فهرنهايت 9/11 مرة أخرى.. “فوضى” ترامب و”فساد” المنظومة
مروة صبري

في الثامن من نوفمبر 2016، وكنوع من المزاح الحزين أو قلة الحيلة؛ أحضرت “أيس كريم” و”شوكولاتة” وعلبة مناديل، وأخبرت صديقاتي العربيات في أمريكا أنني مستعدة لاستقبالهن بعد ظهور نتيجة الانتخابات الأمريكية، فكما يقول المثل الأمريكي “المشاركة في البؤس مستحبة”، والبؤس في رأيي كان مقدرا لا محالة ما بين كلينتون وترامب.
لم أنم أنا ولا أولادي الكبار ليلتها ونحن بانتظار نتيجة الانتخابات التي ظهرت بعد منتصف الليل، ونمنا مغتمين حالنا كحال كل من أدرك وقع فوز ترامب على الداخل والخارج.
الفيلم الوثائقيّ الجديد “فهرنهايت 9/11” للمخرج مايكل مور أعاد لي حزن ذلك اليوم، فوجدتني أدمع لفوز ترامب وكدت أتعاطف مع كلينتون التي لم أتعاطف معها قط خلال الانتخابات، فقد نجح مايكل مور في موازنة عجيبة ما بين مشاعر الثقة والخذلان والتفاؤل والتشاؤم والفرح والحزن أن يسحبني داخل ذلك اليوم التاسع من نوفمبر يوم إعلان نتيجة الانتخابات، وتأثرت بوقعها كيومها وكان وقتها أكبر همي، فكيف سأخبر طفلتي ذات التسعة أعوام بعد أن سمعت من صديقاتها بعضا مما قاله ترامب عن المسلمين؟ وبالفعل كان أول رد فعل لها “ما الذي سنفعله؟” وكأنها بهذا السؤال رددت ما جال في عقول ملايين الأمريكيين في صباح التاسع من نوفمبر.
إبداع مايكل مور ظهر منذ أول لحظة في الفيلم، حيث شهدنا وجوه الناس تخبرنا بكل ما يريد، ما بين أمل ويأس وضحك ودموع كل مَن هم ضد ما يمثله ترامب، لكن شغله الشاغل في الفيلم لم يكن ترامب ذاته فحسب بل الذي أدى لترامب وكيف نغيّره.
منظومة حكم فاسدة.. ليس ترامب فقط
كانت التوقعات من عنوان الفيلم أن يكون تركيزه الأساسي على ترامب؛ مَن هو وماذا يفعل، لكن سرعان ما بددها مور، فالهدف من وراء الفيلم هو إظهار فساد المنظومة الحاكمة في أمريكا، فهي التي أدت إلى ترامب في البيت الأبيض.
إن كان هناك سلبية أذكرها بشأن الفيلم فهي التشتيت في الموضوعات الفرعية المتناولة، حيث إن أوجه الفساد متعددة ولا يمكن احتواؤها في فيلم واحد، لكن مور حاول معالجتها، فقد ركّز الفيلم على كارثة المياه بمدينة فلينت، وعلى قوانين الأسلحة التي تزيد من أحداث القتل الجماعي، وعلى علاقة ترامب بابنته إيفانكا، وعلى بيل كلينتون ومساندته للشركات على حساب الفقراء، وعلى أوباما واضطهاده لمطلقي صفارة الإنذار (من يبلغون عن فساد في مؤسسة ما مهما كانت) وعلى موقفه المخزي من كارثة فلينت، وعلى المجمع الانتخابي الذي تنتهجه البلاد في اختيار الرئيس بغض النظر عمّن حصل على أكبر عدد من الأصوات، وعلى أزمة الإعلام مع ترامب، وعلى العنصرية ومعاداة المسلمين وتفرقة أطفال اللاجئين عن أهلهم، والتحرش بالنساء من إعلاميين وسياسيين مشهورين، وغيرها من مواضيع كفيلة بملء عقل المشاهد بكمّ من المعلومات والمشاعر يوقفه في محله، لكن مور تنقل بينهم برشاقة جذبت انتباه المشاهد إلى آخر لحظة.

