اليمين الأبيض.. في مواجهة العدو

 مروة صبري

 

 

العنصرية في المجتمع الأمريكي حقيقة تزداد في المناطق ذات الأغلبية الساحقة من المسيحيين البيض، وهم على الرغم من كونهم الأغلبية إلا أنهم يشعرون بالتهميش، فالإعلام المحكوم من الليبراليين يعزلهم ويصورهم كسفهاء جهّال، وجُنّ جنونهم حين وصل أوباما ذا الأصل الإفريقي إلى البيت الأبيض، ثم أقرّ للشواذ الحق في الزواج متخطيا كل المعارضين وأصوات الناخبين في المحليات، فبدأوا يتجمعون دون أن يلاحظهم أحد خاصة بعد نتائج آخر تعداد رسمي للسكان في أمريكا عام 2010، والتي أشارت بأن أمريكا في طريقها لتصبح دولة أغلبيتها من الأقليات مع قدوم عام 2050، لذا وجدوا في دونالد ترامب المنقذ حامي الدين، وعلا صوتهم بالعنصرية قدوة به.

في الفيلم الوثائقي “اليمين الأبيض.. في مواجهة العدو” (White Right.. Meeting the Enemy) تقتحم المخرجة الأفغانية الأصل “ديا خان” معسكر اليمينيين العنصريين والنازيين الجدد ليجيبوها على سؤال واحد “هل هي العدو”؟

ولدت خان في النرويج حيث يتعرض المسلمون هناك لمضايقات عنصرية، وفي سن السادسة اصطحبها والدها لأول مظاهرة لها لينددا بالعنصرية ويدعوا للمساواة، فكان بديهيا أن تتجه خان إلى حقوق الأقليات وأن تعطي لهم قنوات للتعبير، فجعلتهم موضوع أفلامها الوثائقية الأربعة، كما أنشأت شركة فيوز (Fuuse) للإعلام والفن للنساء والأقليات وأبناء الثقافة الثالثة (وهم من تربوا في بلد غير التي تربى فيها والديهم وغير التي يحملون جواز سفرها).

نشأة المخرجة ديا خان في النرويج حيث يتعرض المسلمون للاضطهاد، جعلها تدافع عن حقوق الأقليات وترفض العنصرية وهي القضية التي يناقشها فيلمها

بشرة سمراء.. هل هي العدو؟

قالت خان في لقاء تلفزيوني معها إن إنجلترا لن تعود بيضاء مرة أخرى، وكذلك من يأتي من الدول الإسلامية عليه أن يعرف أنه لن ينقلها إلى الغرب، ودعت إلى الاتفاق على نموذج يتضمن الجميع.

هذا اللقاء أثار غضب العنصريين البيض فانهالت عليها الرسائل تشتمها وتهدد بقتلها والاعتداء عليها وتحتقر بشرتها السمراء، فدفعها ذلك لمقابلة أمثال هؤلاء الذين تخافهم ليجيبوا على سؤال واحد: هل هي العدو؟
ومنذ اللحظة الأولى في الفيلم يظهر “جيريد تيلور” (Jared Taylor) مؤسس ورئيس تحرير مجلة الصحوة الأمريكية وهو يتأكد من خان أن شعره مهندم للتصوير. وهذه اللفتة الإنسانية أظهرت تواضعا بعيدا عن عنجهية الدعاية للجنس الأبيض السائد وتبسطا بعيدا عن تصريحاته.

قدمت خان نفسها له كناشطة “نسائية ذات لون” (Woman of Color)، مسلمة يسارية ليبرالية، وبمراقبة تعبيرات تيلور نجده يتعجب من أنها مسلمة ليبرالية يسارية، وقال إنه لم يتوقع ذلك، وبمباشرة سلسة سألته: “هل أنا عدوتك؟” أجاب بقمة اللباقة والهدوء: لستِ في ذاتك عدوتي لكن ما تمثلينه سيؤدي إلى اختفاء قومي وثقافتي، ما يضايقني هو حين يخبرني مهاجر أو ابن مهاجر أن هذه البلاد لم تكن لولاهم، وكأن أجدادي بنوا كومة روث. أنا لا أشكك في نواياك ولكن سأستمر في عملي لأن ما تقومين به سيؤدي إلى اندثار قومي، ولا يوجد طريقة أخرى لرؤية الوضع”. وبانتهاء كلام تيلور نجد موسيقى تصويرية كالتي تصاحب حدثا جللا أو قوة غامضة.

