في العمالة الكورية الشمالية المرسلة إليهم بالسر فرصة ليتهربوا من التزامات صارمة تفرضها نقابات العمال عليهم.
ففي الموانئ البولندية يُشَغل أصحابها العمال الكوريين ويفضلونهم على العمالة الوطنية الواعية لمصالحها وحقوقها. وبفضل العمالة الكورية بقيت بعض هذه الشركات البولندية صامدة رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، وذلك بسبب حدة التنافس مع موانئ وشركات صناعة سفن غربية أخرى.
تنتحل إحدى مساعدات الوثائقي صفة وسيطة بين الشركات الخاصة ومكاتب العمل البولندية، وتسأل عن إمكانية حصولها على عمّال كوريين، حيث لم تجد صعوبة في الوصول إلى المسؤولين عن تشغيلهم. لكنها واجهت غموضا فيما يتعلق بموقف الدولة البولندية الرسمية منهم، ففي خرق واضح لكل معاهدات الوحدة الأوروبية، تساعد وزارة الخارجية البولندية كوريا الشمالية في نقل “عبيدها” إلى بولندا والتستر على وجودهم فيها.
لم يحصل الوثائقي على أجوبة مباشرة من مسؤولي بولندا، لكن الحقائق المتحصلة تؤكد التواطؤ بين السلطات البولندية والكورية، وتعاونهما معا على “المتطوع” المسكين الذي لا يعرف سوى العمل المجاني في بلاد أجنبية وفي ظروف غير إنسانية.
الكشف البولندي لحقه كشف آخر أشد خطورة، يتمثل في تسهيل نقل أجور العمال بطرق بنكية غير شرعية، فغالبا تتم عملية النقل عبر البريد الدبلوماسي، وتساعدهم البنوك البولندية عبر تسهيل الدفع للوكلاء الرسميين نقدا، ليأخذها الدبلوماسيون بأنفسهم لاحقا عبر رحلات جوية إلى “بيونغ يانغ” مباشرة دون تفتيش أو تدقيق، وفي حالات أخرى يتم تحويلها عبر البنوك الصينية التي بدورها تسهل نقلها إلى الكوريين، وهكذا تصل أموال شقاء العبيد إلى أسيادهم بيُسر وسهولة.