“ثلاثة وجوه”.. انتصار على الأعراف المحليّة في إيران

عدنان حسين أحمد

 

على الرغم من المنع الذي تعرّض له المخرج الإيراني جعفر بناهي من مزاولة عمله السينمائي لمدة 20 عامًا خلال فترة الحظر السارية المفعول، فإنه أنجز أربعة أفلام روائية ووثائقية، وهي “هذا ليس فيلمًا” و”الستارة المغلقة” و”تاكسي” وفيلمه الرابع “ثلاثة وجوه” الذي تنافس على السعفة الفضية في مهرجان كان عام 2018 وفار بجائزة أفضل سيناريو بالاشتراك مع نادر ساعي فرّ.

يتمحور الفيلم على ثيمة إشكالية مفادها خرق العادات والتقاليد الاجتماعية التي توارثها الشباب الإيرانيون عن آبائهم وأجدادهم خلال قرون عديدة، فهل تستطيع فتاة يافعة أن تتمرد على الثوابت الأخلاقية وتنتصر عليها؟ آخذين بعين الاعتبار أنّ المدن الإيرانية أكثر تقبّلاً لقيم الحياة العصرية من القرى والأرياف التي تقاوم بشدّة هذه المفاهيم الحديثة، وتلتزم بالأعراف التي تربّت عليها وآمنت بها، فلا غرابة أن ينبذ أهالي قرية “ساران” أحلام وتطلعات ابنتهم الشابة “مرضية” لأنها تريد أن تصبح ممثلة وتمارس الرقص والغناء على المسارح، وهو الأمر الذي يعتبره القرويون ضربا من الفساد الأخلاقي.

 

جعفر بناهي.. تيار الموجة الجديدة

قبل الخوض في تفاصيل هذا الفيلم الدرامي -الذي يُصنّف أيضًا ضمن “أفلام الطريق” (Road Movies) لكنه ينبش في قاع المجتمع الإيراني- لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المخرج جعفر بناهي ينتمي إلى تيار الموجة الجديدة الثانية التي تضمّ بين دفّتيها أبرز المخرجين الإيرانيين أمثال أمير نادري وعبّاس كياروستمي ومحسن مخملباف، إضافة إلى أصغر فرهادي ومجيد مجيدي، وغيرهم من روّاد الحداثة السينمائية الإيرانية الذين لا يجدون حرجًا في الإقرار بأنّ موجتهم الجديدة استعارت خصائص السينما الأوروبية، وخاصة في ما يتعلّق بالواقعية الإيطالية الجديدة التي أثّرت على السينما الآسيوية والأفريقية على وجه التحديد.

يركّز بناهي في عموم تجربته السينمائية على قضايا المرأة ودورها الحيوي في المجتمع الإيراني، بل إن فيلم “ثلاثة وجوه” مَدار بحثنا ودراستنا النقدية يقوم على ثلاث شخصيات نسائية ترتكز عليهن المسارات السردية للفيلم، هذا إذا وضعنا جانبًا بقية الشخصيات التي أغْنت القصة السينمائية وعمّقت مضمونها الإنساني.

لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن أفلام بناهي تنطوي على لمسة شعرية لعله استوحاها من أستاذه عباس كياروستمي الذي تُصنّف أفلامه بأنها ما بعد حداثية. فلا يميل بناهي إلى تجسيد العنف في كل الأفلام التي أنجزها، فهو يُظهِر الشخصية المُعنَّفة لكنه يُبعِد الجاني عن الشاشة، والغريب أن بناهي يعتقد بأن الجميع طيبون، ولهذا تغيب الشخصيات الشريرة من قصص أفلامه.

