كيف سُقينا الموت في فيلم “طعم الإسمنت”؟
أسماء الغول

حين تندلع الحرب تذوق طعم الإسمنت مرتين؛ الأولى في بداية الحرب والثانية حين تنتهي. ومن لبنان التي انتهت فيها الحرب، يبدأ الفيلم الوثائقي “طعم الإسمنت” 2017 للمخرج زياد كلثوم، حيث إعادة الإعمار ورائحة الإسمنت وطعمه وصوته، وآلاف العمال الذين يقضون أعمارهم في مبان تحت الإنشاء ينخلون الإسمنت، يخلطونه بالماء، يصفّون حجارته ويصعّدون “السقالات” ليصنعوا جدرانا وغرفا وشققا ومرتفعات شاهقة، يبنون المباني بينما داخلهم انهدم في مدينة أخرى منذ سنوات، حيث كانت هناك المرة الأولى لتذوّق الإسمنت، لكن بمرارة أخرى تحت ركام الموت وليس بسبب مشقة العمل.
الإسمنت.. طعم الحرب ورائحة الموت
كان بإمكان المخرج زياد أن يروي الحكاية بهذه البساطة لكنه لم يفعل، بل خاض في جميع وجوهها. فهي ليست قصة العمال والإسمنت فقط أو الحرب فقط، بل أيضا حلم أحد هؤلاء العمال بزيارة البحر حين كان طفلاً دون أن يُحوّل المخرج هذا العامل إلى ممثل أو يجعله يتحدث، بل اقتصر على تعليق صوتي خارجي.
وقد بدأ هذا الصوت بالقول: “هناك لحظتان أحلم بهما كل ليلة، الأولى بعد أن عدتُ من المدرسة حيث دخلت البيت، شممتُ رائحة أبي وعرفتُ أنه قد عاد من السفر، فرِحتُ، فقد كنتُ مشتاقاً له وبدأت بالبحث عنه، لكن فجأة وجدت نفسي أمام بحر كبير على حائط مطبخنا، شاطئه أبيض وسماؤه زرقاء، ونخلتاه على الأطراف. كانت أول مرة أرى البحر في حياتي، ابتسمتُ وعرفت أن أبي قد أتى بالبحر معه من بيروت، اقتربت من الصورة أكثر ومددت يدي لألمس البحر، ارتفع الموج كثيراً، واهتزت النخلتان، سحبني الموج وغصتُ في البحر”.
بعد سنوات وصل الابن إلى بيروت لكنه لم يلمس البحر، فهو بعيد عنه لأجل العمل في البناء، يراه فقط من النوافذ غير المكتملة ليبدو وكأنه برواز آخر للبحر، يقول: “نوافذ البرج هي رابطنا بالمدينة؛ منها ننظر للبحر والسماء الزرقاء، المدينة وغيومها كأنهما ورق جدران حولنا”.
سرعان ما انزاح البحر في حلم هذا الطفل ليحل الإسمنت عوضا عنه، فيقول: “حين كان أبي يعود من بيروت، كنت أركض لأمسك يده طوال الطريق وصولا لباب البيت، كنت أشتم في يديه رائحة الإسمنت. بعد عشرين عاماً ترك أبي العمل في لبنان، وعاد لإعمار بيتنا في سوريا، وفي أول خمسة شهور من عودته بقي طعم الإسمنت عالقا في يديه وفي كل لقمة يحاول إطعامنا إياها، وعندما ذهب طعم الإسمنت عن يديه لم يعد أبي. الإسمنت يأكل الجلد وليس الروح فقط”.

