السينما الوثائقية الفقيرة.. السينما الوثائقية الباذخة

يفتح موقع الجزيرة الوثائقية ملف الوثائقيات العربية لعام 2018 فيبحث في أهم ما عُرض منها في العام المنصرم، وأهم ما حملته من مضامين وهموم، كما يناقش أبرز قضايا الإنتاج الوثائقي في هذا العام. ويبحث مقال عبد الكريم قادري أدناه في السينما الوثائقية الفقيرة التي نجحت رغم أنها لا تحظى بميزانية أو دعم يذكر، ونظيرتها الباذخة التي فشلت رغم ما حصلت عليه من دعم رسمي كبير.

فيلم "عن الآباء والأبناء" هو إنتاج مشترك بين سوريا وألمانيا ولبنان للمخرج السوري طلال ديركي

عبد الكريم قادري

أصبحت السينما الوثائقية من بين أهم القوالب الفنية التي تولّد الفكرة وتروج لها، وتساهم بشكل كبير في خلق نوع من الترفيه المهذب المدروس الذي يُشعر المُتلقي بالغبطة أثناء فعل المشاهدة، وتلقي المعلومة وحفظها في الذاكرة فيما بعد لتُخلد وتبقى، أي أنها تُوثق للحظات الجمال الكبرى، وتُعيد اكتشاف المعرفة بغض النظر عن مدى مطابقتها للحقيقة التي تتجلى بنسبيّة معيّنة من عمل لآخر.

ولأهمية هذه المحاور بدأ العالم العربي يعرف قيمة السينما الوثائقية وما تعكسه من قوة فنية، وبات يعطيها من الأهمية ما يُعطيه للأجناس السينمائية الأخرى، حتى وإن كانت درجة الاهتمام هذه تتفاوت من منطقة لأخرى. لكن المهم في كل هذا هو أن مكانة الفيلم الوثائقي محفوظة دائما، سواء في المهرجانات السينمائية التي باتت تُقام تقريبا في كل البلدان العربية، أو من ناحية التمويل المادي من قبل الحكومات والمؤسسات الرسمية، بالإضافة إلى صناديق الدعم والجهات الخاصة، هذا من ناحية.

لكن من الناحية الأخرى هناك الأفلام الوثائقية الفقيرة التي لا تملك أي مورد مادي يُعيلها، حتى إن وُجد هذا المورد فهو محدود وضعيف جدا، لكن أصحابها أو مخرجيها يمتلكون قوة الفكرة والموضوع، ومرجعية قوية للمضي قدما في التنفيذ.

لهذا بات وضع السينما الوثائقية في العالم العربي يسير في خطين متوازيين؛ السينما الوثائقية الباذخة المحظوظة بمصادر التمويل المختلفة، والسينما الوثائقية الفقيرة التي تجتهد لتثبت للعالم حضورها وموضوعها. لكن مبدأ التمويل من عدمه لا يعني ضرورة نجاح الخط الأول لأنه يملك ما يملك من التمويل وفشل الثاني لأنه لا يملك شيئا، بل إن نسبة النجاح والفشل يمكن أن تحدث لكل واحد منهما، لكن الغالب -كما لاحظنا في إنتاجات العالم العربي في صنف السينما الوثائقية لعام 2018- أن السينما الوثائقية الفقيرة هي التي حققت إنجازات وانتصارات، وتم تسليط الضوء عليها بشكل كبير، وهذا لعدد من الأسباب والمعطيات.

 

وثائقيات بميزانية منعدمة تحلق عاليا

لا يمكن في حال من الأحوال أن نقول بسهولة إن فيلم “أ” ينتمي إلى السينما الوثائقية الباذخة و”ب” ينتمي إلى الفقيرة، لأن بعض الأفلام تذكر أسماء المنتجين والشركات في بداية الفيلم ونهايته، لكن لا يمكن أن تعرف أبدا حجم هذا الدعم؛ فقد يكون عبارة عن وجبة عشاء، وقد يكون هذا الدعم مشاركة في دفع تكاليف الفيلم من خلال كراء العتاد وأجور العاملين وغيرها، لكن عندما نشاهد الفيلم يمكن اكتشاف هذا بسهولة عبر التقنيات والوسائل التي صنعت هذا الفيلم أو عن طريق تصريح المخرج وتقديمه لأرقام الإنتاج.

من هنا فقط يمكن تقديم التصنيف، وعلى ضوء هذه المعطيات يمكن ذكر بعض عناوين الأفلام الوثائقية التي حققت هذا النجاح رغم تقشفها المادي الظاهر، حيث يمكن تصنيفها في خانة السينما الوثائقية الفقيرة بسهولة تامة دون أن نقع في أي خطأ من ناحية التقدير. وقد جسّد هذا فيلم “عن الآباء والأبناء” (2018)، وهو إنتاج مشترك بين سوريا وألمانيا ولبنان للمخرج السوري طلال ديركي. وحسب ما جاء في ملخص الفيلم فإن القصة تدور حول طفلين هما أيمن وأسامة نشآ في كنف أسرة ربُّها يحلم بإقامة خلافة إسلامية، ومن هنا يبدأ المخرج طلال ديركي التركيز أثناء إقامته وسط عائلة إسلامية ينتمي معيلها إلى تنظيم القاعدة على تفاصيل حياتها اليومية لمدة عامين، وتنقل لنا كاميرته صورة نادرة عن معنى أن تنشأ في كنف أب حلمه الأكبر هو عودة الخلافة الإسلامية.