الشابة “مرضية” تفكر بالإقدام على الانتحار بعد أن يئست من عائلتها وأسرة خطيبها والمجتمع القروي الذي نبذها

 

انتحار “مَرْضِيّة”.. حقيقة أم فبركة؟

يصدم المخرج جعفر بناهي متلقّيه منذ اللقطة الاستهلالية للفيلم، وذلك حين يُقدِّم لنا الفتاة الشابة “مرضية” وهي تُوضِّح الأسباب الرئيسية التي تدفعها للإقدام على الانتحار بعد أن يئست من عائلتها وأسرة خطيبها والمجتمع القروي الذي نبذها وعاملها بقسوة غير مسبوقة حين اعتبرها مرضًا مُعديًا شديد الخطورة، لأنها تريد أن تصبح ممثلة شأنها شأن جميع الممثلات اللواتي تكتظ بهن العاصمة طهران وبقية المدن الإيرانية الكبيرة.

لا شك في أنّ الانعطافة الأولى (Turning point) في الفيلم هي ضربة فنية مؤثرة وضعتنا جميعًا في حالة استنفار كي نعرف إن كانت عملية الانتحار في نهاية الفيديو المُصوّر حقيقية أم فبركة، فالممثلة المعروفة بهناز جعفري تعتقد أن هناك قَطْعًا في التصوير تمت مَنتجَته بطريقة ما، بينما يعتقد بناهي بعدم وجود هذا القطع الذي لا يتمكن أحد من القيام به إلاّ إذا كان خبيرًا بالمونتاج، فمن أين يأتي الشخص المحترف في هذه الأرض النائية القفراء؟

لقطة  تجمع مخرج فيلم “ثلاثة وجوه” جعفر بناهي مع الممثلة المعروفة بهناز جعفري

 

بنية ثلاثية.. شهرزاد وبهناز ومرضية

ترتكز القصة السينمائية المحبوكة على بِنية ثلاثية قوامها ثلاث نساء من أعمار وأجيال وخلفيات مختلفة، وكأنّ المخرج يُذكّرنا باهتمامه الدائم بقضايا المرأة ودورها في المجتمع الإيراني والمآل الذي وصلت إليه.

ويجب أن نلفت عناية القارئ الكريم بأنّ هذا الفيلم الدرامي المرهف يحتاج إلى قراءة مجازية تُحلّل اللقطات والمَشاهد المعبِّرة التي لم تأتِ عفو الخاطر، وإنما جاءت عن قصد ونوايا مسبقة لكاتب النص ومُخرجه.

فالمرأة الأولى هي الفنانة المتعددة المواهب شهرزاد التي تمارس الغناء والرقص والتمثيل، كما أنها تحب الرسم، وتقرأ القصائد الشعرية بصوتها الرخيم الذي يهزّ مشاعر المستمعين. لكن نجومية هذه السيدة تنتمي إلى زمن الشاه الذي لم يُضيّق على الحريات الشخصية، وكان بإمكان المرأة الإيرانية أن تمارس جميع الفنون ولا يحق لأحد أن يكبح جماحها، لكن ما إن سقط نظام الشاه حتى أخذت الحياة الاجتماعية منحىً آخر حيث مُنع الغناء وحُظرت الموسيقى والحفلات الراقصة، وألقى التشدّد بظلاله على القيم والمظاهر الثقافية الوافدة من الغرب الأوروبي، بحيث انتهى مصير هذه الفنانة الشهيرة إلى العزلة والنبذ والنسيان، فهي تعيش وحيدة في بيت منزوٍ في ضاحية القرية، ولا تخرج منه إلا لرسم الطبيعة التي تحبها وتستمتع بمشاهدها الخلابة.

أما المرأة الثانية التي اختارها المخرج فهي ممثلة مشهورة تُدعى بهناز جعفري التي يعرفها الجميع تقريبًا ويتابعون أدوارها في المسلسلات التلفزيونية، وقد رأيناها في قرية ساران وهي توقّع الأوتوغرافات للفتيات المعجبات بها، كما يعرفها الرجال والنساء الكبار في السن الذين ناقشوها في بعض تفاصيل المسلسل الذي يشاهدونه في هذه القرية النائية.

