الوثائقي العربي ومأزق التمويل.. إشكالية الأولويات وتغول الروائي

يفتح موقع الجزيرة الوثائقية ملف الوثائقيات العربية لعام 2018 فيبحث في أهم ما عُرض منها في العام المنصرم، وأهم ما حملته من مضامين وهموم، كما يناقش أبرز قضايا الإنتاج الوثائقي في هذا العام. ويناقش مقال بلال المازني أدناه مأزق تمويل الوثائقيات العربية ومحاذير الاعتماد على الدعم الأوروبي.

أزمة التمويل التي يعاني منها الوثائقي العربي هي أزمة بدأت تتراكم وتلوح للمخرجين والمنتجين العرب في السنوات الأخيرة

بلال المازني

هل أنت مخرج أفلام وثائقية عربية وتبحث عن دعم لفيلمك؟ بمجرد بحث صغير على الإنترنت تجد مجموعة من المؤسسات المانحة والداعمة للقطاع الثقافي عموما، ولكن المؤسسة العربية الوحيدة المتخصصة في الأفلام الوثائقية هي مؤسسة الشاشة في بيروت.

تدخل موقع المؤسسة وأول ما يسترعي انتباهك هو الجملة التالية “تسعى مؤسسة الشاشة لجلب منح إجمالية تقدر بـ400 ألف دولار سنويا لتستطيع تأمين ومتابعة نشاطها”. بعبارة أخرى فإن نشاط المؤسسة سينقطع إذا لم تجد هذا المبلغ سنويا لمواصلة دعمها الأفلام الوثائقية.

ومن هنا تتضح أزمة التمويل التي يعاني منها الوثائقي العربي، وهي أزمة بدأت تتراكم وتلوح للمخرجين والمنتجين العرب في السنوات الأخيرة، وللأسف فإن جذورها عميقة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.

الفيلم الوثائقي ظل يعاني طويلا من سيطرة الفيلم الروائي الذي استولى على مساحة كبيرة من الاهتمام

الوثائقي في الظل والحظوة للروائي

قدم الاتحاد الدولي للسينما التسجيلية في عام 1948 تعريفاً شاملاً للفيلم التسجيلي جاء فيه “كافة أساليب التسجيل لأي مظهر للحقيقة، يُعرض إما بوسائل التصوير المباشر، أو بإعادة بنائه بصدق، وذلك لحفز المشاهد لعمل شيء، أو لتوسيع مدارك المعرفة والفهم الإنساني، أو لوضع حلول واقعية لمختلف المشاكل في عالم الاقتصاد أو الثقافة أو العلاقات الإنسانية”.

على الرغم من أهمية الأفلام الوثائقية كجنس فني وتميزه وتأثيره الثقافي والسياسي والاجتماعي، لكنه ما زال في منطقة الظل بالنسبة للأفلام الروائية التي أخذت الأضواء. وإذا تساءل أحدهم “كم عدد مخرجي الأفلام الوثائقية الذين نعرفهم مقابل عدد مخرجي الأفلام الروائية”؟ سنكتشف الإجابة الصادمة سريعا.

لقد ظل الفيلم الوثائقي يعاني طويلا من سيطرة الفيلم الروائي الذي استولى على مساحة كبيرة من الاهتمام، فمصطلح “فيلم” مثلا أصبح مرتبطا في لاوعي المشاهد بالفيلم الروائي فحسب. وبينما بقي الوثائقي طيلة سنوات يسير بنسق ضعيف نحو الجمهور ولم يشهد تطورا كبيرا، كان الفيلم الروائي يسير بسرعة مدهشة نحو الجماهير من أجل بلوغ  أقصى درجات القمة والربح حيث إن ما تجنيه صناعة الأفلام الروائية من أرباح تفوق بأضعاف مضاعفة أرباح صناعة الأفلام الوثائقية، وهو ما يجعلنا نرى تقاعسا كبيرا من العديد من الأطراف لتمويله بداية من المنتجين ومرورا بالمؤسسات المانحة وصولا إلى التلفزيونات الحكومية والهياكل الثقافية، دون أن ننسى دور السينما والموزعين الذين لا يستثمرون في عرض الأفلام الوثائقية، خاصة أنها تفتقر إلى الموضوعات التي تحقق الربح لأصحاب دور العرض وتأخذ من المساحة الإعلانية المتاحة، وهو ما يتسبب بخسارة هذه الدور الباحثة عن الاستثمار في الإعلانات، لذلك نرى أن الأفلام الوثائقية تستعطف دور السينما للعرض فيها وإلا فإنها ستبقى دون مأوى.