أصبح الإسمنت حقيقة عِوضاً عن موج البحر، وحين تبادلَ الأدوار مع أبيه قال: “أعد لي حقيبتي للسفر وأعطاني مفاتيح بيتنا قالي لي: حين تدق الحرب طبولها يرحل العمال إلى بلد آخر انتهت الحرب فيه على أمل انتهاء الحرب في بلدهم حتى يعودوا إليها مرة أخرى لإعمارها، أبي.. أنا ما زلتُ أنتظر”.
استُبدل البحر بالإسمنت، لكن هذا الإسمنت ليس جانيا بل مجرد أثر آخر للحرب، الحرب التي جعلت قاع البحر مرسى دبابات قديمة تَشوه قبل أن يتهاوى الحلم به. ولم ينفع سوى أن يبقى منظرا بديعا وبعيدا في أفق مجموعة عمال بناء لا يخرجون إلى شوارع المدينة الجديدة، فنهاراً يعملون على المبنى، وليلاً ينامون في جوفه، وأقرب شيء عليهم لافتة في الشارع مكتوب عليها “تحذير: يُمنع تجول العمال السوريين بعد الساعة السابعة ليلا، وكل مخالف تؤخذ بحقه الإجراءات القانونية”.
الحرب سرقت البحر وحولت الإسمنت إلى ضماد للجروح بعد انتهائها، كما جعلته وحشا يكتم أنفاس الأبرياء، يجثم فوق صدورهم بعشرات الأطنان، يقول: “صوت الحفر بدا عاليا كثيرا، لم أستطع التحرك ولا الصراخ، فبيتنا كان قد سقط فوقي؛ في فمي وفي أنفي وفي عيوني، أناس تُنادي، لقد حفروا يوماً كاملاً إلى أن وصلوا لي.. ما زالت رائحة الإسمنت عالقة برأسي مع رائحة الموت. هربتُ وكانت عتمة، وفجأة وجدتُ نفسي في حفرة ثانية تحت الأرض، لحظة وصولي إلى بيروت قالوا لي: لا قصف هنا، لكن رائحة الإسمنت كانت في كل مكان.. وأنا كنتُ أعتقد أنني قد هربت!”.

الصورة وثورية الصمت
ذهب الفيلم إلى داخل البحر وداخل المبنى وداخل الإسمنت، وداخل أحلام هذا العامل وذكرياته، دون أن يعرض صورا متزامنة للتعليق الصوتي الذي هو النص الوحيد خلال الفيلم، فالتوثيق الكلاسيكي غير موجود سواء توثيق الصورة بمكانها وشخوصها وتاريخها، أو توثيق النص بصوره وأحداثه، كلاهما في عالمين مختلفين، لكن في الوقت ذاته هما وثيقا الصلة، تجمع بينهما ثلاثية البحر والإسمنت والحرب ودقائق الصمت أيضا.
لقد كان الصوت في الفيلم ثورة وتحدياً للمألوف، ففي الوقت الذي كان قويا في بداية الفيلم ومتمثلاً بصوت طرق محاجر الإسمنت في بيروت خلال صورة جوية، نجد هناك الكثير من اللاصوت، ولحظات أخرى لا تسمع فيها سوى الأصوات الداخلية لآلات البناء والمصعد الكهربائي المؤقت لتنقل العمال بين الطوابق، وأمواج البحر، وأخيرا هناك التعليق الصوتي الذي يروي الذاكرة والحاضر.
الصورة ثورية أيضاً فهي معادل موضوعي لكل ثيمات الفيلم دون تدرج، ودون أن تكون تبعا للتعليق الصوتي ولم يكن هذا مهما، فالصورة عبقرية غير مملة، مع أنه كان بالإمكان أن تكون، لكن ذلك لا يحدث ولو لثانية، فهناك لغة سينمائية عالية قد تشعر أحيانا أنها غلبت الدراما، إلا أن وعي المخرج بفيلمه وأين سيذهب، جعله يشده كل مرة من هيمنة الصورة ليعود إلى دراما الحكاية.

وقد وصل في رهانه على الصورة أنه جعل الحرب تظهر بعد الدقيقة الـ50 من الفيلم الذي تبلغ مدته 85 دقيقة، وكان بإمكانه ألا يفعل وسيبقى أيضا المتلقي مأخوذاً.
دخلت “الحرب” إلى الفيلم تصاعديا في مزاوجة المَشهد بين فوهة دبابة في الحرب في سوريا، وطرف الرافعة في ما بعد الحرب في لبنان. تتحرك الدبابة، تتحرك الرافعة، تطلق الدبابة قذائفها على المباني، يخلط العمال الإسمنت لبنائه، إنها لحظة الإسمنت، لحظة البناء، لحظة الهدم.. السياق يحددها؛ سياق الحرب والسلام وسياق المَشهد أيضاً.
تشعر أن الدبابة هي الشخصية الوحيدة في الفيلم التي تتحدث؛ وهو ما يجعل الرهبة مضاعفة فتذوق بنفسك وأنت تجلس في قاعة السينما تحت التكييف طعم الإسمنت في الموت والحياة.
هو مَشهد يعبر بقوة عن ثيمة ازدواجية طعم الإسمنت، والتي يحاول المخرج أن يظهرها طوال الفيلم في ثنائيات متناقضة: بنايتين متجاورتين واحدة جديدة وأخرى مهترئة من ضرب القذائف، الهدم والبناء، الثبات والحركة، الحرب والاستقرار، الخارج والداخل، العتمة والنور، البحر واليابسة، الغربة والوطن، تحت وفوق، الصمت والضوضاء.