وبما أنّ بهناز جعفري ممثلة ذائعة الصيت؛ فقد لجأت إليها الشخصية الثالثة مرضية رضائي التي تُعتبر العصب النابض في الفيلم، فهي بحسب الفيديو المصوّر الذي أرسلته إلى الفنانة بهناز جعفري تقول إنها تحب السينما منذ صغرها ولطالما حلمت بأن تُصبح ممثلة، وقد درست كثيرا من أجل تحقيق هذا الهدف، ونجحت في مسابقة معهد الفنون المسرحية، لكن العائلة نبذتها وخطيبها خذلها، ولم يبق أمامها سوى هذه الرسالة المصورة التي يمكن أن تستدرج بها بهناز وتضطرها للمجيء عسى أن تقنع عائلتها المتزمتة التي تزدري التمثيل وتعتبره مجلبة للتحلل الأخلاقي، وقد رأينا شقيقها الأصغر في ذروة انفعاله يرفض رفضًا قاطعًا أن تنخرط أخته في هذا المضمار المعيب اجتماعيًا.

وفي سياق هذه البنية الثلاثية تقوم بهناز بإرجاع مرضية إلى أسرتها، لكن شرط أن يتعهدوا بعدم الإساءة إليها من قِبل أخيها على الأقل. وبما أن الأب الذي ذهب إلى طهران كي يفتش عن ابنته المتوارية أقلّ تشددًا من ابنه؛ فهو يشكر بهناز على هذا المسعى، ويستقبل ابنته الذكية المتمردة التي تحارب من أجل مستقبلها، بينما يطرد ابنه العنيف خارج المنزل، وذلك في إشارة إلى قبوله بالأمر الواقع وموافقته الضمنية على تحقيق حلمها الفني الذي كرّست حياتها من أجله.

المخرج جعفر بناهي مع الممثلة بهناز جعفري يستمعان إلى قصص الناس ومعاناتهم

 

خزعبلات وحكايات خرافية

يزخر الفيلم بالعديد من الصور المجازية التي تختبئ وراء الصور الحقيقية التي يقدّمها لنا المخرج الفَطِن جعفر بناهي، وسنتوقف عند بعضها بحسب الأهمية الميتا سردية (ما وراء الرواية) لهذه الصور البليغة، والتي تعكس ذهنية صانع الفيلم ورؤيته الإخراجية في الوقت ذاته.

فالطريق بين طهران وقرية ساران التابعة لمحافظة أذربيجان الشرقية طويل ومعبّد، لكنه ما إن يصل إلى المنطقة الجبلية حتى تبدأ المعاناة الحقيقية للناس، فالشارع الوحيد المتعرّج الذي يصل إلى القرية يصبح ترابيًا وعرًا ولا يتسع إلا لمرور سيارة واحدة، وذلك في إشارة واضحة إلى أن الخدمات التي تقدّم لأبناء القرى ضعيفة جدًا إن لم تكن معدومة في هذا المضمار. وحينما حملت مرضية مِعولها لتوسيع بعض المناطق الضيقة في الطريق الملتوي الذي يفضي إلى قريتها؛ ثارَ القرويون عليها بحجة أن المعول والمجرفة هما شرف الفلاح، ولا يجوز للمرأة أن تستعمله حتى لو كان الهدف خدمة المواطنين الرجال أنفسهم.

يعتمد الفيلم على عدد من القصص والحكايات الخرافية التي تنسجها الذاكرة الجمعية للناس البسطاء، فقد رأينا السيدة الطاعنة في السن فاطمة إسماعيل نجاد وهي تجرّب قبرها المحفور حديثا كي تعتاد عليه بوصفه المنزل النهائي لها، وقد وضعت عند رأسها فانوسًا يضيء لها عتمة القبر، ويكشف لها الثعابين التي ستأتي إليها ليلاً لتحاسبها على الآثام والأخطاء التي اقترفتها طوال حياتها.