هذا العجز الكبير الذي يشهده الوثائقي في الوصول إلى الجمهور لم يقتصر فقط على دور السينما، وإنما تجاوز ذلك ليشمل العديد من القنوات الحكومية التي لا ترى في الوثائقي نفعا وتفضل البرامج الحوارية والترفيهية.

 فالتلفزيون المصري مثلا سحب أكثر من نصف التمويلات التي كانت تصل إلى الإدارة المركزية للإنتاج المتميز قبل عام 2015، وأغلب الأفلام الوثائقية التي يتم إنتاجها إنما هي نتاج جهود مالية ذاتية ودعم خارجي من المهتمين بهذا النوع من الأفلام.

هذه المقاربة الربحية أثرت مباشرة في تمويل الفيلم الوثائقي العربي حيث إن المؤسسات المختصة في دعم الفيلم الوثائقي هي واحدة فقط كما أشرنا في المقدمة، وحتى الإنفاق الحكومي على دعم الوثائقي قليل جدا مقارنة بالفيلم الروائي.

وكمثال لذلك نجد تونس التي بلغت نسبة دعمها للوثائقي 12.5% فقط على أقصى تقدير من القيمة الإجمالية لدعم السينما التي تقدمها وزارة الثقافة.

الإنفاق العربي على الثقافة.. ليس أولوية

للتعمق أكثر في مسألة دعم الأفلام الوثائقية يجب الخوض في الإستراتيجيات الثقافية العربية عموما ومقارنتها بالغربية. فتمويل الثقافة يتأثر مباشرة بمكانة الثقافة في المجتمع وقيمتها فيه، ويمكن أن تكشف مقارنة بسيطة بين علاقة المجتمعات الأوروبية بالثقافة والأموال المرصودة لها مدى تغلغل الثقافة عند هذه المجتمعات.

فمثلا يبلغ معدل إنفاق الأسرة الأوروبية على الثقافة بين 3.5 و5% تتوزع على الكثير من الجوانب الثقافية أهمها السينما. ويساهم الحجم الكبير من الإنفاق الأسري على المنتجات الثقافية على وجه الخصوص في الاقتصاد القومي لهذه الدول بشكل مباشر مثل تمويل ميزانية الدولة عن طريق الضرائب المفروضة على القطاع الثقافي التجاري. ففي بريطانيا مثلا تقدر مساهمة القطاع الثقافي التجاري في الاقتصاد الوطني بقرابة 7% وهي نسبة عالية جدا مقارنة بقطاعات تجارية أخرى.

من هنا نستنتج أن الثقافة بكل تجلياتها هي مكون أساسي لدى الغرب سواء عند الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات. لذلك نجد أن الدولة تتدخل لدعم القطاعات الثقافية والاستثمار فيها، ففي دول مثل بلغاريا وقبرص وليتوانيا مثلا تنفق الدولة نسبة بين 1.6٪ وتصل إلى 2.5٪ في الدانمارك ولا تقل عن 0.8٪ في بقية الدول الأخرى، ويتوزع هذا الإنفاق العام بين ميزانية وزارة الثقافة وميزانيات المؤسسات الثقافية العامة والأهلية، وذلك وفقا للسياسة الثقافية التي تتبعها كل دولة. ويخصص هذا الإنفاق في جزئه الأكبر في القطاع الثقافي غير الربحي.

أما في الدول العربية فنجد أن دولة مثل مصر تنفق 0.2٪ لدعم الثقافة، ويخصص المغرب لها نسبة 0.3٪، وتمثل تونس الاستثناء الوحيد حيث تبلغ نسبة الميزانية المخصصة للثقافة 1.2٪ من الموازنة العامة للدولة.

كما يجدر التنويه إلى أن هذه الموازنات الثقافية المخجلة ليست موجهة كلها للثقافة والاستثمار ودعم الفنون وتشجيعها، بل إن نسبة كبيرة منها موجهة إلى الإنفاق الإداري والامتيازات الوظيفية. وبالتالي فإن هذا السلوك الحكومي الذي تنتهجه الدول العربية في علاقتها بالثقافة ودعمها ينعكس وجوبا على الفيلم الوثائقي الذي يجد نفسه يغرق في ميزانية ثقافية معدومة يستعطف منها الدرهم والدينار.