حركة طلاب الثانوية.. تتحدى فوضى السلاح
بإلقاء نظرة عامة على انتقاء مور لموضوعاته في فهرنهايت 9/11 نجده يعطينا مسببات الإحباط ثم يتبعها بجرعة من الأمل، وكأنه يريد أن يقول لمن على نفس سفينته: أبحروا في هذه الأمواج العاتية فالشاطئ على مرمى البصر، لكن لا تجعلوا رؤياه تنسيكم أن الطريق خطير، وتلك هي الإيجابية العقلانية التي يجب أن تتوافر في أيّ ناشط.
أفرد مور مساحة كبيرة لمظاهرات طلبة الثانوية بمدينة باركلاند بولاية فلوريدا، والذين نظموا مسيرة لجميع طلاب المدارس ضد القوانين التي سمحت لزميلهم البالغ من العمر 18 عاما -وقد اشتكوا منه مرارا- بأن يحصل على بندقية نصف آلية (AR-15) ليقتل بها طلاب مدرسته. وركز على أن هذه الحادثة المتكررة في البلاد أخرجت الطلاب عن صمتهم، وقرروا أن يُصعّدوا اعتراضهم ليتحولوا إلى حركة تتحدى -بعقولهم البريئة الجريئة- السياسيين، بل وترامب نفسه لخدمته أهداف الجمعية القومية للبنادق التي تبرعت لحملته الانتخابية بثلاثين مليون دولار. وعلى الرغم من صغر أعمار الطلاب أمام سياسيين مخضرمين فقد أحرزوا نجاحات لا يُستهان بها وهذا ما اهتم به مور.
تناول الفيلم أيضا لقاءات مع مرشحين سياسيين لم يكونوا ليفكروا في الترشح لولا استفزاز ترامب، وجميعهم من الأقليات، ويرى مايكل مور الراوي للفيلم أن النساء سيجتذبن المقاعد بشكل غير مسبوق، ولن يربح في الانتخابات القادمة من الرجال إلا من يدافع عن حقوقهن.

عندما تدار الأوطان كما تدار الشركات!
ولد مايكل مور في مدينة فلينت بولاية ميتشيغان عام 1954، بدأت أزمة تلك المدينة -وأغلب سكانها من الأمريكيين الأفارقة- في الثمانينيات حين أغلقت شركة جينيرال موتورز أبوابها فانهار اقتصاد المدينة واستدانت 25 مليون دولار، وقرر حاكم الولاية “ريك سنايدر” إدارة ميزانية المدينة. ولتوفير النفقات رأى أن يحوّل مياه الشرب إلى نهر هوران بدلا من ماء ديترويت، وحينما تم بناء خط الأنابيب الجديد تم تحويل مياه شرب فلينت من نهر فلينت.
خلال أيام -كما صوّر مور في فيلمه- نزلت المياه بنيّة اللون، بل ثبت أن بها نسبا مرتفعة من الرصاص، وأن سنايدر علم بهذا لكنه أخفى الأمر. مكث أهل المدينة بهذه المياه لمدة عام ونصف تعرضوا فيها لنسب مضرة وصلت إلى 14% عند أحدهم، في حين أن الحد الأقصى يجب ألا يزيد عن 3.5%، وهنا نرى مور يعرض لقطات للماء المتسخ ويحاور السكان والمتخصصين.
هذا الجزء من الفيلم كان ثريا باللقاءات مع أقليات مختلفة، ومن ضمنهم طبيبة مسلمة قارنت بين وضعها وأسرتها حين قدموا إلى أمريكا، وبين وضع مرضاها الأطفال المساكين الذين يعيشون كابوسا بوضع البلد الحالي حسب وصفها.