لم يتوقف الأمر عند هذه الخزعبلات والاعتقادات الباطلة، وإنما تعداها إلى قناعات وأوهام عجيبة، فثمة رجل كبير يحمل قلفة ابنه الصغير (اللحمة التي يقطعها الخاتن من ذَكَرِ الصبيّ) الذي طهّروه حديثًا في صُرّة قماشية سلّمها إلى السيدة بهناز، ملتمسا منها أن تعطيها إلى المخرج كي يدفنها في فِناء الجامعة، عسى أن يصبح ابنه طبيبا أو مهندسا، فهو موقن تماما أن هذه القلفة إذا دُفنت في ساحة سجن ما فإن الطفل سيصبح مجرمًا بالضرورة.

أما الصورة المجازية الرابعة فتتمركز حول الثور الذي سقط من سفح جبل وأغلق الطريق الوحيد المؤدي إلى القرية، وحينما اقترح جعفر بناهي ذبح الثور أو إزاحته قليلاً عن الطريق كي يمرّ؛ بدأ مالكه بسرد خصائص هذا الثور ومآثره الخرافية، فهو يلقح عشر أبقار في الليلة الواحدة، كما أنّ محافظة أذربيجان برمتها وإيران كلها لا تمتلك مثل هذا الثور العجيب الذي يدرّ عليه أموالاً طائلة، بينما تتحرك عدسة الكاميرا على الثور المنبطح أرضا والعاجز عن الإتيان بأي حركة. لا شك في أنّ الإحباط سيخيّم على أصحاب الأبقار التي لن تجد من سيلقحها غدًا، فالثور متكوّم على الطريق مثل جثة هامدة، وخوار الأبقار يتصاعد في فضاء القرية مثل نداءات صريحة لا تجد من يردّ عليها.

الممثلة ذائعة الصيت بهناز جعفري التي يعرفها الجميع ويتابعون أدوارها في المسلسلات التلفزيونية دوما

 

أحلام مشروعة في وجه الأعراف

وقبل أن يمضي الفيلم صوب نهايته التي باتت معروفة الآن؛ يعود المخرج جعفر بناهي إلى العاصمة كي يوصل الفنانة بهناز جعفري إلى موقع التصوير، والذي تخلت عنه وسافرت كي تقف على مصير الشابة مرضية رضائي العاشقة الجديدة للسينما والمسرح، وقد فاجأت مرضية المُشاهدين وهي تركض خلف الممثلة بهناز التي ترجلت عن السيارة وقررت أن تقطع بعض المسافة سيرًا على الأقدام، وذلك في إشارة مجازية صريحة بأن الأعراف والتقاليد مهما كانت قاسية فإنها لن تستطيع أن تقف بوجه الأحلام المشروعة، حتى وإن انبثقت من قرى مطموسة لا أثر لها على خرائط الأوطان التي تناوئ القيم الجديدة وتناصبها العداء بحجة التشبث بالعادات المحلية التي لم يعد بعضها ملائمًا لروح العصر الذي نعيش فيه.

ختامًا لا بدّ من القول إنّ سلاسة الفيلم لا تعود فقط إلى براعة كاتب السيناريو وحِرَفية المخرج، وإنما ترجع إلى المونتيرة “مستانة مُهاجر” التي لم تترك لقطة مهلهلة تتسرب إلى سياق النص البصري الذي تميّز بالسرعة والتدفق، بحيث اندمج المُشاهد مع الأحداث، وتماهى مع جماليات التصوير والأداء والرؤية الإخراجية لصانع الفيلم الذي قدّم خطابًا بصريًا جريئًا يراهن على الأشكال التجريبية الجديدة، والمضامين التنويرية التي تسعى للارتقاء بذائقة المُشاهدين في كل مكان.


إعلان