شخصيات الفيلم الوثائقي.. كيف نوجهها؟

بلال المازني

إن الشخصيات هي المكون الرئيسي التي يتماهى معها المشاهد في عقله الباطن، وكما قال "بارث" "ليس ثمة قصة واحدة في العالم من غير شخصيات"

لا يمكن لأي عمل أن يكون ناجحا إلا إذا توفرت فيه الشروط، وترابطت فيه عناصر معينة قادرة على الخروج بالعمل إلى الأفضل، كما أن عالم الأفلام الوثائقية كذلك. فالجانب التقني وحده لا يكفي، بل بالعكس يمكن للمشاهد أن يتجاوز أحيانا الجانب التقني والإستاطيقي، ولكنه حتما سيتابع باهتمام جوانب أخرى من الفيلم مثل القصة وبناء الأحداث وحضور شخصياتها.

ونرى هنا أن الشخصيات هي أهم هذه العناصر، والمكون الرئيسي الذي يتماهى معه المشاهد في عقله الباطن، كما قال “بارث” “ليس ثمة قصة واحدة في العالم من غير شخصيات”. 

وإذا عدنا إلى تجلياتها الأولى نجد أن الشخصية تعني في اللغة اللاتينية القناع الذي يلبسه الشخص متنكرا بوجه غير وجهه الحقيقي، وهو مرتبط بلفظ (persona) أي القناع الذي يلبسه الممثل المسرحي، فالمخرج المتمرس يولي الشخصية أهمية كبرى في اختيارها بمهارة عالية والتعامل معها وتوجيهها، حتى ينجح العمل ويلقى إعجاب الجمهور والنقاد.

ولسنا هنا بصدد الحديث عن الأفلام الدرامية فقط، بل لنجمع معها في نفس السلة الأفلام الوثائقية كذلك، باعتبار أن الفيلم الوثائقي والفيلم الدرامي يتقاسمان -في كثير من الأحيان- عناصر عديدة كالبناء السردي والأحداث والشخصيات.

 

الفيلم الدرامي.. شخصيات ممثلة محترفة

إلا أن الشخصيات في الفيلم الدرامي تختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي في الفيلم الوثائقي، وأول هذه الاختلافات هو أن شخصيات الفيلم الوثائقي تكون واقعية وحقيقية، بينما في الفيلم الدرامي لا تعدو إلى أن تكون شخصيات يؤديها ممثلون محترفون يمتهنون التمثيل وقادرون على مجاراة أفكار المخرج، والتلبس بما يطلب حسب رؤيته، وما يستوجبه السيناريو للخروج  بالأداء المطلوب، وبالتالي فإننا هنا نتحدث عن تركيبة نفسية مختلفة وسلوك مختلف وتعامل مع المخرج وموقع التصوير مختلف أيضا.

في حالة الفيلم الدرامي تكون مهمة بناء الشخصية، وتكوين الأداء المناسب أمام الكاميرا منقسمة بطريقة جدلية بين المخرج والممثل المحترف، حيث يشرح المخرج للمثل رؤيته للأداء أمام الكاميرا وما يتطلبه السيناريو من بناء نفسي وجسدي لتكوين وتجسيد الشخصية، ثم يأتي دور الممثل المحترف للعودة إلى مؤهلاته الأدائية وتكوينه الفني لتركيب الشخصية الخيالية، والتماهي معها حتى يكون الأداء أمام الكاميرا خلاقا ومبدعا.

فيلم "زينب تكره الثلج" للمخرجة كوثر بن هنية، في هذا الوثائقي تتابع كوثر قصة الطفلة "زينب" التي توفي والدها وهي في سن التاسعة

الفيلم الوثائقي.. شخصيات مزاجية متقلبة

أما الوثائقي فإن شخصياته على العكس من ذلك تماما، فهي شخصيات لا تحترف التمثيل والتعامل مع الكاميرا، ويمكن أن تكون غير قادرة على الاستجابة لأبسط توجيهات ومتطلبات المخرج، وفي أحيان كثيرة يمكن أن تكون مزاجية ومتقلبة ولا تتقيد بالخط والبناء المرسوم، وبالتأكيد فإن الكثير من مخرجي الأفلام الوثائقية قد اصطدموا في مشوارهم بشخصيات غير قادرة على الكلام أمام الكاميرا، أو شخصيات تُصاب بالرهبة أو الارتباك أو التأتأة أو التعرق غير الإرادي، وقد واجهنا العديد من هذه الحالات. وقبل أن نحاول وضع بعض القواعد والتوجيهات التي تساعد على إدارة وتوجيه شخصيات الفيلم الوثائقي، وجب أن نقسمها إلى نوعين حسب أهميتها في الفيلم:

