الإيهام بالواقع.. شعرة واحدة تفصل الوثائقي عن الروائي
يفتح موقع الجزيرة الوثائقية ملف الوثائقيات العربية لعام 2018 فيبحث في أهم ما عُرض منها في العام المنصرم، وأهم ما حملته من مضامين وهموم، كما يناقش أبرز قضايا الإنتاج الوثائقي في هذا العام. ويقرأ مقال محمد علال زوال الكثير من الحدود بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي، حيث يتجه الوثائقي إلى الاعتماد على التمثيل وتقمص أو إخفاء كامل لتقنية الشهادات الحية لينتقل الوثائقي من الاعتماد على فكرة “الواقع” إلى فكرة “الإيهام بالواقع”.

محمد علال
أحمد خميسي (25 سنة) يستعد للتخرج من معهد أولاد فايت للسمعي البصري بالجزائر، يحمل كاميرته الصغيرة ويقرر التوجه نحو توثيق حكاية “المحطة الأخيرة” للإنسان مع هذا العالم. لقد فكر في موضوع مختلف وحكاية مختلفة لمشروع تخرجه، وهو ما انعكس على طريقة كلامه وحماسه الشديد دفاعا عن فيلمه الوثائقي القصير الأول خلال تقديم عرضه بقاعة “الخيّام” بالجزائر العاصمة.
بالنسبة للمخرج الشاب، فإن تفاصيل رحلة الإنسان الأخيرة قبل إهالة التراب عليه في ذلك المكان الموشح الذي يسمى قبرا، يمكن لها في المقابل أن تحجز له مكانا في عالم الأفلام الوثائقية. لقد أراد من عمله الأول أن يكون أكثر واقعية، لهذا ترك الكاميرة ترسم خطها في طريقها نحو الخاتمة، بينما تكلف هو بعملية تحريك الشخصيات بطريقة تعكس براعته في إدارة الممثلين من خلف الكاميرة.
أحمد واحد من عشرات المخرجين الشباب الذين تقف أفلامهم عند حدود تلك الشعرة التي تفصل الحقيقة عن الخيال، فهو لا يريد أن يشبه ذلك المخرج الذي يقف خلف الكاميرة على كرسي فاخر يقابله ضيف جهز نفسه للإجابة على مجموعة من الأسئلة، فالعدسة بالنسبة له كمُخرج ولد –كمخرج- في عام 2018 تشبه الأحلام، يكتب السيناريو فيها بخط الصدفة أحيانا كثيرة، وهو ما يطلق عليه المخرج الشاب لقب “سينما الواقع”، فالمهم في النهاية عنده هو الخروج بعمل يوثق اللحظة ويحكي القصة الحقيقية دون ملل.
في مقابل ذلك، يقول مخرج الفيلم الوثائقي “حرب الشوارع” الأمريكي مارشال كاري: “في العمل الروائي هناك الكثير من الزخرفات، هناك المال والمجد والشمبانيا وعارضات الأزياء، هناك الأمور التي تجذب الذئاب. لكن في الفيلم الوثائقي لا يوجد شيء من هذا، لذا تبقى الذئاب بعيداً. الأشخاص الوحيدون الذين يصنعون الأفلام الوثائقية هم أشخاص لديهم فضول لمعرفة ملامح أشخاص آخرين، يفعلون ذلك فقط لصنّاع الأفلام الوثائقية”.
عبارة كهذه التي تقف أمام الرؤية الإخراجية لأحمد وعشرات المخرجين الشباب تعكس ملامح السينما الوثائقية الجديدة، وتفسر حاجتها إلى السباحة بعيدا عن بهارات الأعمال الروائية، لكنها في مقابل ذلك تكشف عن عطشها للتقنيات الفنية الجديدة التي تعتمد أساسا على الإيهام بالواقع.. هكذا أصبح عدد من مخرجي الأفلام الوثائقية أكثر اهتماما اليوم بتوظيف تقنيات إعادة إنتاج الواقع بحثا عن المعنى.

“اصطياد” الممثلين في الأفلام الوثائقية
في السنوات الأخيرة كشفت عدسات المخرجين عن تلك اللغة السينمائية الجديدة التي أصبحت تستهوي مخرجي الأعمال الوثائقية، ونجدها خاصة في الأعمال السينمائية العالمية التي تخطف الجوائز.. أحيانا تصنف على أنها أعمال روائية، وأحيانا تصنف أفلاما وثائقية.
