العالم وفقا لشي جين بينغ.. الزعيم الصيني يبحث عن الإمبراطورية
قيس قاسم

على خلاف زعماء الصين التقليديين، قام الرئيس شي جين بينغ بكسر حالة الانكفاء والانغلاق التي أحاطوا أنسفهم بها، متعمداً لذلك الظهور دوماً بصحبة كبار قادة دول العالم ومشاركتهم اجتماعاتهم ومؤتمراتهم الدولية. وعلى عكس قادة الحزب الشيوعي الصيني عمل على أن يقدم نفسه كداعية ومدافع عن حقوق الإنسان ومن المتحمسين لحماية البيئة وتحسين الظروف المناخية، وأيضاً كواحد من أشد المؤيدين لمبادئ التجارة الحرة.
صورته تلك لم تدم طويلاً، فبعد سنوات قليلة من توليه القيادة بدأت تنجلي بشكل أوضح رؤيته الحقيقية للعالم، وبدت ملامح شخصيته كقائد “ماوي” بالظهور عبر سياساته وأفكاره المتعارضة مع كل ما كان يصرح به.
المخرجة لويسة مولر في وثائقيها “العالم وفقا لشي جين بينغ” أخذت تستقصي حقيقة شخصيته من خلال البحث المعمق في سيرته الذاتية وربط أكثر محطاتها دراماتيكية بخطواته العملية اللاحقة نحو بناء صين جديدة قادرة على قيادة العالم، وأن يكون هو “زعيماً فوق الجميع” كما يُسميه الصينيون اليوم.
خيانة الحزب.. تاريخ عائلي مشين
على هدى المقولة المشهورة “إذا أردت معرفة زعيم صيني عليك معرفة تاريخه الحزبي” سارت صانعة الوثائقي، وأخذت بتتبع مسار وصوله إلى القمة عبر قراءة تحليلية تاريخية لطبيعة علاقته بالحزب الشيوعي الصيني. ولتحقيق هذا المسار كان عليها الرجوع إلى طفولته ونشأته العائلية وإلى كل ما يساعد على فهم تكوينه الفكري والسياسي، خاصة وأنه أظهر بعد توليه مسؤولية قيادة البلاد سلوكاً “رهبانياً” في خضوعه لتعاليم الحزب وصلت حد التقديس.
لم تكن الزعامة غريبة على “شي” فوالده كان من بين القياديين المقربين من الزعيم ماو تسي تونغ وهو أحد مؤسسي “الصين الشعبية”. عاش شي المرحلة الأولى من طفولته مرفهاً في “المدينة الممنوعة” المخصصة لقادة الحزب دون سواهم. تلقى تعليماً خاصاً، وتأثر بالأفكار الماوية في صباه بحكم قوة تيارها الجارف.
لكن ذلك لم يستمر طويلاً، ففي عام 1962 وُجهت إلى والده تهمة “خيانة الحزب” و”الانضمام إلى صفوف الثورة المضادة”. رأى بأم عينه -وهو في سن العاشرة- العار الذي لحق بوالده، وعاش اللحظة التي أُجبر فيها على الاعتراف بذنبه ونقد ذاته علناً أمام الحشود المندفعة. في تلك اللحظة أصبحت عائلته في عداد خونة الشعب، وما كان عليه سوى الابتعاد عنها حتى يتجنب ما لحق به من عار بسبب مواقفها.

خدمة الماوية.. إعادة تأهيل
يشرك الوثائقي متابعه الإحساس الطاغي بالهوان الذي تحمله شي، وصبره على إهانات زملائه الطلبة وإشاراتهم إليه كابن رجل خان الثورة الثقافية. وللتبرؤ من التهم المُخجلة قرر الوقوف مع القوي المسيطر وترك الطرف المنهزم حتى لو كان على حق. ذلك السلوك سيفسِّر لاحقاً حماسته الزائدة في إثبات ولائه المطلق لقادة الحزب، حتى بعد قرارهم معاقبته وإرساله للعمل في معسكرات “إعادة التأهيل”.
أُرسل شي في سن الخامسة عشرة من عمره للعمل كمزارع بسيط في منطقة “الأراضي الصفراء”. ذاق خلال السنوات السبع التي قضاها فيها طعم الحياة القاسية وتعرض فيها لأنواع الذل، ومع ذلك لم يجرؤ على إعلان رفضه لها، حتى في يومياته التي كتبها هناك تجنب الإشارة إليها، بل على العكس راح يقرأ تعاليم ماو بحماسة، ويحفظها عن ظهر قلب ليثبت صدق إيمانه بها.
وبدلا من الانتقام لوالده حتى بعد إعادة الاعتبار إليه مضى في تنفيذ قراره؛ وهو العمل بكل ما استطاع لخدمة الماوية والسلطة. وقد أفاد سلوكه المنضبط وحماسته الزائدة في إقناع القيادة بولائه المطلق لمبادئ الحزب وبالتالي قبوله عضواً في صفوفه وتعيينه بعدها بفترة وجيزة سكرتيراً في أحد مكاتب وزارة الدفاع.