 

النوعية الأولى: وهي الشخصيات البطلة التي تقوم عليها قضية معينة، أي أن قصة الفيلم مرتبطة ارتباطا وثيقا بشخصية بعينها تدور في فلكها بقية الشخصيات الثانوية والأحداث، وكمثال على ذلك فيلم “زينب تكره الثلج” للمخرجة كوثر بن هنية، والذي حصل على التانيت الذهبي في “مهرجان قرطاج السينمائي” في دورته الـ27، كما حصل أيضا على جائزة أفضل فيلم وثائقي في “مهرجان مونبليي” للفيلم المتوسطي في دورته الـ38.

في هذا الوثائقي تتابع كوثر قصة الطفلة “زينب” التي توفي والدها وهي في سن التاسعة، وتجد نفسها أمام قرار والدتها التي تقرر الزواج مرة أخرى والهجرة إلى كندا، هنا تتابع المخرجة جملة من التعقيدات النفسية والاجتماعية لشخصيتها الرئيسية زينب، وكيفية تقبلها لصدمات وفاة والدها وزواج أمها والهجرة خارج وطنها الأم.

في هذه الحالة حيث تكون الشخصية هي البطلة ومحور القصة، تكون المهمة أصعب على المخرج،  فهو لن يكون قادرا على استبدال الشخصية وتعويضها إذا أخفقت في الأداء أمام الكاميرا، بل على العكس يجب على المخرج قبول المجازفة والتعامل مع التقلبات النفسية والطبائعية لها.

فيلم "إنقاذ وجه" لشارمين عبيد شينوي، هو فيلم يعرض قضية معاناة نساء باكستان، من انتقام العائلة والمجتمع وتشويه وجوههن بالأحماض الكاوية

أما النوعية الثانية من الشخصيات: فهي التي يسقطها المخرج على قضية معينة تكون موجودة أصلا، ولا تستوجب شخصا بعينه لتشكيل ملامح القصة، مثل فيلم “إنقاذ وجه”  لشارمين عبيد شينوي الحائز على الأوسكار سنة 2012، وهو فيلم يعرض قضية معاناة نساء باكستان من انتقام العائلة والمجتمع وتشويه وجوههن بالأحماض الكاوية، ويتضمن الفيلم قصصا ترويها سيدات تعرضن للتشويه مثل زكية (39 عاما) التي ألقى زوجها على وجهها الحامض الكاوي بعد أن رفعت ضده دعوى طلاق، وروح (25 عاما) التي شوّه زوجها وأخته وأمه وجهها بالحمض الكاوي ثم أضرموا النار فيها.

وباعتبار أن المخرجة هنا أرادت طرح قضية معينة دون الاعتماد على” بطل” بعينه فإن مهمة اختيار الشخصية ستكون أسهل وأقل مجازفة، حيث يمكن اللجوء إلى نوع من تجارب الأداء (الكاستينغ) حتى يكون المخرج متأكدا أن شخصياته مناسبة للدور الذي ستلعبه في الفيلم.

وفي كلتا الحالتين فإن من واجب المخرج مراعاة أن شخصيات الفيلم الوثائقي خاصة ومتميزة إلى حد بعيد، لذلك وجب أخذ كل حالة على حدة ودراستها واستيعاب تعقيداتها وحالاتها النفسية، حتى يتمكن المخرج من الإحاطة بها لتخرج بأداء تلقائي ومقنع في نفس الوقت.

إن على المخرج أن يقرأ التركيبة النفسية والطبائعية للشخصية، وفي ذلك عدة مدارس أهمها مدرسة العالم السويسري الشهير "كارل غوستاف يونغ" في تحليل الشخصية وتحديد طبائعها (غيتي)

المخرج وترويض الشخصية

من أهم مهام المخرج فيما يمكن اعتباره مرحلة التحضير والإعداد هي محاولته تحديد الجوانب النفسية والتركيبة الباطنية لشخصية فيلمه. إن تحديد المخرج للجانب النفسي للشخصية من شأنه أن يساعده على فهمها والإحاطة بها، والأهم من ذلك تحديد تعقيداتها النفسية واستثمارها في العمل، حيث يكون دور المخرج هنا أقرب إلى الأخصائي النفسي، إذ عليه أن يقرأ التركيبة النفسية والطبائعية للشخصية إن كانت عصبية أو نرجسية أو منطوية.

