“روما”.. حين تكون الذاكرة جسر الماضي الممتد

 

عبد الكريم قادري

فجأة وبدون سابق إنذار؛ قرّرت السيدة الحزينة تنظيم رحلة شاطئية رفقة أطفالها الأربعة، وفي الوقت نفسه أقنعت خادمتها “كليو” المفجوعة بضرورة مرافقتها في هذه الرحلة، كي يُخففا على نفسيهما وقع الفقد والألم.

انطلقت السيارة صوب الساحل، حيث وصلوا إلى الفندق، وقضوا ما قضوا من الوقت، بعدها ذهبوا إلى الشاطئ بقلب وحماسة الأطفال، كانت الأم بحاجة إلى إصلاح عطب ما في السيارة، لهذا تركتهم مع الخادمة التي أوصتها عليهم، بدؤوا بعدها السباحة يواجهون بحرا هائجا مضطربا لا تسمع منه سوى دمدمات الأمواج وحركات المدّ والجزر، وضع يُشعر بالقلق. وبينما وقفت الخادمة التي لا تجيد السباحة تراقب الوضع من بعيد، بدأت صيحات الاستغاثة من الطفلة وأخيها، قررت الخادمة المجازفة ودخول البحر مهما كانت النتيجة، المهم أن لا تقف مكتوفة اليدين لا تحرك ساكنا، جرّبت حظها ونجحت في عملية الإنقاذ المستحيلة، ووصلت إلى الشاطئ بجهد، واحتضنت الأطفال ودخلت في بكاء هستيري، وفي الوقت نفسه لحقت الأم وابنها البكر بعد أن استشعرا الموقف من بعيد، انضم الكل إلى هذا الحضن الكبير يجمعهم الحزن والبكاء والشعور بفقد قريب.

 

لوحة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لسيدة وأطفالها الأربعة تتوسطهم خادمة محبوسة في إطار؛ اقتطعها المخرج من هذا المشهد العام فجعلها أيقونة رئيسية على بوستر الفيلم، لتكون أول عتبة يواجه بها المُتلقّي قبل أن يبدأ عملية المشاهدة، وكأنه يحضّره ويُعده لمشاهدة الفيلم بشكل عام.

هذا مشهد من فيلم “روما” (2018) للمخرج المكسيكي ألفنسو كوارون (1961)، والذي يعكس صورة العمل بشكل عام، ويمكن أن يجيب على السؤال المحوري الذي طُرح عددا من المرات من قبل عشاق السينما بغض النظر عن اتجاهاتهم وانتماءاتهم، وهو: “بما أن فيلم روما يعكس سيرة المخرج ألفنسو كوارون، لماذا اختار الأخير وركّز من خلال قصته على الخادمة لتكون عصب الفيلم ومرجعه؟”.

والإجابة على هذا السؤال سهلة جدا، وهو أن من بين ما فعلته الخادمة له شخصيا إنقاذه هو وأخته من الغرق في المشهد الذي ذكرناه أعلاه، رغم أنها لا تجيد السباحة، وهو ما يعني أنها ضحّت بحياتها من أجل حياته، ناهيك عما قدمته في الكثير من المحطات الأخرى.

ألفنسو.. عوالم غرائبية وقضايا مستقبلية

حصد فيلم “روما” جائزة الدبّ الذهبي بالدورة الـ75 لمهرجان فينيسيا السينمائي، وعرض عربيا بالدورة الـ40 لـ”مهرجان القاهرة السينمائي الدولي” (انعقدت فعالياته من 20 إلى 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، ناهيك عن العديد من الجوائز والمشاركات العالمية الأخرى.

 

وقد أثبت المخرج ألفنسو كوارون مرة أخرى من خلاله بأنه مخرج لا يهمه الراهن ولا يحتكم إليه، من خلال النأي بسينماه عما يعيشه العالم الحالي، إذ نرى مثلا بأنه لجأ إلى العوالم الغرائبية في فيلم “هاري بوتر وسجين أزكابان” (2004)، أو معالجته لقضايا مستقبلية كما في فيلم “أطفال الرجال” (2006)، أو من خلال معالجته قضايا مستقبلية لا نعرف عنها سوى القليل والقليل جدا مثل فيلمه “جاذبية” (2013)، ليأتي “روما” ويعود من خلاله إلى الماضي حيث سبعينيات القرن الـ20، إلى حي روما بمدينة “مكسيكو سيتي”، حيث ولد وتربى المخرج، وسط جملة من المتغيرات الأسرية والاجتماعية والسياسية، وهي المتغيرات التي شكّلها المخرج كمقاربة في هذا الفيلم.

