“مُحصّن”.. حين سقط “غول” هوليود مُلتهم الجميلات

عبد الكريم قادري

بمجرد أن تكتب اسمه في محركات البحث على الإنترنت بأيّ لغة من لغات العالم، ترتسم نتائج البحث أمامك متشابهة حدّ التطابق، كلها تُدين وتلعن وتتهم وتُصادر وتفتري وتحاكم، وكأنّ مبرمجي محركات البحث هذه وبحسب خوارزمياتها استوحوا سلوكها من سلوك البشر، فسرعان ما يتناسون الماضي والتجربة ويركزون على آخر سلوك حدث.

هذا ما حدث مع المنتج والمخرج الأمريكي هارفي واينستن، حيث حَرقت مُحركات البحث هذه ومن خلفها الأقلام كل ما حققه الرجل لملايين البشر على مدى عقود من الزمن، وكان قدّم من خلالها عن طريق السينما أفلاما خالدة ساعدت في تأثيث خيالهم ورؤاهم وأحلامهم، ليتم محو كل هذا بعد أن تقدّمت مجموعة من الممثلات والموظفات واتهمنه بالتحرش في قضايا موزعة زمنيا يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 30 سنة مضت، لكن هناك من حفر عميقا في غياهب الزمن ونفض الغبار عنها وقدمها للعالم على شكل تحقيق نُشر في جريدة “نيويوركر”، لينتشر الخبر في العالم بسرعة كبيرة، خاصة وأن مفجر التحقيق هو الصحفي المحامي والمستشار السابق للحكومة الأمريكية “رونان فارو” ابن الممثلة “مايا فارو” والمخرج “وودي آلن”، وبالإضافة إلى هذا فهو ناشط حقوقي معروف.

كل هذه المعطيات ساعدت في تحوّل هذه القضية إلى خبر رئيسي احتلّ واجهات الصحف والقنوات الإعلامية والمواقع الإلكترونية الأمريكية والعالمية، وأصبح هارفي واينستن الذي تعوّد على صناعة الحدث إلى قلب الحدث.

هل تحامل الفيلم على هارفي؟

استغلت المخرجة والمصورة البريطانية “أورسولا ماكفارلين” ما أُثير حول المنتج هارفي واينستن، فأخرجت فيلما وثائقيا من 98 دقيقة بعنوان “مُحصّن” (2019)، وعُرض في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي (انعقد المهرجان في الفترة من 17 وحتى 29 سبتمبر/أيلول 2019).

أرادت المخرجة أورسولا في هذا الفيلم أن تكون “ثيمة” العمل محصورة في قضايا “التحرش” كفعل، والمنتِج هارفي واينستن كصانع لهذا الفعل، أما ردة الفعل فكانت المخرجة هي صاحبتها مدفوعة بأيدولوجيتها وانتصارا للأنثى فيها.

لهذا نرى بأن خط الفيلم مستقيم ومُجهز بملف الإدانة والاتهام في الوقت نفسه، وكأن المجرم –حسب خط الفيلم- هارفي واينستن مُدان في كل الحالات، إذ كانت المخرجة في الفيلم بمثابة الخصم والحكم من خلال المعالجة والطريق الذي عبّدته لتسير عليه ضحايا هارفي المفترضات واللواتي تم التحاور معهن في الفيلم.

اكتسبت المخرجة أورسولا ماكفارلين تجربتها في السينما الوثائقية من خلال تعاونها مع قناة "بي بي سي"
اكتسبت المخرجة أورسولا ماكفارلين تجربتها في السينما الوثائقية من خلال تعاونها مع قناة “بي بي سي”

تجاهل الصوت الآخر

في المقابل غيّبت المخرجة الصوت الآخر تماما، هذا الصوت الذي يمكن أن ينعكس في محاورة أحد أقرباء هارفي ومعارفه وأخيه وشريكه “بوب”، أو حتى المحامي المكلف بالقضية، واكتفت ببعض الإشارات الدفاعية الصغيرة التي خدمت بها خطها العام، وأكثر من هذا صوّرت المخرجة هذا المنتِج وكأنه منتج عادي ومنسي، وليس منتجا كبيرا حصل على أكبر عدد من جوائز الأوسكار، وقدّم -حسب مساره- تحفا سينمائية تعجز أيّ شركة في هوليود على تقديمها، ناهيك عن تنفيذه وتوزيعه العديد من الأفلام المهمة والخالدة، واكتشافه العديد من المخرجين والممثلين والممثلات، بالإضافة إلى أنه أحد أعمدة السينما المستقلة في العالم.

تناست المخرجة عن عمد ذكر هذه التجارب المهمة، ومن بينها مثلا إنتاجه لفيلم “شكسبير عاشقا” (1998) -من إخراج “جون مادين”- الذي حصد سبع جوائز أوسكار، وإنتاجه لفيلم “مالينا” (2000) الذي لعبت دور البطولة فيه الممثلة مونيكا بيلوتشي، كما أنتج فيلم “عصابات نيويورك” (2002) الذي أخرجه مارتن سكورسيزي وحصد جائزة أوسكار أحسن فيلم، كما أنتج العشرات من الأفلام التي شكّلت أهمية كبرى في السينما العالمية ولمخرجين كبار، من بينهم فيلم “خِطاب الملك” و”سيد الخواتم” وأفلام المخرج المهم كونتين تارانتينو، ناهيك عن المسلسلات المهمة التي انعكس أثرها في العالم.