ثم يعود مور من كل هذا إلى منظومة الفساد التي سمحت لرجل مثل سنايدر -الذي قضى عمره في الشركات- أن يصل لهذا المنصب ويصرح بأنه سيُدير الولاية كشركة، وأن المواطنين هم عملاء له، وبالتالي فليس من المستغرب أن يهمل مدير شركة عملاءه المستدينين، فتلك هي الرأسمالية التي يزعم مور أنها كانت تمارَس من الحزب الجمهوري واتبعهم فيها الحزب الديمقراطي على يد كلينتون، وهي المنظومة التي خربت الحياة السياسية في أمريكا بإهمال الفقراء لحساب الشركات.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تظهر فلينت في أفلام مايكل مور، فقد تحدث عنها في فيلم “روجر وأنا” (Roger & Me) (1989) وفي فيلمه “العودة إلى فلينت” (The Return to Flint) (1992) وفي غيرهما، وعلى الرغم من تعاطف مور مع المشاكل الإنسانية المتباينة فإن محل ميلاده ينبض في أفلامه فيُنَفِسه لمتابعيه.

الإعلام.. كوميديا سوداء ودعاية مجانية
“قد لا يكون ذلك خيرا لأمريكا، لكن من المؤكد أنه في صالح سي بي سي”. ليزلي مونفيز، الرئيس التنفيذي لقناة سي بي سي.
من قرابة 600 ألف دولار أُنفقت على الدعاية قبل الانتخابات الأخيرة، كان ترامب مسؤولا عن 30% منها، بينما أنفقت كلينتون 70%، أي أن ترامب أنفق أقل من نصف ما أنفقته كلينتون، لكنه حصل على اهتمام أكبر بسبب تصريحاته المستفزة، وعروض الكوميديا السوداء التي قدمها وأدت إلى زيادة مذهلة في عدد المتابعين للقنوات وبالتالي للدعاية، وبذلك حصل على ما يكافئ مليارات الدولارات من الدعاية المجانية. فقط كل ما كان عليه أن يطلق مهاجميه على منتخب أسود تارة، ويطرد مسلمة من مؤتمره تارة، ويتهم المكسيكيين المهاجرين بأنهم يُحضرون معهم المخدرات والجرائم وأنهم مغتصبون، ثم يصف كلينتون بأنها امرأة مزعجة، وغيرها من الغرابات التي أثرت الإعلام بالمال وأفقرته المهنية.
مايكل مور متفائل بمستقبل أمريكا وبصحوة التيار الليبرالي بها، ويرى أن ترامب كان الداء ووفر باستفزازه الدواء الذي وحّد صف المعارضة ضده. ولفهم تحمس مور للفكر الليبرالي، هو أن الليبرالية بالنسبة له تعني الحرية الدينية والحدّ من الأسلحة المتداولة، وتقليل ميزانية الجيش للتركيز على الداخل وقبول اللاجئين وتكافؤ الفرص، وزواج الشواذ ونبذ العنصرية بكل أشكالها، والمساواة بين المرأة والرجل في فرص العمل والأجر، واحترام قرارها في الإجهاض دون تدخل من الحكومة، وسحب السلطة من يد الشركات والعمل فقط على مصالح المواطنين، وهذه هي الخريطة التي انطلق منها مور ونجح في تغطية كل خطوطها.
ما الذي سيحدث في انتخابات 2020؟ بطريقة ترامب رجل الأعمال والطفل المدلل الذي تعوّد على الحصول على كل ما يريد ستكون حربا ضروسا، ويجب أن يختار الديمقراطيون بحرفيّة ممثلهم وإلا استمر حكم ترمب إلى 2024، وقد بدأ من الآن يشير إلى مدّ فترة الرئاسة عن فترتين لو عرض عليه الكونغرس، لكن هل يمزح؟
كل ما سبق وقاله من كراهية وعنصرية بدأ على سبيل المزاح، أو ليبدو على شكل مزاح حتى يبدأ الناس مناقشته ثمّ يدفع بأجندته الخاصة فنراها واقعًا ومؤيدوه يصفقون. لكن إن حدث ذلك فمن المؤكد أن مايكل مور سيخرج فهرنهايت ثالث ولن يكون كما في فيلميه؛ الشهير عام 2004 والحالي الذي صدر قبل يومين، لكنّه سيزلزل العالم بحق ويأخذ معه بقايا الديمقراطية في أمريكا.