السينما في بنغلاديش.. فيلم من الأمس وفيلمان من اليوم

دكا-ندى الأزهري

جوي راج بطلة فيلم السفينة البرتقالية

لا يمكن الحديث عن السينما في بنغلاديش دون ذكر فيلم بات جزءا رئيسيا من تاريخها، فيلم يُشار إليه كـ”أسطورة” وتراث ثقافي؛ إنه فيلم “أغنية الحرب” أو “موكتير غان” باللغة البنغالية لطارق وكاترين مسعود. وهو فيلم تاريخي وثائقي عن تلك الفترة التي خاضت فيها بنغلاديش أو ما كان يُعرف بباكستان الشرقية حربها للاستقلال عن باكستان “الغربية”، والتي انتهت في ديسمبر/كانون الأول 1971 بتأسيس جمهورية بنغلاديش.

فيلم خاص يحتوي على لقطات نادرة مصورة عن هذه الحرب، ويستكشف تأثير الهوية الثقافية على مجرياتها، فقد كانت الموسيقى والأغاني مصدرًا للإلهام لدى المقاتلين من أجل الحرية ورابطا روحيا للأمة الناشئة.

المخرج البنغالي طارق مسعود اكتشف بالصدفة أثناء إقامته في الولايات المتحدة أن مصورا أمريكيا يدعى ليار لوفان صوّر في بنغلاديش لقطات فيديو أثناء متابعته فرقة غنائية من المقاومة كانت تلفّ المدن والقرى ومخيمات اللاجئين لتنشد الأغاني الوطنية.

كانوا مجموعة من الشباب والشابات من الموسيقيين والممثلين على رأسهم المغني مشاد علي، يعبرون البلاد مع عروضهم المؤثرة وأغانيهم الحماسية والحزينة عن القتل العنصري. في تلك الفترة كان المصور الأمريكي في بنغلاديش فطلب من الفرقة مرافقتها في كل تنقلاتها وتصويرها. وعلى الرغم من أنه أمريكي وأمريكا كانت تساند باكستان حينها، قبلت الفرقة وجوده معها.

بقيت الأشرطة بحوزة المصور دون أن يتصرف بها أو يجد لها وسيلة للعرض، إلى أن قام طارق مسعود باكتشافها والحصول عليها وإدراجها في فيلمه الذي أطلق عليه “أغنية الحرية”.

حين عُرض الفيلم في بنغلاديش عام 1991؛ نال إقبالا مذهلا، وكان الجمهور من أطفال وشباب ورجال يتعرفون على أفراد من عائلاتهم شاركت في الحرب، ويقولون هذه أمي وهذا أخي وذاك أبي. هذا ما أخبرتنا به الدكتورة نايلة زمان خان، وكانت بطلة رئيسية في الفيلم، في ندوة عقدت بحضورها في مهرجان دكا الدولي السينمائي الذي نُظّم ما بين 10 و18 يناير/كانون الثاني.

وإلى جانب ندواته وتظاهراته ومسابقاته؛ أتاح هذا المهرجان عرض بانوراما لأفلام من بنغلاديش اليوم قدّمت فيها عشرة أفلام حديثة، ودعي إليها محكّمون من الاتحاد الدولي لنقاد السينما (فيبرسي) لاختيار الأفضل.

الفخ القديم لمعصوم عزيز فاز بجائزة النقاد الدولية في مهرجان دكا الدولي (فيبرسي)

سينما مستقلة.. قليل من كثير تجاري

السينما اليوم في بنغلاديش تنتج في المتوسط نحو ستين فيلما سنويا، معظمها تجاري، وهناك بضعة أفلام تنتمي للسينما الفنية أو المستقلة كما يطلقون عليها هنا، وهي تلك الأفلام التي لا تجد صالات للعرض أو جمهورا.

يمكن ملاحظة سمات عامة لهذه السينما، فمعظم مخرجيها قادمون من التلفزيون، ويسيطر عليها الطابع الاجتماعي، وتتنوع مواضيعها بحيث تسلط الضوء على قسوة الحياة سواء في المدينة أو في القرية، وكذلك على بؤس واستغلال الفقراء وضياع الإنسانية.