مشاكل المرأة ومآلات الرجل

استهلّ المخرج ألفنسو كوارون فيلمه من خلال صورة مُطولة ومُقربة لبلاط الأرض، مع صوت شطف الأرضية، ومن أمعن التركيز في هذا المشهد سيكتشف انعكاس صورة طائرة على ماء الأرضية، لتتضح الصورة كلها من بعد، وهي صورة الخادمة كليو (أدت الدور ياليتزا أباريسيو) وهي تقوم بشطف بلاط الرواق الخارجي للبيت من فضلات الكلاب.

ويُفهم بأن الطائرة ترمز إلى الرحيل والسفر والتنقل من مكان إلى آخر أو من زمن لزمن. وهذا ما حدث للمخرج في حياته، إذ تنقل من بلده المكسيك إلى العيش في أمريكا، وتنقل أيضا من زمن الحاضر إلى الماضي من خلال هذا الفيلم، والخادمة وحدها من تتحكم في هذا الظهور، إذ ظهر انعكاس الطائرة على البلاط بعد أن سكبت الماء، وغابت بمجرد أن شطفته.

 

يعكس المشهد أهمية هذه المرأة (الخادمة) في تأسيس ذاكرة المخرج والفيلم، وعند مشاهدة الفيلم كله تتضح معالم هذا الاستهلال على قصة العمل ومشاهده، خاصة الظهور المتواصل للطائرة في العديد من اللقطات، سواء كصورة أو عن طريق صوتها.

في الشقّ الأسري ينقل المخرج الذي كتب قصة وسيناريو الفيلم حياته وحياة أسرته الميسورة الحال، وذلك من خلال عيون الخادمة كليو والأم صوفيا (مارينا دي تافيرا)، أو لنقل آلام هاتين المرأتين، حيث وقعت الخادمة كليو في حب شاب اسمه فرمين، وتعرفت عليه من خلال صديقتها أديلا (نانسي قارسيا)، وفي نفس الوقت تعيش حياتها بشكل عادي جدا، إذ ينقل المخرج تفاصيل يومياتها كخادمة في البيت، لكن بعد مدة من الزمن تنقل هذه الحياة من مستوى لآخر، سواء من ناحية كليو التي حملت وعندما أخبرت صديقها بهذا الأمر تخلى عنها نهائيا، أو حياة السيدة صوفيا التي تخلى عنها -هي الأخرى- زوجها أونطنيو من أجل امرأة جديدة في حياته، لتبدأ بعدها المشاكل النفسية لكلا المرأتين.

كليو تخاف أن تطردها سيدتها بعد أن حملت، وفي الوقت نفسه تفكر في مستقبل ابن لن يكون له والد ليراه، وصوفيا تفكر في كيفية إخبار أطفالها الأربعة بشأن غياب والدهم بعد أن كذبت عليهم وأخبرتهم بأنه ذهب إلى مؤتمر في كندا، لكن كلتا المرأتين تقبلتا الواقع وتصالحتا معه.

الإسقاطات السياسية ومظاهرات الطلبة

يمر الفيلم بمرحلة سياسية مهمة في العالم، وهي الحركة الطلابية والمظاهرات التي شهدت العديد من دول العالم، وهذا كان في نهاية ستينيات القرن الـ20 وبداية سبعينياته، ومن بينهم المكسيك التي عاشت هذه التجربة مع بداية السبعينيات، حيث قامت الشرطة المكسيكية وقتها باستئجار مجموعة من المليشيات من أجل قتل المتظاهرين الطلبة، وتم تسجيل 120 قتيلا حينها.

وقد أعاد المخرج ألفنسو كوارون إحياء هذه الواقعة التاريخية من خلال أحد المشاهد الخارجية للفيلم، وهذا بعد أن قررت والدة صوفيا اصطحاب كليو إلى أحد المتاجر لشراء مهد لطفل كليو الحامل به، وقد تزامن هذا الأمر مع المظاهرات، حيث وقع نظر كليو على حبيبها وهو يقتل أحد المتظاهرين بالسلاح، وهذا ما سرّع في مخاضها، ناهيك عن الآلام التي عاشتها؛ إذ لم تجد طريقة سلسة تذهب من خلالها إلى المستشفى وسط هذه الفوضى.

