“ميانمار.. حقول القتل”.. عندما يتوحش البشر
قيس قاسم

لا يكاد أحد يجادل في أن المذابح التي تعرض لها مسلمو الروهينغا في ميانمار تعد أبرز وأبلغ إبادة تشهدها الألفية الجديدة دون منازع. وعلى الرغم من ارتكاب جيش ميانمار ورعايته لهذه المذابح المروعة، ظلت زعيمة البلاد “أونغ سان سو تشي” الحاصلة على جائزة نوبل للسلام تدافع عن قادته وتنفي كل ما جرى من فظاعات.
لكن الصحفي الاستقصائي الأسترالي “إيفان وليامس” حصل على تسجيلات فيديو من هواتف محمولة سربها سرا بعض شهود وضحايا المجازر. وللتأكد من صحتها قام بمقارنتها مع تقارير منظمات حقوقية وإنسانية تابعت ما جرى للمسلمين، وأخرى قدمتها الأمم المتحدة، وخرج بنتيجة لا تقبل الشك، فكل ما ورد فيها صحيح ومطابق للتقارير.
وفوق هذا وتعزيزا لمصداقيتها، ذهب إيفان وليامس إلى معسكرات اللاجئين الروهينغيين في بنغلاديش وقابل الناجين من المجازر، وكانت حصيلة ما جمع تكفي ليصنع منها المخرج البريطاني “باتريك ويلز” فيلما وثائقيا مذهلا يفضح القتلة والساكتين عن جرائمهم.
ميانمار.. القتل بأمر عسكري
يقدم فيلم “ميانمار.. حقول القتل” في بدايته مقاطع لتسجيلات فيلمية تظهر فيها رئيسة البلاد وهي تنكر تماما وجود أية عمليات عسكرية ضد مسلمي الروهينغا. وفي مقابلها، ينقل أيضا تصريحات أدلى بها صحفيون ومراقبون دوليون أصيبوا بالدهشة مما يسمعون، ولم يصدقوا أن تلك التي تكررت منها هذه التصريحات هي نفسها التي عرفها العالم مدافعة عن حقوق الإنسان ومناهضة لسلطة العسكر في بلادها وصاحبة جائزة نوبل. لم يركز صانع الوثائقي البريطاني في البداية على دورها وسكوتها، فما كان يهمه بالدرجة الأولى هم الضحايا وكيف سيثبت صحة قصصهم، وبالتالي سيمكن الوثيقة الفيلمية من التحول إلى شهادة إدانة دامغة للقتلة.
في مخيم لإيواء اللاجئين الهاربين إلى بنغلاديش، يُقابل الصحفي الأسترالي شابا مسلما صوّر بكاميرا هاتفه ما جرى في قريته يوم دخلها الجيش وأباد كل من فيها. تلك المغامرة كانت ستكلفه حياته لو علم بها العسكر، لكنها بالنسبة لصانع الوثائقي قاعدة مهمة للتأسيس عليها سينمائيا. أما بالنسبة للصحفي فشكلت مدخلا لبحثه عن الحقيقة وذلك عبر مطابقة قصص الضحايا مع الوقائع.
تُظهر التسجيلات أن العمليات ضد شعب الروهينغا المسلم قد نُفذت بناء على تعلميات مركزية أُحطيت بسرية تامة، لهذا حاول الوثائقي ترتيب الأحداث وفق تسلسلها الزمني وذلك لكشف ما أُريد التستر عليه.
وأفادت أولى الحقائق المدعومة بالصور بأن مخطط إبادة مسلمي ميانمار وتهجيرهم من قراهم تمت قبل ظهور المسألة الروهينغية للعلن بسنوات، فالاهتمام الإعلامي كان قد بدأ مع ضخامة نزوحهم الجماعي إلى بنغلاديش عبر النهر، وازداد بشكل خاص بعد وصول مئات الآلاف منهم إلى الضفة الثانية في شهر أغسطس/آب من عام 2017، لكن التسجيلات السرية المسربة تقول إن عمليات الهجرة تعود إلى عام 2012 حين قامت قوات من الوحدات العسكرية الخاصة بحرق قرى المسلمين وذبح سكانها بحجة إيوائهم إرهابيين، وقد جرى التكتم عليها عبر منع السلطات وصول الصحفيين إليها.

الجيش والبوذيون يصنعون الإبادة
تتطابق الصور وشهادات الناجين أمام أعين الصحفي الاستقصائي في تسلسل واضح، وتُظهران سوية نفاق السلطة وتهاونها مع استفزازات البوذيين القوميين للمسلمين منذ البداية. سيتكشف لمتابع الوثائقي -الشديد الموضوعية والمتماسك البناء- أن ثمة موقفا قوميا وتمييزا عرقيا وراء سلوك المتشددين البوذيين ورجال الجيش والسلطة. فالقوميون البوذيون ومعهم العسكر يتعاملون مع مسلمي الروهينغا باعتبارهم غرباء جاؤوا من بنغلاديش وبالتالي هم ليسوا من سكان المنطقة الأصليين، وينبغي عليهم تركها، وهذا منطق عنصري غُذي بأفكار قومية وجرى نشره على مدى سنوات.
لقد تعاملت السلطات مع إقليم أركان -حاضنة أغلبية المسلمين- على هذا الأساس، على الرغم من أن أجيالا متعاقبة منهم ولدوا وكبروا هناك ولم يعرفوا بلادا غير تلك البلاد. وتُظهر التسجيلات مرة أخرى أن الهجرة الإجبارية طالت الآلاف منهم، وأن معسكرات اللاجئين الداخلية والغيتوات الخاصة بالمسلمين الممنوعين من الخروج منها تدلل على المواقف العنصرية والشوفينية منهم.