حذر ودهاء.. الطريق إلى القيادة
يصف من التقاهم الوثائقي من خبراء غربيين بالشأن الصيني وبعض المنشقين من الحزب سلوكه بـ”متلازمة أستوكهولم”، وهي حالة نفسية مرضية تتعاطف فيها الضحية مع جلادها، فقد أبدى شي تعاطفا وقبولا كاملا لسلوك الجلاد إلى درجة أنه أنكر أهله واتخذ من الحزب بديلاً عنهم.
قرر شي العمل على أن يكون قائداً، تزوج من مغنية مشهورة وعضوة مرموقة في “جبهة التحرير الشعبي”. علمته زوجته السلوك الراقي، وقدمته إلى النخب الحزبية وساعدته على الظهور أمام الناس كشخصية جذابة تجمع بين المبادئ والقيم الحزبية وبين الانفتاح العصري المطلوب.
وأثناء أزمة 2007 التي عصفت بالحزب الشيوعي الصيني، برزت الحاجة لقيادة بديلة عن القيادة التي أزيحت، وتوفرت له فرصة نادرة بسببها لوضع قدميه على طريق طالما رسمها في ذهنه وجاءت اللحظة المناسبة لتحقيق ذاته وطموحاته الكبيرة عبرها.
صعد بهدوء وبحذر شديدين تعلمهما من تجربته في المزارع والحقول، فأزاح منافسيه داخل الحزب بدهاء. وفي عام 2012 اختير سكرتيراً للحزب، وبعدها مباشرة انتخب رئيساً للصين.
على المستوى الأسلوبي للوثائقي فإنه اعتمد في تنفيذ الجزء المتعلق بسيرته الذاتية على الخامات الفيلمية والبصرية وقسم كبير منها تم عرضه لأول مرة، وهو ما يكشف عن جهد إخراجي كبير سيكتمل في البحث التحليلي السياسي لمرحلة ما بعد توليه الزعامة.

نزعة قومية.. استعادة المجد الإمبراطوري
ما إن وصل إلى دفة الحكم حتى شرع الزعيم شي جين بينغ بتنفيذ أفكاره المعتمدة أساسا على قناعته الراسخة بأن الصين قادرة على استعادة مجدها الإمبراطوري حتى مع وجود الحزب. فلا تعارض عنده بين وجود الحزب والتاريخ، بل حرص على الربط بين الزمنين الشيوعي والإمبراطوري.
سيشهد عهده حضوراً طاغياً للنزعة القومية الصينية، ونبذاً للفترات المظلمة في تاريخه، وسيلح على تذكير شعبه بـ”حرب الأفيون” التي خسرت الصين فيها هيبتها وعظمتها أمام بريطانيا، كما سيلح على تجاوزها عبر تحقيق “الحلم الصيني الجديد”.
سيكتشف سريعاً قادة الغرب ومنظروه أنهم خُدعوا بكلامه المعسول وشعاراته الليبرالية، فكل ما كان يريده في الحقيقة هو بناء إمبراطورية صينية جديدة على حساب مصالحهم، وسيزيد اكتشافهم للـ”الوثيقة رقم 9″ السرية التي حدد فيها أفكاره وشخّص القوى المعرقلة لتحقيق “الحلم الصيني” قناعاتهم بقدرة الزعيم الجديد على المراوغة والتلوَّن. فبنود الوثيقة تعتبر القيم الليبرالية الغربية والديمقراطية عدو الصين الأول، ولا بد من منع عبورها السور الصيني العظيم بأي شكل. ولتنفيذ مشاريعه والسيطرة على العالم وضع بنداً واضحاً فيها يُلزم شعبه بالسير خلفه وتنفيذ سياساته.