 

وينقلنا هذا المشهد لمشهد آخر لكي نعقد مقارنة سياسية بينهما ونفهم العديد من المسائل، وهدف المخرج في الوقت نفسه، وهذا عندما ذهبت كليو إلى أحد الأحياء البائسة والفقيرة جدا كي تبحث عن حبيبها، حيث وجدته يتدرب بالعصي مع العشرات من زملائه، وعند الانتهاء من التدريب أخبرته بالحمل، حيث هددها بالقتل والضرب إن عادت إليه مرة أخرى، كما جرى حديث عن المدربين اللذين يقومان بتدريبهم، وهما الكوريّ القاسي والأمريكيّ اللطيف.

ومن هنا نفهم مباشرة بأن هناك تدخل أمريكي في تدريب هذه المليشيات التي قتلت وقمعت الطلبة المتظاهرين؛ خوفا من أن يصل الأمر إليها، خصوصا وأنها وجدت فيهم التربة المناسبة، إذ يقطنون في أحياء تفتقد لأبسط ظروف الحياة الكريمة، حيث تنتشر بيوت الصفيح والوحل وغياب العمل، وهذا ما يجعلنا نعود أيضا إلى أحد المشاهد، حين تعرف الحبيب فيرمين على كليو، إذ قام وقتها بالاستدانة من صديقه كي يشتري تذاكر السينما، وفي نفس الوقت عندما وقفت كليو من مائدة الطعام رجع وشرب ما تركته من مشروب الكولا، وهذا انعكاس على ما وصل إليه الشباب وقتها، وهو سبب واضح لخروج هؤلاء إلى الشارع، وفي نفس الوقت سبب من الجهة الأخرى لتحويل هؤلاء إلى ميليشات تقتلهم.

تغييب الألون.. ورهان على الأبيض والأسود  

رفع كوارون رهانه السينمائي عاليا في هذا الفيلم من خلال الاعتماد على قصة ذاتية، وتغييب الألوان إلا من الأبيض والأسود، وهو رهان صعب على كل مخرج، إذ من الصعب أن تقتطع 135 دقيقة (مدة الفيلم) من المُشاهد وتضعه أمام مشاهد ولقطات لا يرى فيها سوى الأبيض والأسود، لكن ألفنسو ومن خلال حسّه السينمائي والجمالي نجح في هذا الرهان، حيث عوّض هذا النقص في أشياء أخرى من خلال المونتاج والتصوير اللذين شارك فيهما بشكل أساسي، فقد جاء المونتاج  -هو الآخر- متناسقا وقويا رغم طول المشاهد في الكثير من المحطات، لكنه استطاع أن يمزج بينهما بذكاء العارف، وذلك من خلال اللعب على الزمن، أو الكثرة والقلة، والصوت والصمتز

ومن الأشياء التي تُظهر اهتمام هذا المخرج بالتفاصيل الصغيرة الاهتمام بالصوت، حيث تتغير قوة الصوت في كل مشهد، مثلا في مشهد الشاطئ حيث غَرقُ الطفلين؛ نسمع هدير الأمواج مرتفعا جدا حين تكون الكاميرا في الماء، وتقلّ حين يبتعد عنها، وينقص أكثر حين يصبح المشهد بعيدا جدا، وهذا ما فعله مع كل المشاهد، ناهيك عن اعتماده من خلال التصوير على العدسات العريضة في الكثير من المشاهد، مما خلق نوعا من الاطمئنان والتآلف مع ما كان يصوره. هذه الأشياء وأخرى غطّت على عدم ظهور الألوان، ناهيك عن القوة الكبيرة والنقاء الذي شاهدناه في الأبيض والأسود.

 

ومن الأشياء التي تُظهر اهتمام هذا المخرج بالتفاصيل الصغيرة الاهتمام بالصوت، حيث تتغير قوة الصوت في كل مشهد، مثلا في مشهد الشاطئ حيث غَرقُ الطفلين؛ نسمع هدير الأمواج مرتفعا جدا حين تكون الكاميرا في الماء، وتقلّ حين يبتعد عنها، وينقص أكثر حين يصبح المشهد بعيدا جدا، وهذا ما فعله مع كل المشاهد، ناهيك عن اعتماده من خلال التصوير على العدسات العريضة في الكثير من المشاهد، مما خلق نوعا من الاطمئنان والتآلف مع ما كان يصوره. هذه الأشياء وأخرى غطّت على عدم ظهور الألوان، ناهيك عن القوة الكبيرة والنقاء الذي شاهدناه في الأبيض والأسود.

فيلم “روما” يستحق ما وصل إليه من إشادة عالمية، وهذا ما يعكس موهبة المخرج وقوة المرجعية السينمائية التي يعتمد عليها.


إعلان