يتوقف الوثائقي مدعوما بتسجيلات فلمية قديمة عند خطوة الحكومة إصدار هويات خاصة بهم تنتقل صفتهم فيها من مواطن إلى مهاجر، لكن رفضهم قبولها كان ثمنه باهظا: التهجير والتعذيب والإجبار على استلامها.
يعود الوثائقي إلى تاريخ العلاقة المختلة التوازن عبر مراجعة متأنية مدعومة بشهادات السكان المحليين وكلها تظهر أنه وقبل نصف قرن من الآن مورست ضد المسلمين سياسة تمييز، وأن هيمنة الدكتاتوريين العسكريين على مقاليد الحكم دفعت العالم إلى عزل ميانمار لعقود. ولم يخفّ الحصار المفروض عليها إلا بوصول أونغ سو شي إلى الحكم وإعلانها نظاما ديمقراطيا، لكن الوقائع وبخاصة ما جرى للمسلمين أثبت أن سلطة العسكر ظلت كما هي تدير دفة الحكم خلف الكواليس، وأن انتقال الزعيمة من موقع المدافع عن حقوق الإنسان إلى السياسة أجبرها على دخول لعبة الحكم ومراضاة الجيش على حساب شعب يُباد عن بكرة أبيه على أيديهم.

أفظع إبادة وأوسع هجرة
لموضوعيته وقوة حضور الصورة، لا يُغفل الوثائقي حقيقة ظهور جماعات إسلامية متطرفة من بين الروهينغا، وذلك -وفقا لكثير من الناشطين الحقوقيين أمام كاميرا الوثائقي- بسبب الاضطهاد الذي يتعرضون له ولا يجدون سبيلاً آخر لحماية أنفسهم إلا بحمل السلاح في وجه الجيش. ولكن حملهم السلاح وقيامهم ببعض العمليات العسكرية وقتلهم جنودا ورجال شرطة استغلتها السلطة وبررت بها عمليات الإبادة المنظمة للسكان المسلمين، وذلك رغم سلمية أغلبية سكان الإقليم المسلم وتوسلاتهم لتدخل الحكومة ومنع حرق قراهم. وقد استمر الجيش بتنفيذ مخططه فحرق القرى بشكل ممنهج خلال السنوات الخمس الأخيرة.
دخول الجيش إلى القرى وحرقها سُجل ونَقل مشاهد رعب لا يتحمل الإنسان السوي رؤيتها. وإلى جانب حرق القرى كان أفراد الجيش يغتصبون النساء ويحرقون الأمهات مع أطفالهن، وهذا غير إعدام رجال القرى والمزارعين المسالمين بدم بارد. كل تلك الممارسات الهمجية جرى مقارنتها مع التقارير الصحفية والدولية ومع صور الستالايت المأخوذة من الفضاء للقرى المحروقة وكلها جاءت متطابقة.
يشهد العالم منذ أواخر عام 2016 واحدة من أكبر الهجرات البشرية، وكيف أصبحت مخيمات اللاجئين الروهينغيين في بنغلاديش من بين أكبر المخيمات في العالم، فعرضُ الوثائقي تفاصيل العيش فيها يوضح حقيقة موقف سلطات ميانمار ورغبتها في التخلص من سكانها المسلمين دون تردد.

أونغ سان سو تشي.. الزعيمة المتواطئة
ذهب الوثائقي -بعد تأكده من صحة الشهادات والتسجيلات التلفونية وسماعه مواقف بعض رجال الإعلام والسياسة الغربيين بخاصة- إلى الجزء الخاص بالزعيمة المتواطئة، فقد أخذ الكثير من خطبها ومقابلاتها واستمع إلى مَن وقف معها في الماضي، واليوم يستغرب بشدة مواقفها إزاء إبادة بشرية صارخة. وينقل إلى جانبها تصريحات قادة من الجيش مرفقة بتسجيلات أخرى شخصية تُكذبها، وتُظهر بعضهم مشاركا في عمليات القتل دون لبس.
قدّم الوثائقي كل ذلك بعد قيامه بمقابلة صديق لها عمل سابقا في الأمم المتحدة، وجاء في نهاية العام الماضي لإقناعها بضرورة العمل سريعا على وقف المجازر، فسمع منها كلاما أذهله، ولم يصدق أن ذلك يأتي من شخصية كانت فيما مضى تقول عكسه، وتناضل من أجل أن لا ينطق به أحد في بلادها، بينما هي اليوم تتصدر المشهد المدافع عن الجيش وقادته الذين يقفون خلفها ويؤمّنون لها استلاما جديدا للحكم، مقابل تغييرات بسيطة مثل دعوتها الهاربين من جحيم الموت بالعودة إلى البلاد دون ضمانات.
صانع الوثائقي أراد من المشهد الختامي أن يكون جامعا معبرا، حيث سجّل في المخيمات مخاوف أطفال عاشوا ورأوا بأمّ أعينهم ما جرى لعوائلهم، واليوم هم يعانون آلاما نفسية وكوابيس سوداء بسببها. كما نقل إلى جانب ذلك تصريحات موظفة في الأمم المتحدة أصرّت على وصف ما جرى لمسلمي الروهينغيا بأنه “إبادة بشرية مسكوت عنها”.