لا يمكن التطرق إلى تلك الشعرة الرقيقة التي باتت تفصل بين الوثائقي عن الروائي دون الحديث مثلا عن تجربة المخرج الإيطالي جيانفرانكو روسّي وفيلمه “نار في البحر” المتوج بجائزة الدب الذهبي للدورة الـ66 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، حيث يعكس هذا العمل السينمائي وهو يحاور حكايات المهاجرين غير الشرعيين ومعاناة اللاجئين السوريين؛ يعكس التوجه الجديد للأفلام الوثائقية عبر حكاية تترنح بين الوثائقي والروائي لا نستطيع تفكيك طبيعتها بسهولة.
ولأن السينما العربية الوثائقية تدور في فلك الإنتاج العالمي، فالأمر يذكرنا بحكاية المخرج الفلسطيني رائد أنضوني وفيلمه الروائي الوثائقي “اصطياد الأشباح” الذي ذاع صيته هو الآخر من بوابة مهرجان برلين وصَنَع الحدث بفوزه بجائزة الدب الذهبي بعد عام واحد من تتويج “نار في البحر”، فقد استعان مخرج الفيلم الفلسطيني بممثلين حقيقيين لتقمص الشخصيات، وتعامل مع الشخصيات الحقيقية على أساس أنهم ممثلون، بل شارك هو شخصيا في تجسيد أحد الأدوار ليخرج بكوكتيل سينمائي روائي وثائقي فريد من نوعه.
أمام حالة التخمة التي تشهدها الصناعة السينمائية للأفلام الوثائقية، عمدت العديد من المهرجانات السينمائية الكبرى -ومنها مهرجانات عربية- إلى فتح أبواب مسابقة الأفلام الروائية أمام الأفلام الوثائقية التي بها لمسة فنية روائية، وهذا ما لمسناه في آخر دورة لمهرجان دبي السينمائي الذي تعامل الفيلم الوثائقي “آلات حادة”، والذي يتناول مسار الفنان والكاتب الإماراتي الراحل حسن الشريف للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم على أساس أنه فيلم روائي، بينما تعاملت معه عدة مهرجانات عربية أخرى ومنها مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي على أساس أنه فيلم وثائقي.
وغالبا ما تطالب المخرجة الإماراتية بضرورة تصنيف فيلمها “آلات حادة” في فئة الأفلام الوثائقية، حيث ترى أن حضور الشخصية الرئيسية بطريقة تمثيلية في العديد من المشاهد؛ لا يعطى الحق لأي شخص في تصنيف الفيلم في خانة الأعمال الروائية الطويلة بأي شكل من الأشكال.
إلى جانب اللمسة الروائية التي يضعها اليوم عدد من مخرجي الأفلام الوثائقية لجعل الفيلم أكثر تشويقا، فإن المهرجانات تفتح الأبواب لها للمشاركة في برنامجها الرئيسي كما سبق وأن فعل مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، فقد أدرج فيلم ” كتاب الصورة” للمخرج الفرنسي جون لوك غودار في المسابقة الرسمية رغم اعتماد الفيلم بشكل كامل على المادة الأرشيفية. وهناك أمثلة عديدة في المهرجانات العربية هذه السنة التي تعكس أن الجمع بين الوثائقي والروائي في مسابقة واحدة أصبح أمرا مرحبا به بشدة، وهو شأن “مسابقة آفاق السينما العربية” من فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بدورته الأربعين، حيث جمعت المسابقة بين الفيلم الوثائقي “الكيلو 64” للمخرج المصري أمير الشناوي وسبعة أفلام روائية طويلة منها الفيلم المصري “ورد مسموم” لأحمد فوزي صالح، و”فتوى” لمحمود بن محمود من تونس في مسابقة واحدة.
كاميرة الوثائقي.. عندما تذوب في الحكاية
الملفت للانتباه في حكاية المزج بين الأفلام الروائية الطويلة والأفلام الوثائقية، هو أن الأمر يتعلق بأبرز الإنتاجات العربية السينمائية الوثائقية المنتَجة حديثا، وهو ما نلمسه تحديدا مع المخرج زياد كلثوم في فيلمه الأخير “طعم الإسمنت” الذي حاور حكاية عمال البناء من أصول سورية قادتهم الحرب نحو الهروب إلى لبنان. وبقدر حجم الصمت الذي تخلل الفيلم وانعدام الحوار المنطوق كان العمل يداعب في شخوصه مساحة كبيرة من العمل الروائي.