وبرز من تلك الأفلام فيلمان: “الفخ القديم” لمعصوم عزيز وهو الفائز بجائزة النقاد الدولية في مهرجان دكا الدولي (فيبرسي)، و”سفينة البرتقال” للمخرج نور عمران المشارك في مسابقة المهرجان الرسمية وهذا الفيلم واحد من ثلاثة أفلام من بنغلاديش اشترت منصة “نتفليكس” حقوق عرضها.

الفخ القديم هو قصة لأناس منكوبين في قرية صيادين يتم استغلال فقرهم عبر القروض التي يقدمها رجل غني ليحصل على منافع منهم

الفخ القديم.. الفقر الذي لا يرحم

“الفخ القديم” لمعصوم عزيز الفيلم الفائز بجائزة النقاد هو فيلم وإن عانى من التكرار والتطويل، فإنه يتميز عن بقية الأفلام بأسلوب إخراجه المتمكّن من أداء الأبطال لجهة عدم وقوعهم في فخ المبالغة التي تطبع عدة أفلام من بنغلاديش، وتصويره الذي يعتني بالكادر وباختيار لقطات تلتقط خصوصية المكان وجماله الطبيعي في تناقض صارخ مع بؤس سكن شخصياته، كما يأتي مضمونه الغني ليضيف إليه أهمية بإبرازه الفقر الذي لا يرحم وقلة الحيلة التي تلقي بالإنسان في الجحيم.

الفيلم قصة قدر حزين لأناس منكوبين في قرية صيادين مقيدين بقيد لا يُفك من الاستغلال، وذلك عن طريق استغلال فقرهم عبر القروض التي يقدمها رجل غني ليحصل على منافع، فثمة عملية منتظمة يقوم بها “موني هالدر” رجل القرية القوي يحتجز فيها صيادين مستفيدا من فقرهم.

يستخدم الرجل طريقة تقليدية معروفة في الاستغلال إذ يكبّل العاملين عنده بالقروض ليمتلكهم فيما بعد كالعبيد. في كل سنة يبني قاربا جديدا للصيد، وللحصول على الربح والحفاظ على رأس ماله يلزمه رجل شاب وقوي يضمن عودة قاربه من صعاب الصيد في رحلة إلى أعماق البحار تمتد خمسة أشهر.

في البداية، يوقّع مع الشاب عقدا لمدة عام واحد فقط، ولكن الجميع يعرف أن هذه البصمة في النهاية فخ سيستمر مدى الحياة. لقد علق في الشباك، فالمالك لا يعطي سوى ثلث الأسماك للصيادين الجدد، وهي كمية تافهة لا تكفي حياتهم اليومية، أما القدامى الذين لم يعودوا يصلحون للصيد فعليهم رد القروض له بالعمل اليومي لديه كخدم بدون أجر إلى ما لا نهاية.. إنها دوامة جهنمية.

وعلى الرغم من أن “سادهو” الشاب القوي مصمم على التحرر من هذا النظام لا سيما أنه يحب “لاكشمي” الجميلة التي يعمل شقيقها ذراعا يمنى للمالك الغني؛ فإن الأمر ينتهي به للقبول والاستسلام بسبب ظروف أسرته وفقرهم المدقع واستغلال “موني” لأبيه السكّير. ومع إدراك “سادهو” أن بصمته ستضعه في فخ مؤبد فإنه فعلها، فما الحل؟ لا توجد وسيلة للذهاب لعمل آخر و”ليس على الفقراء أن يتحلوا بالعزة” كما يقول لهم الغني.

هذا الفيلم الأول للمخرج معصوم عزيز، وهو ممثل بدرجة رئيسية وقد ربح جائزة التمثيل في المهرجان الوطني للسينما في بنغلاديش، وكان قد حصل على تمويل لفيلمه هذا من الحكومة منذ عام 1996، ولكن كما قال في لقاء معنا فإن “البيروقراطية وعدم الحصول على كافة التمويل منعاه من إكمال التصوير حينها”.

توقف المخرج ثم أعاد العمل بالفيلم بعد أن حصل على بقية التمويل منذ عام. يقول: “لقد كان من المستحيل صنع الفيلم دون التمويل، صنع الأفلام صعب جدا هنا والسوق محدودة.. لزمني 60 ألف دولار لفيلمي ولولا المساعدة فإنه من المستحيل صنع فيلم غير تجاري كهذا، فالمطلوب هو العنف وأفلام المغامرات”.