يتبدل المشهد في الفيلم من تصوير داخلي إلى خارجي وبالعكس، بعض الحوارات جرت داخل بيوت قادة لليمين المتطرف في لحظة تحد لإنسانية المُشاهد والمُحاور والمتحاور معا. ففي بيت “كين باركر” (Ken Parker) الذي يتباهى بتاريخه مع النازيين الجدد ويتبنى تحية هتلر؛ قال -وهو يضحك في غرفة معيشته- إنه يؤمن بإبادة اليهود والشواذ عن آخرهم، بينما ظهر على وجهه عدم الارتياح حين قرأت عليه خان بصوت هادئ بعض الرسائل التي وصلتها ونهاها عن ترديدها، ولمّا سألته: هل ستستخدم مثل هذه الكلمات للحديث عمّن هم مثل شكلي؟ قال سأبذل جهدي ألا أستخدمها.

يرى مؤسس ورئيس تحرير مجلة الصحوة الأمريكية "جيريد تيلور" (Jared Taylor) أن وجود المهاجرين في بلاده سيؤدي إلى اندثار قومه وثقافته

قتل بيضاء على يد أبيض.. لأجل السود

بدأت خان رحلتها في ولاية فرجينيا وبالتحديد في تشارلوتسفيل، تلك المدينة التي شهدت أحد أكبر تجمعات النازيين الجدد وكي كي كي (Ku Klux Klan)، وغيرها من المنظمات المؤمنة بسيادية الرجل الأبيض، ولمن لا يعرف كي كي كي فهي “منظمة” -إن جاز التعبير- كانت تهاجم السود واليهود وكانت ضد تحرير العبيد أو حصولهم على أيّ من حقوقهم الإنسانية، بل كانوا يحرقون بيوتهم كما حدث مع مالكوم إكس، وعادة ما يأمنون العقاب، فهم فوق السلطة لسبب ما زال خافيا. هؤلاء حصلوا على تصريح للتظاهر، والتحق بهم ممثلون لهذا الفكر من الولايات المختلفة، كانت خان وسطهم وهم يحتفلون بهذا النصر، فلأول مرة يخرجون بهذا العدد في العلن وبحماية من الشرطة.

على بعد ميل واحد من الاحتفال، اشتبك العنصريون مع متظاهرين مناهضين للعنصرية، وعندها دخل يمينيّ متطرف في العشرين من عمره بسيارته وسط تجمهر الليبراليين وقتل متظاهرة؛ “هيذر هيير” (Heather Heyer) في الــ32 من عمرها، وجرح أكثر من 14، وأعلن حاكم فرجينيا على أثرها فضّ المظاهرات والقبض على كل من يخالف، كما أعلن حالة الطوارئ في الولاية.

هذا الحدث وإن كانت عدسة خان لم تشهده إلا أنها نقلته من تسجيلات عامة لتلك اللحظة التي تم فيها قتل أمريكية بيضاء على يد أمريكي أبيض اختلافا حول حقوق الأقليات، مما يعيد إلى الذهن تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب بشأن تحرير السود (1861-1865).

اقتحمت "خان" معسكر النازيين الجدد وكي كي كي، وغيرها من المنظمات المؤمنة بسيادية الرجل الأبيض، وكي كي كي "منظمة" كانت تهاجم السود واليهود وكانت ضد تحرير العبيد وعادة ما يأمنون العقاب

شخصيات الحوار.. البحث عن أكثرهم عداء  

أجرت خان لقاءات مع براين كولبيبار وجيف شويب ومايك شلووار، وجميعهم من الأسماء المعروفة في الحركة القومية الاجتماعية (National Socialist Movement)، أظهرتهم الكاميرا وهم يتدربون على الاشتباك وإطلاق الرصاص في حالة تربص لا داعي لها. فمن الغريب أن تكون في حماية الشرطة والجيش بل والرئيس نفسه وتشعر أنك الأضعف فتستعد للقتال مع أهل بلدك، لكن أليس هذا ما يحدث في البلدان العربية؟