تذوب كاميرة الأفلام الوثائقية في الحكاية، وتتجاوز حدود الواقع أحيانا كثيرة كما في الفيلم الوثائقي “ميّل يا غزيّل” للمخرجة اللبنانية إليان الراهب، حيث يتحول الرجل المسيحي العجوز “هيكل مخايل” إلى ممثل بارع وهو يتعامل مع تفاصيل ميراث الحرب الطائفية اللبنانية. وإذا كان هنا يجسد شخصيته الحقيقية فإن المخرجة أرادت تفكيك الموضوع بطريقة روائية، تماما كما في فيلم “من شاتيلا سنغادر” الذي شارك فيه مجموعة شبان من مخيم شاتيلا في العاصمة بيروت لحكاية مبادرة “جمعية أحلام لاجئ”، حيث يخرج الفيلم من إطار السرد التقليدي للمعلومات إلى الأسلوب القصصي بطريقة متكاملة، كأنه كتب بدقة ليعكس الإصرار والتمسك بحق العودة.
من فكرة “الواقع” إلى “الإيهام بالواقع”
بعد أن ارتبطت الأفلام الوثائقية لسنوات طويلة بفكرة “الحقيقة” و”الواقع”، تحولت إلى فكرة “الإيهام بالواقع”، حيث تتغاضى عن استخدام النماذج التقليدية في سرد الحكاية، وكذلك لأن الفيلم الوثائقي هو بوابة العديد من المخرجين نحو العمل الروائي كما يقول المخرج الإيطالي لوكا غواداغنينو مخرج فيلم “نادني بِاسْمك” (وصفه المخرج بيدرو ألمودوفار بأنه أقوى فيلم في عام 2018).
قد يولد العكس عندما يتجه المخرج إلى تصوير أول فيلم روائي له بعد سنوات من التعامل مع الأفلام الوثائقية، وخاصة عندما يتجه إلى الاعتماد على ممثلين غير محترفين ويترك الأحداث والحوارات تتوالى كما لو كانت ارتجالاً بشكل يصل للمتلقي على شكل عمل وثائقي، وذلك رغم استخدام تقنية كتابة العمل الروائي. وهو ما نلمسه في الفيلم الوثائقي “3000 ليلة” للمخرجة الفلسطينية مي المصري، أو فيلم “يوم الدين” للمخرج المصري أبو بكر شوقي الذي انطلق أساسا من فكرة وثائقية قبل أن يأخذ العمَل إلى الروائي محاولا تجاوز التطابق الكبير بين الشخصية الحقيقية لبطل الفيلم “راضي جمال” وشخصية “بشاي” التي كتبها المخرج.
نلحظ زوال الكثير من الحدود بين الوثائقي والروائي، فالأفلام الوثائقية تتجه إلى الاعتماد على التمثيل مع تقليص أو إخفاء كامل لتقنية الشهادات التحليلية، خاصة في الأعمال الوثائقية التي تبحث عن تذكرة عبور نحو المهرجانات الكبرى، وهو شأن فيلم الوثائقي “عن الآباء والأبناء” للمخرج السوري طلال ديركي الذي تخطى عتبة القائمة الأولية للأوسكار، حيث يمنح المخرج مساحة كبيرة للحكي، وفي مهمة توثيق الواقع المرئي يغلب عليه الأسلوب السردي ويعيد صياغة المادة المصورة وفق منهج منظم.
التقاطعات بين الروائي والوثائقي لم تكن محور المسابقات الرسمية في عام 2018 فقط، بل يبدو أن الأمر شغل بال القائمين على المهرجانات العربية بشكل واسع، لتنظَّم للموضوع جلسات وندوات في محاولة تفكيك الظاهرة، وذلك من خلال البحث عن إجابة لسؤال: هل يجب أن ينطبق الأمر على جميع الأفلام الوثائقية اليوم؟
في هذا الإطار حاولت منصة مهرجان الجونة السينمائية بمصر في الدورة الثانية (20-28 سبتمبر/أيلول 2018) تقديم بعض الإضاءات في الموضوع بمشاركة مخرجين مارسوا عملية الدمج وخاضوا تجارب إخراج أفلام وثائقية وروائية. فقد نظمت الجونة ندوة بعنوان “كل شيء قائم على قصة حقيقية.. السرد في الأفلام الوثائقية والروائية” شارك فيها المخرجان الأمريكيان كيث فولتون ولو بيبي اللذان أوضحا أن ما يقوم به العديد من مخرجي الأفلام الوثائقية اليوم هو تطوير أساليب السرد القصصي من خلال كتابة سيناريوهات متعددة للشخصيات المحيطة بنا مع إضافة باهرات مثيرة لجعل القصة أكثر تشويقا، حيث تصبح الرؤية الإخراجية انعكاسا لصورة الحقيقة فقط، وليست الحقيقة الكاملة.