لم يرض الموزعون في دكا عرضه، فلا نجوم فيه، وهو لا يستطيع الدفع لنجم مثل شكيب خان ليضمن حضور الجمهور. يتساءل عزيز (65 عاما) عن إمكانية استمراره في صنع الأفلام في بنغلاديش في ظروف كتلك على الرغم من أن لديه سيناريو جاهزا.

يصور فيلم السفينة البرتقالية الفروق الطبقية الهائلة في المجتمع، ومدى استغلال الغني للفقير واستعلائه الشديد عليه ومدى تقززه منه حين يضطر للاختلاط معه

سفينة البرتقال.. الطبقية في أبشع صورها

الفيلم الثاني الذي عُرض في المسابقة الرئيسية في المهرجان كان “السفينة البرتقالية” لنور عمران. في السفينة المبحرة بين البلدات والقرى قصص العابرين، وهي قصة بنغلاديش المعاصرة كذلك.

هناك أناس من الطبقة العليا والطبقة الدنيا يركبون مركبا واحدا دون الاقتراب من بعضهم البعض، فأين للفقراء هذه الأسرّة وغرف الطعام المتوفرة لدى ركّاب الدرجة الأولى؟ لهم فقط الأرض يفترشونها.

على السفينة بطل الفيلم -الممثل النجم في بنغلاديش توقير أحمد- هارب من العاصمة دكا يحاول الاختفاء عن الأنظار. لقد احترق مصنعه وثمة شك في أنه حادث متعمد كي يقبض تعويضات التأميم، فهي أهم من القتلى الذي قضوا في الحريق.

على السفينة أيضا زوج إحدى ضحايا احتراق المصنع حاملا جثتها للقرية، وعائلة غنية في نزهة بحرية يحلم الزوج بإرسال زوجته إلى كندا مع صغيرهما ليلحق بهما فيما بعد وربما ليخلو له الجو، وفتاة برجوازية تريد الحصول على السلطة عبر الاهتمام بالفقراء.

يصور الفيلم جيدا الفروق الطبقية الهائلة في المجتمع، ومدى استغلال الغني للفقير واستعلائه الشديد عليه ومدى تقززه منه حين يضطر للاختلاط معه، كما تبدو علاقة رجل الطبقات العليا مع المرأة محكومة بالاستغلال المادي والجسدي.

المركب سائر إلى وجهته إلى أن يوقفه الضباب ويعلق فيه الجميع أغنياء وفقراء؛ هذان العالَمان اللذان لا يلتقيان. صُور الفيلم بالكامل في السفينة، وكانت المناظر الخارجية موفقة للخروج من أسر المكان، كما أضفت الموسيقى التصويرية على الفيلم سحرا وأثرا جميلا.

مخرج الفيلم الشاب نور عمران (35 عاما) يعمل في شركة إنتاج إضافة إلى إخراجه للأفلام، وفي حديث مع “الجزيرة الوثائقية” يثير مشاكل التمويل وصعوبة الحصول عليه بسبب مشكلة عائدات الأفلام لا سيما لفيلم من هذا النوع، فالجمهور في بنغلاديش متأثر تماما بسينما بوليوود، وهو لا يهتم بأفلام تمثّل واقع بلده المعاصرة، كما أنه يحب الكوميديا ولا يرغب بالأفلام التي تحرّض على التفكير.

مع هذا تمكّن عمران من عرض فيلمه الأول “السفينة البرتقالية” في صالات السينما في دكا لمدة شهر، كما أن الفيلم شارك في مهرجانات آسيوية؛ في الهند (مومباي وغوا) وسريلانكا، واشترته نتفليكس، مما قد يساعد على حصوله على تمويل لفيلم جديد.

يَعتبر عمران أن فيلمه يفتح الطريق نحو سينما جديدة ومختلفة، ويظن أن تطوير السينما ممكن إذا صنعنا سينما على شكلنا ورسمنا حقيقتنا وتعقيدات المجتمع المعاصر. أما الجمهور فسيعتاد تدريجيا عليها حين يزداد هذا النوع من الأفلام. إنها سينما موازية لا تشكل سوى %10 من الإنتاج الكلي. فنور عمران صوّر فيلمه في باخرة تمثل بنغلاديش وسكانها، إنها كما يصفها “حالة مصغرة عن التمييز والتعقيد المعاصر وعن نفاق الطبقة الغنية”.


إعلان