ميزانية أحد الوثائقيات الأمريكية

الوثائقي بميزانية صفر!

ساهمت عدد من الأفكار المغلوطة والمسبقة في أزمة التمويل التي يعاني منها الوثائقي العربي بالذات، فقد التصقت بالسينما الوثائقية فكرة أن هذا الجنس الفني يمكن إنجازه بميزانية صفر، فهو لا يحتاج إلى كل التقنيين والفنيين والمستلزمات التي يحتاجها الفيلم الروائي، حتى إن مجرد كاميرا عادية أو هاتف جوال يمكن أن تفي بالغرض، وهذا الرأي مجحف بدرجة كبيرة.

وكمثال على ميزانية أحد الأفلام الوثائقية الأمريكية نجد أن الكلفة كما هو موضح في الصورة تصل إلى 600 ألف دولار، وهذه الميزانية تتعارض كليا مع الفكرة السائدة التي تُصور “زهد” الفيلم الوثائقي والدعم الذي يقدم له.

وعلى الرغم من أن مؤسسة الدوحة للأفلام تتصدر القائمة بأعلى تمويل مقدم في مرحلة الإنتاج للفيلم الوثائقي بـ75 ألف دولار، فإن مؤسسات أخرى تعطي دعما قليلا ربما لا يمكن أن يغطي حتى بعض أيام التصوير، فنجد مثلا مؤسسة يان فريخمان تقدم دعم بقيمة 17500 دولار فقط، ومؤسسة السينما البديلة تقدم 10 آلاف دولار كندي فقط.

أما آفاق فتعطي منحا تتراوح بين بضعة آلاف وعشرة آلاف دولار أميركي لمنح التطوير، وبين بضعة آلاف وخمسين ألفا كحد أقصى في مرحلتي الإنتاج والإنتاج النهائي. والمورد الثقافي تقدم 15 ألف دولار.

يجب القول هنا إن الكثير من المخرجين وقعوا في مأزق التمويل ولكنهم ساهموا فيه بغير قصد وذلك عبر الجدلية التالية: لا يوجد تمويل للفيلم، إذن يجب أن أنتجه بميزانية صفر. فالفيلم إذا أنتج بميزانية صفر فهذا يعني أنه لا يحتاج أصلا إلى تمويل.

هنا يرى البعض أن مجرد وجود كاميرا مع برنامج تركيب عادي مع بعض مهارات التصوير والكتابة قد تُحرر المخرج من مأزق التمويل والإنتاج والتوزيع والعرض ولن يكون خاضعا لجهة تفرض شروطا ومواصفات معينة وقد تقوم بوضع العديد من القيود عليه، وفي الأخير يحمّل الفيلم على الإنترنت وربما يصل إلى آلاف المشاهدين. ولكن في ذات الوقت تطرح علينا هذه الطريقة السهلة وغير المكلفة تساؤلات عن قيمة الفيلم الفنية والاحترافية، لذلك نجد الفرق شاسعا بين مجرد روبرتاج مطول وفيلم وثائقي له قواعده الفنية والتقنية.

الأزمات الاقتصادية والمالية تصيب أيضا المؤسسات الداعمة للفيلم الوثائقي وربما تقصم ظهرها أحيانا

المؤسسات في أزمة والمانحون في تناقص

يبدو أن الأزمات الاقتصادية والمالية تصيب أيضا المؤسسات الداعمة للفيلم الوثائقي وربما تقصم ظهرها أحيانا، مثل الذي حدث مع مؤسسة الشاشة التي قالت في بيان لها سنة 2016 إنها اضطرت لإيقاف هذا الدعم بسبب ما تواجهه من نقص في التمويل، وأضافت: “نشعر بالأسى والألم لهذا الانقطاع في علاقاتنا مع صناع الأفلام الذين بنينا معهم علاقات وثيقة، ولكننا نأمل أن تكون هذه الأزمة قصيرة المدى، ونستطيع العودة إليكم مجدداً”.

وبعد خفض جذري في ميزانيتها تبحث اليوم مؤسسة الشاشة على 400 ألف دولار لمواصلة نشاطها ودعمها للمخرجين الشبان خاصة بعد انخفاض تمويلها الذي بلغ 74% سنة 2016 مقارنة بعام 2015.

