ليالي أوجيني واختفاء وفوضى.. دراما جيدة لم يتابعها أحد

أسماء الغول

تعيد الآن بعض الفضائيات بث المسلسلات العربية التي لم تلقَ شهرة وصدى خلال موسم دراما رمضان الأخير ولم ينتبه إليها كثيرون.

تعيد الآن بعض الفضائيات بث المسلسلات العربية التي لم تلقَ شهرة وصدى خلال موسم دراما رمضان الأخير ولم ينتبه إليها كثيرون، ربما لفرط هدوئها رغم الصراعات الاجتماعية القوية التي فيها، لكنها تبدو خافتة أمام مسلسلات “الآكشن” ومحاربة الإرهاب والغموض التي تم عرضها وقتها. لذلك ربما تكون فترة ما بعد رمضان أفضل وقت لمشاهدتها، والمفاجأة اكتشاف أنها كانت من أفضل المسلسلات وتستحق المتابعة، وأبرزها المسلسلان المصريان “ليالي أوجيني” و”اختفاء” والمسلسل السوري “فوضى”.

 

“ليالي أوجيني”.. مصر أواخر الأربعينيات

يتناول المسلسل قصة بسيطة بين اثنين يقعان في الحب، لكن التحدي في المسلسل وسر براعته هو تناوله قصة الحب في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي داخل مصر، وتصويره الاختلاط الاجتماعي والديني والعرقي والهوياتي الشديد بين سكان مصر -وفي منطقة بورسعيد تحديدا- دون أن تُرفع في المسلسل أي شعارات لقوميات معينة، أو يُتحدث بالسياسة أو يُشار إلى أن “هذا يهودي” و”تلك إيطالية” كما فعل مسلسل “حارة اليهود” على سبيل المثال، بل يكتشف المشاهد ببساطة خلفيات الشخصيات ضمن الحوارات العادية التي لا تعبر عن أي تأزم، فقد جمعتهم وقتها مصر المزدهرة اقتصاديا، وأجواء الحرية وتقبل الآخر.

سرعان ما تتعلق بأجواء المسلسل كأنك بينهم في ذلك العصر؛ تجلس في ذلك المقهى، تشم رائحة “الكرواسون” الساخن من يد الإيطالية “صوفيا” الذي تؤديه الممثلة آنجي بموهبة فذّة كعادتها، وقد تسمع صوت النوارس من على ميناء بورسعيد وأنت تراقب البحر.

إنه يصور الحب في زمن آخر ووقت آخر وحرية أخرى تُظهر مدى التناقضات والتردي الذي تشهده مصر في الوقت الحالي، وكأن هذا التردي جعل الجميع يرغبون بالعيش في الماضي، وهكذا فعل صناع المسلسل ليسحبوا الجمهور معهم في آلة الزمن “ليالي أوجيني”.

قصة المسلسل هي –باختصار- عن هروب “كاريمان” من زوجها “إسماعيل” الإقطاعي الثري والقاسي، لتعيش في بورسعيد مع المطربة الناشئة “جليلة” التي تؤدي دورها أسماء أبو اليزيد، وقد كان دورا أضعف من إمكانياتها الكبيرة التي برزت في مسلسل “هذا المساء” الذي عُرض في رمضان العام الماضي 2017.

يتناول المسلسل قصة بسيطة بين اثنين يقعان في الحب، لكن التحدي في المسلسل وسر براعته هو تناوله قصة الحب في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي داخل مصر.

ويعالج الطبيب “فريد” إصابة “كاريمان” بعد شجارها مع زوجها، ويؤدي دوره الممثل ظافر العابدين الذي أبدع كالعادة، وكان محاطا بمجموعة من الممثلين والممثلات لا يقلون إبداعا عنه، وبإشراف مايسترو العمل المخرج هاني خليفة الذي لم تتسرب منه أي أخطاء إخراجية تتعلق بالزمن أو الأداء أو السيناريو كما حدث في بقية المسلسلات.

وتقع “كاريمان” -التي تؤدي دورها الممثلة أمينة خليل- في حب الطبيب الذي يكون متزوجا من أرملة شقيقه، وهكذا تسير الحلقات بنفس الرتم الرومانسي الهادئ الجميل الحزين حينا والسعيد حينا آخر.