من أجل تحقيق وإنجاز هذا الفيلم الوثائقي عاش المخرج طلال ديركي في أحد المناطق السورية التي تخضع لنفوذ تنظيم القاعدة في سوريا، حيث سلط كاميرته على عائلة أحد قادة تنظيم جبهة النصرة المدعو “أبو أسامة” برفقة عائلته، وأظهر وطوال المدة التي عاشها مع هذه العائلة علاقة الأب الذي يحمل فكر القاعدة مع أبنائه الصغار. وبعيدا عن إدانة جهة على أخرى أو تغليب طرف على آخر؛ استطاع من خلال هذه المعايشة أن يكتشف عن الكثير من الأمور التي كان من الصعب أن يكتشفها المشاهد العادي، وذلك عبر فكّ شفرة العلاقات بين الأب وأبنائه، وتشريح فكره الجهادي وانتمائه ومراجعه وتوجهاته ونظرته لبلده وللعالم وقدوته، لكن الكاميرا كانت أقرب إلى العلاقة بين الأب وأبنائه، أي إيجاد ما هو إنساني في هذه العائلة.

 طبعا قبل تصوير هذا الفيلم استطاع طلال ديركي أن يقنع هذه الجماعة بأنه متعاطف معهم، وأنه سيخدمهم عن طريق الكاميرا، أي بعبارة أخرى خدعهم ليبقى بينهم، وقد نجح في هذا طبعا، لأننا لا نجد أي تحفظات في الفيلم، حيث الكاميرا تصور بسلالة، حتى الأطفال تعودوا عليها وأصبحوا لا يبالون بحضورها. والسؤال الجوهري هو عن كيفية انعكاس التقشف في هذا الفيلم.

الإجابة هي أن طلال ديركي هو المخرج وكاتب السيناريو وأحد الذين ذُكرت أسماؤهم في قائمة الإنتاج، وأكثر من هذا فقد أنجز هذا الفيلم رفقة المصور قحطان حسون، أي أن المادة الأساسية للفيلم وفرها المخرج رفقة شخص آخر، ويستطيع أن يبني فيلمه على هذا الأساس لأن الموضوع قوي وجدير بأن يُغطي على التصوير غير المضبوط في الكثير من الحالات، ناهيك عن ضعف ضبط الكادرات والصوت الباهت والمشوش في أحيان كثيرة، لكن المخرج فيما بعد استشعر نجاح الفيلم ووفر له دعما ماديا آخر، وذلك من خلال إدخال بطل آخر للفيلم انعكس في المونتاج “آنا فابينتي”.

ومن هنا نستطيع أن نقول إن الفيلم وبشكل أساسي استطاع أن يُنجَز بميزانية ضعيفة، لكنه في المقابل حقق العديد من الانتصارات على المستوى العالمي، آخرها وصوله إلى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار لعام 2018 من بين 15 فيلما وصلت إلى القائمة القصيرة، ومن قبلها حصوله على جائزة لجنة التحكيم لمهرجان صندانس السينمائي، كما شارك وفاز بعشرات الجوائز العالمية وأهمها في العالم العربي والشرق الأوسط مشاركته في المسابقة الرسمية بمهرجان الجونة السينمائي (عقد من 20 إلى 28 سبتمبر/تشرين الأول 2018)، وحصوله على جائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي عربي.

غير بعيدٍ عن سوريا، استطاع بعض المخرجين في لبنان أن يقدموا العديد من الأفلام الوثائقية التي يمكن أن نصنفها في خانة “السينما الوثائقية الفقيرة”، من بينهما فيلم “المرجوحة” 2018 الذي أخرجه وكتب له السيناريو وأنتجه وقام بمونتاجه أيضا سيريل عريس، وقد شارك الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية أهمها مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي ومهرجان الجونة السينمائي، وهذا ضمن المسابقة الرسمية، وبوسعنا أن نقول إن هذا الفيلم أُنتج بميزانية منعدمة تماما تقريبا.

فيلم "على آثار المحتشدات" يتمحور حول عمليات عزل جيش التحرير الوطني عن السكان، حيث قام المستعمر الفرنسي بترحيل وتهجير نحو ثلاثة ملايين من الجزائريين

وثائقيات بميزانيات ضخمة تراوح مكانها

هناك العديد من النماذج في العالم العربي عن السينما الوثائقية الباذخة التي تنتهي بمجرد عرضها الرسمي الأول، ومن الصعب الوقوف عليها إلا إن كان المشاهد لها ابن البلد ومهتم بما يُنتج في بلده، لأن معظم المهرجانات في العالم العربي تجلب الأفلام الجيدة لها ولا تبحث عن السينما الباذخة أو الفقيرة، لهذا فإن السينما حتى وإن رُصدت لها أموال من المؤسسات الرسمية ولم تكن جيدة بما يكفي أو أن موضوعها لا يغري؛ فإنها تموت في بلدها طبعا، وعليه من الصعب على نقاد السينما وحتى المهتمين بها أن يطلعوا عليها.