من سماء بيروت إلى أنقاض سوريا
كن المُخرج زياد كلثوم لا يتركك تتوقع ما يريد أن يقدمه، وفي الوقت ذاته لا يتركك تضيع في فيلمه، فقبل أن ينقلنا لمزاوجة الرافعة والدبابة سحبنا معه إلى جوف المبنى حيث مبيت العُمال، وبينهم صديقنا الذي يحلم بالبحر وغالبا لا تستطيع التخمين أي واحد هو، فلا أحد فيهم ينطق حرفا، فالكاميرا ترافقهم في صمت يشبه تماما صمت أرواحهم المسكونة بالوجع، تُوثق عودتهم إلى الجوف المعتم شديد الحرارة، فعلى الرغم من المطر في الخارج، فإن تعرّق الوجوه يُظهر أثر الإسمنت عليهم من جديد.
في مبيتهم يتابعون الأخبار التي تتحدث عن اللاجئين وروسيا وفرنسا، يصنعون الشاي، يستعد أحدهم ليأكل علبة سردين، آخر يتابع أخبار مدينة “الحسكة” على شاشة هاتفه متصفحا الفيسبوك، لكن لا أحد يتكلم، انعكاس مشاهد القصف والدمار في التلفاز تظهر في حدقات عيونهم التي تشتاق لوطن على بعد أميال منهم.
في الصباح، يبدأ يوم آخر تحت سماء بيروت، في البناء الشاهق الذي يطل على بحر تغرق فيه دبابة من حرب قديمة، وعلى سطحه رافعة تشبه فوهتها، ويأتي المساء ومزيد من مُشاهدة التلفاز في مبيت العُمال، وهذه المرة أغنية على الربابة عن القلب الوحيد.

ينام الجميع في مساء جديد، وهنا يأخذنا المُخرج إلى الحادثة التي وصفها صاحب الحكاية “لم يتبق في ذاكرتي سوى اللحظة الأخيرة، رأسك على الطاولة، نائمة.. ميتة؟ أين أنت الآن؟”. فينقلنا إلى سوريا، والضحايا تحت الإسمنت في مَشاهد حقيقية توقف الأنفاس لمحاولات إنقاذ عائلة من تحت إسمنت مقصوف؛ غباره وطعمه وصوته في كل مكان. إنها لحظة تعبث في عقلك بشدة، تشعر أنك ستصرخ معها كأن كل ما فات في الفيلم يُجهزك كي تصل إلى هنا، إلى تحت الجدران والطاولات والسقف، جسمك يتهشم، تختنق، تمد يدك لتنقذ العائلة وتلك القطة، وأنت لا تزال تجلس في ذات القاعة المكيفة للسينما.
يطلع الفجر على العمال الذين ينامون في جوف الإسمنت، هناك شخص ما يوقظهم، دقائق طويلة تمر قبل أن يستوعبوا مكانهم، أحدهم ينظر من النافذة غير المكتملة إلى البحر البعيد، يقول الصوت الحالم بالبحر: “اللحظة الثانية التي لا تفارقني؛ كانت الحرب قد بدأت، وأخبار وصوت القصف في كل مكان، والموت أصبح يوميا، وحارتنا يسقط فيها البيت وراء الآخر. كنت عائدا لمنزلنا متعبا، دخلتُ إلى المطبخ، وجدتُ أمي نائمة ورأسها على الطاولة، جلستُ بجانبها مُقابل البحر، تأملتُ البحر والسماء، وصار عمر الصورة أكثر من 15 سنة، وتذكرت أول مرة رأيت فيها البحر في المطبخ، كان لدي رغبة قوية أن أدخل في الصورة وألا أخرج منها، أن أهرب من الحرب، من الدمار ومن كل شيء، مددتُ يدي لألمس البحر، ارتفع الموج كثيرا، اهتزت النخلتان، سحبني الموج”.