وفي ذلك مدارس في علم النفس عديدة لا يسمح لنا المقام في سردها كلها، لكن يمكننا القول إن أهمها هي مدرسة العالم السويسري الشهير “كارل غوستاف يونغ” في تحليل الشخصية وتحديد طبائعها. وبعد مرحلة تحديد التركيبة النفسية تأتي هنا مرحلة مهمة جدا، وهي خلق علاقة ثقة وارتياح مع الشخصية، وذلك لأن الضغط النفسي والرهبة الذي قد يصيبها أمام الكاميرا سيكون بمثابة المطرقة التي ستهدم أي أداء مقنع وبنّاء.

 “ليس التشنج العضلي هو وحده الذي يعرقل أداءنا لوظيفتنا أداءً سليما، بل إن أي ضغط طفيف في لحظة ما قد يعطل عمل مَلَكة الخلق”.

إن هذه المرحلة هي بمثابة ترويض الشخصية حتى تكون مستعدة لتقبّل نصائح وتوجيهات المخرج، ومن أهم الوسائل التي يجب على المخرج استعمالها لربط هذه العلاقة هي المعايشة والمحاكاة، هنا عليه التعايش مع الشخصية في كل جوانبها اليومية، ومشاركتها أبسط التفاصيل الحياتية حتى يتم كسر العلاقة العمودية لتصبح علاقة أفقية فيها حوار وثقة وتواصل، وبالتالي فإن هذه الثقة من شأنها وجوبا أن تظهر في الأداء، خاصة إذا استعمل المخرج طرقا إيجابية للتحفيز، ليكون ظهور الشخصية أمام الكاميرا تلقائيا صادقا وغير متكلف أو متردد.

“إن التمثيل الزائف للعواطف أو النماذج، أو مجرد استخدام الحركات والإشارات التقليدية، فهما من الأخطاء الشائعة في حِرفتنا، ولكن ينبغي عليكم أن تتجنبوا هذه الأخطاء المجافية للواقع، لا تقلدوا العواطف والقوالب، بل عيشوا هذه العواطف وتلك القوالب، ولا بد أن ينبع تمثيلكم لها من حياتكم فيها”.

المخرج والممثل الروسي الشهير "قسطنطين ستانيسلافسكي" واضع قواعد التعامل مع الممثلين يقول: "إن اكتمال تجاربنا الخلاقة كلها وقوتها يتناسبان مع قوة ذاكرتنا الانفعالية ودقتها" (غيتي)

الشخصية والذاكرة الانفعالية

وإذا اعتبرنا أن المراحل السابقة هي محاولة لتحضير الشخصية وتأطيرها النفسي قبل التصوير، فان المرحلة اللاحقة هي مرحلة توجيه الأداء أمام الكاميرا، ومن المهم على المخرج أن يكون توجيهه إيجابيا ومحفزا دون أن يكون متطلبا جدا ومباشرا في أوامره، خاصة طلبات استحضار شعور معين كالفرح أو الحزن أو الغضب. ويمكن القول إن الطريقة المثلى هي العمل على اعتماد الذاكرة الانفعالية للشخصية حتى يكون استدعاء المشاعر فيها تلقائيا وصادقا.

وهنا نستند وجوبا لكتب وأعمال المخرج والممثل الروسي الشهير “قسطنطين ستانيسلافسكي” واضع قواعد التعامل مع الممثلين، حيث يقول “إن اكتمال تجاربنا الخلاقة كلها وقوتها يتناسبان مع قوة ذاكرتنا الانفعالية ودقتها، أما إذا كانت ذاكرتنا ضعيفة فإن المشاعر التي تثيرها تكون باهتة وهزيلة لا قوام لها، وتنعدم قيمتها على المنصة لأنها لا تستطيع التأثير على الجماهير التي تجلس فيما وراء الأضواء”.

من هنا نستنتج أن الأسلوب الأمثل للأداء هو المشاعر الداخلية الصادقة التي يعمل المخرج على إبرازها واستحضارها لدى شخصياته بأسلوب الذاكرة الانفعالية التي تهدف وجوبا إلى استدعاء مواقف وخبرات سابقة في حياة الشخصية وواقعها، حتى تبدأ المشاعر القديمة تعود إلى ذاكرتها ووعيها وبالتالي إخراجها أمام الكاميرا.

وكخاتمة لهذا المبحث نقول إن شخصيات الفيلم الوثائقي أكثر تعقيدا ومزاجية، والتعامل معها وتوجيهها يستوجب بالضرورة مخرجين قادرين على الإحاطة النفسية، والتعامل المحفز والإيجابي لهذه الشخصيات حتى يكون أداؤها تلقائيا وصادقا، مما ينعكس وجوبا على نجاح الفيلم الوثائقي.


إعلان