ومن المهم الإشارة إلى أن المسلسل يتناول الطبقات الاقتصادية في ذلك الزمن بذكاء، دون لازمة الدراما المصرية من احتقار الفقير، والصراع ذاته الذي لا ينتهي بينه وبين الغني، بل يخلط الطبقات باندماج يبدو كالحلم، ويعكس الطبقة المتوسطة بأرستقراطية، ويفرض احترام الفقير والعامل، كما أنها دراما تقدم نماذج قوية لمجموعة من النساء من مختلف هذه الطبقات وفي زمن قديم دون الحاجة لرفع أي شعارات نسائية.

كان للمسلسل جمهوره خلال رمضان لكنه ضعيف، فالغالبية لم تصبر على الرتم الرومانسي أمام عشرات مسلسلات الغموض والجريمة والسرعة والثأر، لكنه حظي بما يستحقه بعد رمضان.

لا أحد يعلم السبب وراء فشل مسلسل الممثلة نيلي كريم جماهيريا في رمضان هذا العام، فلم يحقق ما يحققه تفردها الدرامي عادة.

“اختفاء”.. هل فشلت نيلّي كريم؟

لا أحد يعلم السبب وراء فشل مسلسل الممثلة نيلي كريم جماهيريا في رمضان هذا العام، فلم يحقق ما يحققه تفردها الدرامي عادة، ربما لأن المسلسل قصته معقدة نوعا ما فلا تستطيع متابعته من أي حلقة تصادفها بل يجب أن تكون متيقظا له منذ الحلقة الأولى كي تفهم حكاياته الشديدة التداخل. وربما لأن الناس أرادت أن ترتاح من بعض النجوم الذين يظهرون بشكل دوري ومكثف على شاشة التلفاز ومنهم نيلي كريم، وربما لأنه عادة ما تكون المسلسلات التي يلعب فيها الممثل الرئيسي دورين أقل متابعة من غيرها.

في كل الأحوال لهذه الأسباب وغيرها لم ينتبه كثيرون خلال رمضان لمسلسل “اختفاء” الذي يتناول حكاية دكتورة “فريدة” التي تُدرّس في جامعة بروسيا كمبتعثة، لكنها تعود فجأة إلى مصر بعد معرفتها أن زوجها الروائي “شريف عفيفي” (يؤدي دوره الممثل هشام سليم) أفاق أخيرا من غيبوبة نتجت عن حادث متعمد، وحين تصل تجد أن زوجها اختفى وغاب عن حياتها من جديد دون أن تعرف مكانه.

وتكتشف فريدة أن زوجها شريف عفيفي واجه هذه المعضلات بعد أن كتب رواية عن امرأة تدعى نسيمة عاشت في ستينيات القرن الماضي سعيدة مع زوجها الفنان التشكيلي، لكن جارها المهووس بالتجسس عليهما بأوامر جهاز المخابرات المصرية؛ يقع في حبها ويقتل زوجها الفنان، وتتهم الرواية رجل أعمال يدعى سليمان عبد الدايم -الذي لا يزال على قيد الحياة- بأنه الضابط ذاته الذي قتل زوج نسيمة.

وتلعب دور فريدة التي تبدأ رحلة البحث عن زوجها الممثلة نيلي كريم، ويبدأ المسلسل بالانتقال ما بين قصتها وقصة الرواية دون سرد رجعي، بل يسير السرد الدرامي في زمنين؛ الزمن الحاضر للمسلسل وزمن الرواية الذي تؤدي فيه نيلي أيضا دور نسيمة التي يُقتل زوجها ويتقرب جارها منها.

ويظهر في المسلسل الجو الثقافي والفني المنفتح في ستينيات القرن الماضي، ومحاولة أجهزة أمن الدولة التحكم بهذا الجو وفنانيه وتشويه سمعتهم، وهو ما يُذكّر تلقائيا بتاريخ الممثلة سعاد حسني. وقد أخرج المسلسل أحمد مدحت باحتراف لم يكن ثابتا في جميع الحلقات.

 

 

 

خلل درامي.. هل أخلّ بالمسلسل؟

من مشكلات المسلسل عدم وجود تبرير في السياق الدرامي للأحداث، فحين تبدأ فريدة بالبحث عن حقيقة أحداث رواية زوجها، يشير الأشخاص الذين تقابلهم إلى الشبه الشديد بينها وبين نسيمة على الرغم من أنها ليست ابنتها، كما أن فريدة ونسيمة في لحظة الذروة لا تلتقيان، وتكون الأخيرة قد اختارت العيش في دير بعيد للراهبات.