نسيت المخرجة كل هذه الأعمال التي وجب ذكرها في سياق الحديث العام، بحكم أن جرائم التحرش والاغتصاب التي اتُّهم بها جاءت من خلال عمله منتجا، واكتفت بسرد بعض الحقائق التاريخية التي شهدتها انطلاقة هارفي كمتعهد موسيقي، ليؤسس بعدها رفقة أخيه بوب شركة “ميرماكس”. وقد استغلت المخرجة هذه النقطة لتسرد حادثة تحرش لهارفي اقترفها مع موظفة جديدة لديه، حيث استغل فقرها وحاجتها وفرض عليها أشياء لا تريدها في أحد الفنادق التي نزل فيها.

في هذه الحالة يمكن أن تدافع المخرجة أورسولا ماكفارلين عن خيارها السينمائي في هذا الفيلم، وتقول إن موضوعها واحد هو “التحرش”، لهذا كثفت خطها في هذا الاتجاه.

ويمكن هنا مواجهة المخرجة بما في الفيلم، وهو مثلا تخصيص حيّز زمني معتبر في العمل للخصومات التي حدثت بين هارفي والصحافة، حيث تم محاورة أصحاب هذه الخصومات، وأكثر من هذا دعمت هذه النقطة بوثائق من الأرشيف، وهذا ما يدل مرة أخرى على أن الفيلم غير متوازن من ناحية الموضوع، وتم تغييب العديد من الجوانب والأركان التي يمكن أن تحافظ على نفس المسافة بين جهات الخصومة. ومن هنا يرتد الموضوع ويجعل المشاهد يستشعر بعض التحامل المفروض على هارفي، وفي الوقت نفسه يُحسّ بأنه سيتحول إلى أداة في يد المخرجة، لهذا سيتعامل مع مادة الفيلم بحذر، كما سيبحث أكثر ليعرف الحقيقة المُغيّبة في الفيلم.

المنتج والمخرج الأمريكي هارفي واينستن الملقب بغول هوليود
المنتج والمخرج الأمريكي هارفي واينستن الملقب بغول هوليود

الغول السينمائي

اكتسبت المخرجة أورسولا ماكفارلين تجربتها في السينما الوثائقية من خلال تعاونها مع قناة “بي بي سي”، فقد سبق لها ونفذت العديد من الأعمال لهذه الهيئة، أهمها “عطلة نهاية أسبوع مميتة في أمريكا” عام 2017، وترشح هذا الفيلم لجائزة البافتا التلفزيونية لأفضل فيلم وثائقي، كما ترشّح فيلمها “قطع الأواصر مع الجونيسيز” عام 2006 لجائزة أفضل تصوير لفيلم وثائقي، وجائزة أفضل صوت لفيلم وثائقي، وجائزة فلاهرتي للسينما الوثائقية.

هذه الخبرة المعتبرة لم تعكسها أورسولا في فيلمها “محّصن” الذي من كان يُفترض أن تحافظ فيه على الحد الأدنى من الموضوعية، وهذا لا يعني أن لا تعكس جزءا من رسالتها، لكن ليس بشكل مفضوح يذهب بموضوعية الفيلم وبماهية الفيلم الوثائقي على العموم.

نعم يمكن أن يكون هارفي واينستن مُدانا في العديد من قضايا الاغتصاب والتحرش، لكن هذا لا يعني بأن العديد من الممثلات والموظفات اللواتي تم إجراء مقابلات معهن في الفيلم يقلن الحقيقة، أو يقلن كل الحقيقة، مثل الممثلة وعارضة الأزياء “باز دي لا هويرتا” التي يبدو تصريحها غير مفهوم في الكثير من الأحيان، أو “أريكا روزمباوم” القادمة من كندا لتبحث عن فرصتها في التمثيل، أو الممثلة والمخرجة “روزانا أركيت”.

كل هؤلاء الممثلات والموظفات يقلن الكلام نفسه تقريبا، وحجتهن في عدم التبليغ بالتحرش وقتها هو أنهن كن خائفات، لكن وبما أن المنتج والممثل والمخرج والموزع والصحفي السينمائي كلها مهن تدخل في إطار الفعل السينمائي، من هنا تتداخل المصالح، ويمكن أن تكون الكثير ممن وُصفن بالضحايا في الفيلم كن هن من قمن بالتحرش في حق هارفي مثلا، أو حدث معهن خصومات، أو من اللواتي يبحثن عن المال السريع، خاصة وأن السلطة المطلقة في يده، وبوسعه أن يجعل من يريد منهن نجمات سينمائيات ويفتح أمامهن أبواب هوليود.

لكن المخرجة لم تترك الباب مشرعا في هذا الاتجاه حتى بإشارة واحدة، خاصة وأن العديد من الاحتمالات يمكن أن تحدث، لكنها صادرتها، فقد جاءت كل الاتهامات في سياق واحد، وكل هذا لجعل هارفي واينستن غولا سينمائيا يلتهم كل الممثلات الجميلات اللواتي يجدهن في طريقه.


إعلان