وهنا نقدّم نموذجين لهذا البذخ في الدعم من خلال إنتاجات 2018، لكنهما لم يقدما أي جدوى فنية ولم يغادرا حدود بلد الإنتاج إلا فيما ندر، أو عن طريق مجاملة ما من مهرجان يصعب تصنيفه. وهذا ما يعكسه مثلا فيلم “على آثار المحتشدات” (2018) الذي كتب له السيناريو وأخرجه السعيد عولمي، وهو إنتاج جزائري شاركت في دعمه العديد من المؤسسات الرسمية أبرزها مؤسسة التلفزيون الجزائري الرسمي. وحسب ملخصه فإن القصة (74 دقيقة) تتمحور حول عمليات عزل جيش التحرير الوطني عن السكان، حيث قام المستعمر الفرنسي بترحيل وتهجير نحو ثلاثة ملايين من الجزائريين كلهم شيوخ ونساء وأطفال ليوضعوا في المحتشدات تحت المراقبة الكاملة للجيش الفرنسي.

كما يروي الفيلم قصة المحتشدات، ويتطرق للظروف المأساوية واللإنسانية التي عاشها نحو 40% من السكان الجزائريين الذين أُجبروا على مغادرة قراهم وأراضيهم قهرا، ويكشف بالشهادات الحية والصور والوثائق والأرشيف كل أشكال العنف والإهانة التي تعرض لها الشعب الجزائري منذ الاحتلال الفرنسي، وهي قصة أليمة مجهولة إلى يومنا هذا.

ورغم الإمكانيات الكبيرة التي توفرت للفيلم فإنه يبقى مجهولا في نظر الكثيرين، لأنه لم يتعد خارطة الجزائر رغم البذخ المالي الذي حظي به.

وهذا ينطبق أيضا على فيلم المُخرج سليم عقار “معركة الجزائر”، وقد تلقى هو الآخر دعما رسميا لكنه لم يحقق أي جدوى فنية. وحسب ما جاء في ملخصه فإن القصة جاءت بعد مرور خمسين عاما من عرض فيلم “معركة الجزائر” في يونيو/حزيران 1966، حيث يلتقي المخرج سليم عقار بعد عمل بحثي استمر نحو سنة ونصف بالممثلين والتقنيين الذين عملوا في هذا الفيلم الذي أخرجه جيلو بنتيكورفو وأنتجه ياسف سعدي.

ويهتم هذا الوثائقي بالسياق الاجتماعي والثقافي والسينمائي للفيلم، إضافة إلى أثره على جيل عاش الاستقلال حديثا، كما لا يخلو من المواقف والشهادات، حيث يلتقي سليم بمن جسدت شخصية الشهيدة حسيبة بن بوعلي، وعدد من الممثلين الذين لم يتجاوز سنهم آنذاك عشر سنوات، وقد حدث له ما حدث للفيلم الذي سبقه، فكانت عُروضه محدودة جدا قبل أن يتم بثه تلفزيونيا.

المخرج الجزائري المقيم في فرنسا حميد بن عمرة حققه في فيلمه "هواجس الممثل المنفرد بنفسه" (2017) و"حزام" (2017) نجاحا كبيرا على المستوى العربي وحتى العالمي

حميد بن عمرة.. ميزانية الرغيف اليومي

على عكس النموذجين السابقين كمثال على السينما الباذخة التي لا تقدم أي جدوى جمالية أو فنية، نقدم نموذجا آخر كإشارة سريعة فقط، وهو ما حققه المخرج الجزائري المقيم في فرنسا حميد بن عمرة في فيلمه “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” (2017) و”حزام” (2017)، فقد حقق الفيلمان –على الرغم من أن الميزانية التي اعتمدها المخرج صفر- نجاحا كبيرا على المستوى العربي وحتى العالمي، وقد سبق وأجرينا معه حوارا نُشر في الجزيرة الوثائقية، ومن جملة الأجوبة قال لنا فقرة تخدم موضوع المقال “كوبريك كان حُرّا فعلا لكن بميزانيات ضخمة، وأنا حُرّ مثله بميزانية الرغيف اليومي وديون طائلة”.

هكذا انتهت سنة 2018 مليئة بنجاحات السينما الوثائقية الفقيرة المحدودة الميزانيات، على عكس السينما الوثائقية المدعومة رسميا وبميزانيات كبيرة. لكن لا بد أن نشير إلى أن هذه الإنتاجات رغم قلتها ومحدوديتها تشير إلى أن هناك وعيا في مجال السينما الوثائقية، وهذا ما يبشر بمستقبل مشرق لهذا الفن الذي تظهر أهميته يوما بعد آخر.


إعلان