ومن السهولة ملاحظة أن السرد الدرامي للمسلسل في زمن الرواية -ألا وهو الماضي- أقوى بكثير من السرد الدرامي في زمن الواقع، فأداء كل من هشام سليم والفنانة بسمة كان ضعيفا ومبالغا فيه، ولا يليق بتاريخهما الفني، على عكس عبقرية أداء الممثل محمد ممدوح في دور الضابط المهووس سليمان عبد الدايم خلال شبابه، أما أداؤه للدور خلال شيخوخته أو في زمن المسلسل الحاضر الذي يحاول فيه التخلص من كاتب الرواية فقد كان أضعف بكثير، إضافة إلى أن مكياج الشيخوخة كان شديد السذاجة وغير مقنع.

تلك الحلقات التي تكتشف فيها نسيمة الهوس المخبوء للضابط وكرهه لزوجها الفنان وكيف قتله؛ تخطف الأنفاس، فتجد غرفة سرية حيث كان سليمان يتجسس على حياتها مع زوجها لسنوات، حتى بعد أن تزوج الضابط منها بقي في هذه الغرفة يتسمع إلى حديثها مع صديقاتها ومكالماتها عبر الهاتف الأرضي.

إلا أن الرابط المنطقي لحبكة المسلسل يبقى مفقودا؛ فلماذا كانت زوجة صاحب الرواية أي الدكتورة فريدة شديدة الشبه ببطلة الرواية في الواقع نسيمة، وما علاقتها بها؟

ربما هذا الخلل الدرامي يتم تفسيره حين نعرف أن المسلسل أحداثه مأخوذة من رواية “متربول” للأديبة ريم أبو عيد التي تتحدث عن تناسخ الأرواح وعودة الأحداث في أزمنة مختلفة، وهو الجزء المحذوف في المسلسل مما جعله معلقا في الهواء لا تعرف سبب وقوع أحداثه.

 وقد قدمت الأديبة أبو عيد شكوى قضائية ضد شركة “العدل غروب” تتهمها فيه بسرقة روايتها وسيناريو أحداثها التي كتبتها في عشر حلقات وأودعته في إدارة حقوق الملكية الفكرية بوزارة الثقافة المصرية، لكن الشركة أنتجت المسلسل دون الرجوع للكاتبة، ووضعت اسم سيناريست آخر تابع كتابة الحلقات.

حلقات مسلسل "فوضى" تم تصويرها في دمشق، أي تحت عين النظام وبعد موافقته وضمن رقابته، وتم عرضها على قنواته فقط.

“فوضى”.. سوريا من الداخل

سلطت عدد من القنوات الألمانية الضوء على مسلسل “فوضى” السوري حين لاحظت أن نسبة مشاهدات عالية للمسلسل على “يوتيوب” وصلت في بعض الحلقات إلى نصف مليون، أغلبها من اللاجئين السوريين في ألمانيا خلال شهر رمضان الماضي.

ويبدو أن هذا الانتشار للمسلسل كان في خارج البلاد العربية، أما في داخلها فكان محدودا، ويفسره عدد من المتابعين على أنه حنين المهاجرين إلى سوريا، فهناك من كان يبحث عن حارته ومنزله في المسلسل خاصة في منطقة داريا التي دمرها النظام السوري، لكن تم عرضها وكأن جنود هذا النظام يقومون بعمل بطولي فيها.

وتم تصوير حلقات المسلسل في دمشق، أي تحت عين النظام وبعد موافقته وضمن رقابته، وتم عرضها على قنواته فقط. لكن هذا لم يمنع الذين فرّوا من بطش النظام ذاته أن يشاهدوا المسلسل في المهجر، فهو إلى حد ما يناقش قضايا الواقع الجديد في المجتمع السوري ومن ضمنها حلم الهجرة إلى أوروبا، وهو ما يجعل عددا كبيرا يرى نفسه في أحداث المسلسل.

لا يوجد بطل واحد في المسلسل أو حبكة رئيسية بل عدة أبطال وحبكات متشظية، مما يعبر عن حالة من الفوضى كما هو اسمه، فأبناء الحارة يعيشون في سلسلة من الحكايات والمصائر والحوارات المكررة أحيانا وغير المترابطة أحيانا أخرى، لكن هنا أيضا يكمن سرّ جاذبية المسلسل إذ أنه غير معقد وبسيط وارتجالي، مما يجعله يشبه الواقع والناس العاديين.