أضع نفسي مكان ديا خان وأسأل نفسي هذا السؤال؛ لو كنت منفذة هذه الفكرة، فمن كنت سأختار للحوار؟ أجد الإجابة المنطقية هي أنني كنت سأبحث عمن هم أقرب للتفاهم وللآراء المعتدلة، وهذا بالضبط ما لم تفعله دية، بل إنها ذهبت لأكثرهم عداء، والعجيب أنهم وافقوا ودعوها لتحضير عدستها لمظاهراتهم، بل فتحوا بيوتهم لها، حتى وإن كانت آراؤهم ضد وجودها في بلادهم، فقد كسبت احترامهم بلباقتها وجديتها ومهنيتها وصدقها في التواصل. كانت تسأل بشكل شخصي ولا تقبل إلا إجابات شخصية، وإذا لم تحصل عليها كررت السؤال بهدوء أوضح يجبرهم على التفكير في إجابة يخجلون من أن تجرح مشاعرها.

كان ريتشارد سبينسر أكثر من أظهر كبرا في الحوار وبدا بعيدا عن أيّ نقطة تواصل، ولا أدري هل بسبب ثرائه ونفوذه لم يأخذ الحوار مجرىً دافئا، أم أن خان من كثرة عملها مع الفقراء أفردت لهم مساحة أكبر وإن بدوا على نفس القدر من العداوة لها؟

“دورك أن تموت يا أسوَد”

ليكتمل الفيلم، قابلت ديا خان بعضا من الذين تركوا طريق السادية البيضاء، من ضمنهم آرنو ميكاليس صاحب أغنية “دورك أن تموت يا أسود” الذي قال إنه وقتها كان يرى كل من ليس من البيض عدوا أتى ليمحيه من الوجود، ولكن تعاملهم الطيب معه غيّر تفكيره، فترك الجماعة العنصرية التي أسسها وأنشأ مشروع “التسامح”، ووضع يده بيد بارديب سينغ كاليكا الذي قُتل والده داخل معبد للسيخ على يد عنصري أبيض.

وكما يقول ميكاليس فإنه وكاليكا مختلفان على الورق متفقان في المبادئ، ولذا فإن عملهما معا هو نتاج طبيعي للمبادئ المشتركة.

الفيلم أعطى فرصة لليمين المتطرف للحديث عن مخاوفه، وما الذي دفع اليمينيين لإبداء هذه الكراهية الشديدة تجاه المهاجرين

الفن.. هل يخدم الكراهية؟

كبرنا ونحن نردد أن الفن والظلم لا يجتمعان، وأن الفنان مرهف الحسّ، فكانت الصدمة حين حدثت الثورات العربية، وأدركنا أن الكثير من الفنانين هم بوق الظالم ليس أكثر، وأن لديهم من الكراهية ما هو كفيل بتلويث مجتمع بأسره بل وإشعال الحروب الأهلية، ولا تشفي غلّهم الدماء ولا السجن ولا التعذيب.

وفي فيلم “اليمين الأبيض.. في مواجهة العدو” وجدنا كيف استخدم ميكاليس الفن لخدمة الكراهية، وبالبحث علمت أن قاتل والد كاليكا كان أيضا يغني. فالفن حقا سلاح ذو حدين.

جرب.. استمع لمخاوف من يخيفك

ما فعلته ديا خان هو أنها أعطت اليمين المتطرف فرصة الحديث من ��لقلب عن مخاوفه، وما الذي دفع اليمينيين لإبداء هذه الكراهية الشديدة. نعم، هم أيضا يخافون على ثقافتهم وعلى اختفاء البيض وعلى رزقهم من منافسة المهاجرين.

الخوف والكبر هما العدوّ الأكبر الذي يتلاعب به أي طاغية ليقدم نفسه على أنه المخلّص الوطني الحامي. الخوف لا منطق له، وهذا الفيلم يحاول إعادة الجميع إلى دائرة المنطق وجعلهم يستمعون لأول مرة لمن يخافون. خان بجرأتها غيّرت توجه اثنين ممّن قابلت وكسبتهما لصف الإنصاف، فهل يمكن أن يعلو صوت المبدع العاقل على صوت مثيري الفتنة؟

عند النظر إلى الإعلام العربي وحالة الاستقطاب وبث الكراهية في بعض الدول العربية ضد طائفة من الشعب نفسه، بل وشعوب ضد دول عربية أخرى، يُدرك المتأمل أن الإعلام المسيس لا يصلح لهذه المهمة الأخلاقية، فلطالما كان الإعلامي لسانا للحاكم لا للمحكومين.


إعلان