مشاريع توسعية.. طريق الحرير الجديد
يتوصل الوثائقي بعد بحث دقيق في سياسات الصين الاقتصادية أن مشروع “طريق الحرير الجديد” هو العلامة الأبرز في نهج الزعيم الصيني للسيطرة على العالم، فهو تاريخياً أكبر مشروع تجاري خارج حدود الصين، وكلفته تبلغ نحو ألف مليار دولار، حيث يربط بسكك حديد وطرق بحرية وبرية قارة آسيا والشرق والأوسط بأوروبا وأفريقيا ويصل حتى جنوب أمريكا. إنه مشروع كوني جديد لم يعرف العالم مثله من قبل، مشروع يتناغم مع فكرة إضعاف السيطرة الغربية على العالم وكسر احتكارها الاقتصادي.
من بين ما يتوصل إليه بحث الوثائقي العميق؛ رغبة الصين إشراك الدول الفقيرة في مشاريعها من خلال وعود بتحسين بنيتها التحتية وحصولها على منافع كبيرة جراء تعاونها، لكن الواقع يكشف عن ميل توسعي لا يختلف عن غيره.
فمثلاً ما وعدت به الصين سريلانكا لم يتم تحقيقه، على العكس لقد أثقلت القروض الممنوحة لبناء وتوسيع موانئها التجارية كاهلها الاقتصادي، وعوضا عن تمديد فترة تسديدها ألزمتها الصين بتوقيع معاهدة جديدة معها تمنحها حق استثمار الموانئ لمدة 99 عاماً مقبلة.
وعلى المستوى الأوروبي اتبعت الصين سياسة تفكيك الترابط الأوروبي عبر شراء موانئ بعض دولها بمبالغ كبيرة ووعود بتقليل البطالة بين سكانها كما فعلت يوم اشترت ميناء بيريوس اليوناني، فقد استغلت أزمة اليونان الاقتصادية الحادة لشراء موانئ إستراتيجية منها، والهدف الخفي من وراء ذلك -كما اتضح في مسار الوثائقي الممتع بغزارة معلوماته- هو التأثير على قرارها السياسي وأيضاً لكسر احتكار الغرب الطويل للتجارة العالمية لتحل هي في النهاية مكانه.
لقد أحدثت سياسة الصين الجديدة انشقاقاً بين الدول الأوروبية، فبينما تقبل بها الدول الفقيرة والباحثة عن حلول لمشاكلها كالبرتغال واليونان، تُعارضها القوية كألمانيا وفرنسا. لقد ضمنت الصين بشرائها بعض موانئ البرتغال واليونان “فيتو” أوروبيا يعوق صدور قرارات تدين أو تنتقد خرقها حقوق الإنسان وحرية تعبيره.
وفي أفريقيا فتح مشروع “طريق الحرير الجديد” باب التوسع العسكري أمامها واسعاً، فقد وافقت جيبوتي على بناء قاعدة عسكرية صينية على أراضيها تعتبر تاريخياً الأولى من نوعها خارج حدود الصين.
وعلى المستوى الآسيوي سيطرت الصين بالقوة على جزر سبارتلي وبراسيل الواقعة في بحر الصين وفرضت وجودها هناك كأمر واقع.

حقوق وحريات.. في خدمة الإمبراطور
على المستوى الداخلي ووفق ما ثبته الوثائقي خلال مساره، فإن الزعيم الصيني يحافظ على نفس النهج الذي اختطه أسلافه فيما يتعلق بحرية التعبير، فالإعلام -وبخاصة القنوات التلفزيونية- مازالت حكراً على الدولة والحزب ولا يُسمح لها بتوجيه أي نقد للسلطة، ومبرر التحكم الدائم بمصائر الناس ما زال هو نفسه، فـ”نحن الصينيون عائلة واحدة لا يصح أن ننشر غسيلنا القذر في الخارج”.
وحسب ما توصل إليه الوثائقي فإن حرية الصحافة في عهد شي جين بينغ أضحت أسوأ مما كانت عليه من قبل، ويغطي التحشيد باسم الحلم الصيني العظيم على الكثير من الممارسات القمعية، فجزء من نظرة الزعيم الصيني إلى العالم مبنية على مقاربة “إمبراطورية قديمة تعامل شعوبها كجنود مكلفين بخدمة الإمبراطور”.. ولتحقيق أحلامه التوسعية يجري دوماً التضحية بهم.