ويعرض المسلسل تمزق العلاقات الاجتماعية بعد التغييرات السياسية والاقتصادية الكبيرة للبلد؛ فهناك المحامي الذي تتم مساومته على أخلاقه، وتلك المُطلقة التي تحاول التحرر من سلطة ابنها، وهناك الشقيقان اللذان يتشاجران على حب المرأة نفسها، وشخصية أبو الخيل (يؤدي دورها الممثل فادي صبيح) الذي يعمل في ورشة تصليح السيارات لكنه يبيع المخدرات في السر، وسرعان ما يقع في حب جارته الجديدة التي لا تعلم مصير زوجها المختفي.

 

ما بين “الانتظار” و”فوضى”

وهذه الشخصيات بعشوائيتها تشعر أنها كانت على حافة الطبقة المتوسطة لكنها رجعت عنها لتعاني الفقر. وبالتأكيد هناك شخصية المثقف الذي لا يقبل الفساد لكنه في نهاية المسلسل يقنع نفسه به، عكس ما حدث في شخصية المثقف الصحفي في مسلسل “الانتظار” الذي بقي على مبادئه حتى النهاية وكان من بطولة تيم حسن وبسام كوسا ويارا صبري وعُرض عام 2006، وقد كتب كلا المسلسلين حسن يوسف ونجيب نصير.

كثيرون توقعوا أن “فوضى” إنما هو النسخة الحديثة من “الانتظار”، مع فارق أن المسلسل القديم لم يكن بحاجة ليعلن تأييده للنظام علنا، فلم يكن وقتها هناك ثورة تحتاج تقديم ولاءات عكسية ضدها.

يتشابه المسلسلان في الشخوص، والتصوير في مناطق حقيقية تعاني من أزمات حقيقية أيضا كالفقر والخيانة والغدر والمرض. لكن حلقات مسلسل “فوضى” غدت تشبه الواقع حتى في دعايته السياسية، فهكذا أراد المخرج سمير حسين أن يقدم العمل بعد اعتذار المخرج الليث حجو الذي أخرج “الانتظار” قبل 12 عاما، كما اعتذر عدد كبير من الممثلين والممثلات عن المسلسل، لكن بقيت فيه أسماء كبيرة مثل سلوم حداد، عبد المنعم عمايري وفادي صبيح وديما قندلفت وأيمن رضا ووفاء موصلي ونادين تحسين بك ووالدها الممثل حسام تحسين بيك.

كثيرون توقعوا أن "فوضى" إنما هو النسخة الحديثة من "الانتظار"، مع فارق أن المسلسل القديم لم يكن بحاجة ليعلن تأييده للنظام علنا، فلم يكن وقتها هناك ثورة تحتاج تقديم ولاءات عكسية ضدها.

يبدو أنه كانت هناك محاولات لتفادي الدعاية المباشرة ببعض العبارات العامة التي تظهر في تتر المسلسل كـ”المدن لا تشيخ بتعاقب العصور، المدن تشيخ بفعل الإهمال”. إلا أن ذلك التفادي يصبح هزليا مع وجود شخصية العسكري وهو زيدان (يؤدي دوره الممثل عبد المنعم عمايري) وتصويره في ساحة المعركة إضافة لكليشيهات وطنية يقولها: “لا تخافوا فأنتم في أياد أمينة” و”هذا هو الفحص الحقيقي” في إشارة إلى أن الثورة هي الامتحان الحقيقي.

وتتحول كلمات مثل “معارضة” في أول حلقات المسلسل إلى “إرهاب” في نهايته، ولولا هذه الإشارات السياسية الفجة ومشاهد الدمار الخادعة والضعيفة، لكان المسلسل جسد كامل الحنين و”الشام التي نحب”، لكن في الوقت ذاته من المستحيل إنتاج مسلسل تحت رقابة النظام دون أن يكون كذلك.

يبقى الرهان أثناء مشاهدة المسلسل على متابعة حكايات هؤلاء البشر، وسوريا التي لم نرَها من الداخل منذ سنين في ظل غلاء المعيشة والفساد وتفتت العائلات، وهي الإشكاليات الاجتماعية التي لا تختلف كثيرا عما كان يحدث في مسلسل “انتظار”، عدا أن شخصية أبو الخيل الذي كان من المفترض أنه منقذ الحارة لم يكن فاسدا في مسلسل “الانتظار”، وهي شخصية “عبود” الذي كان يسرق من أجل أن يوزع على أهل المنطقة الفقراء.


إعلان