كان التمويل يأتي بالأساس من مؤسّسات أوروبية وكانت هذه المؤسسات بدورها مُموّلة من قِبلِ الدول الأوروبية، إلا أن العديد من الأزمات جعلت هذه الدول تُراجع سياساتها الثقافية خاصة بعد مشكلة اللاجئين، ولم يعد بالتالي تمويل المؤسسات الثقافية العربية من أولويات الاتحاد الأوروبي، كما لا ننسى أن المانحين العرب لبعض المؤسسات الثقافية يتأثرون أيضا بالواقع الاقتصادي والسياسي مما يجعلهم في تناقص ملحوظ.

كما أن الوضع الاقتصادي والسياسي المتردي ألقى بظلاله على مشروع وثائقي كبير انتهى في غضون سنوات قليلة هو المهرجان السوري للأفلام الوثائقية دوكس بوكس الذي انطلق في عام 2007 وأصبح واحدا من أهم المهرجانات الوثائقية في العالم العربي ومنصة لقاء لأرباب مهنة الوثائقي مخرجين ومنتجين، والأهم من ذلك أنه أصبح سوقا لعرض المشاريع والبحث عن ممولين من جل العالم، لكن الحرب السورية أدت الى نهاية هذا الحلم الجميل. ورغم أن دوكس بوكس عاد سنة 2014 تحت مظلة منظمة غير ربحية في برلين بألمانيا لكنها اختزلت نشاطها في صانعي الأفلام العرب في المهجر.

إن أزمة تمويل المؤسسات العربية المانحة تتجاوز بشكل أعمق المشكلة الاقتصادية لتصب في إشكال فكري أيدولوجي. فالهروب إلى حضن الدعم الأجنبي ربما يكون حلا من الحلول وطريقا أقصر للتمويل، لكنه يطرح أيضا معضلة الخط التحريري الغربي والتأثير على موضوعات بعينها. ولا يمكن الجزم بتاتا بأن هناك ضغطا من المانح الأجنبي أو تأثيرا مباشرا على الأفكار ومضامين الأعمال، لكن ربما يأتي هذا التأثير من المخرج نفسه بطريقة واعية أو غير واعية.

إن البحث عن ممول وسوق أجنبية ربما يجعل المخرج يقتاد نفسه إلى ترويج الصورة التي ترغب بها الجهات الممولة الأجنبية، وهنا لا يمكن أن نقول إن هذه الصورة غير صادقة، ولكنها ربما تأتي على حساب مواضيع أخرى أصدق فيكون المخرج بالتالي وضع قضية ما في مرتبة ثانية لأن تلك القضية لا تهم الممول الأجنبي.

ولقد استنتجنا ذلك عبر السينما الروائية في الكثير من دول العالم العربي التي أوغلت في الانبطاح لقضايا شكلية والزج بمشاهد وأحداث مسقطة إسقاطا فقط لتشد المشاهد والممول الغربي. لذلك فإن التمويل العربي للأفلام العربية ربما ينقذ المخرج من الانسياق إلى قضايا جانبية وسطحية ويركز أكثر على المشاكل التي ينتمي لها العالم العربي فعلا كالأمية والبيروقراطية والفقر.

 

الجزيرة الوثائقية والمهمة الصعبة

بعيدا عن كل السوداوية السابقة وأزمة الوثائقي في التمويل والجمهور، نجد أن الجزيرة الوثائقية كانت بمثابة المنقذ للفيلم الوثائقي العربي أولا وقبل كل شيء لجمهور الشاشة الصغيرة الذي بدأ يستوعب أهمية هذا الجنس الفني ويتقبله ويصل إلى فئة كبيرة بعدد مشاهدات فاق المليار دقيقة في عام 2018 وعدد مشتركين فاق المليون ومائة ألف مشترك على منصات الفيديو ومكتبة تضم أكثر من 2500 ساعة تلفزيونية و1700 عنوان.

يضاف إلى ما سبق المئات من المنتجين وشركات الإنتاج التي تتنافس لتقديم أفلام وثائقية متميزة وراقية والأهم من ذلك تمس العالم العربي وقضاياه بالأساس.

واليوم يجب القول إن الفيلم الوثائقي العربي وقبل أن يكون فنا فإنه وثيقة مهمة عن حقبة في تاريخنا، وهو الصورة التي سيراها أحفادنا يوما ما، لذلك يجب أن يأخذ حقه في أذهان المشاهدين أولا مرورا بالمؤسسات وصولا إلى الحكومات.


إعلان