“ألم ومجد”.. قصيدة سينمائية عن الذات

خالد عبد العزيز

تقول الكاتبة والروائية التشيلية إيزابيل الليندي “كم هي عنيدة الذاكرة، وذاكرتي لا تتركني بسلام، تملأ مخيلتي بصور، بكلمات، بألم وحب”.. وكذلك ذاكرة فنان السينما المخرج الإسباني الكبير “بيدرو ألمودفار” مُمتلئة هي الأخرى بسجل حافل من الذكريات التي تكونت بدأب وروية عبر سبعين عاماً، فهي ذاكرة لا تخلو من ألم مثلما لا تخلو من مجد.

هكذا يبدو مضمون فيلم “ألم ومجد” (Pain and Glory-2019) من سيناريو وإخراج بيدرو ألمودفار، عن الذاكرة وما تحويه من حياة كاملة تنبض بالسعادة والنشوة أحياناً، وبالألم وتأنيب الضمير أحيانا أخرى، فالفيلم قد يبدو في ظاهره سيرة ذاتية لمخرجه عبر التجول في عقل وقلب مُبدعه، بحيث يُصبح وكأنه فيلم اعترافي يُقدم فيه ألمودفار شهادته عن حياته وفنه ليصبح فيلم الأفلام أو خاتمة الرحلة، لكنه يحوي بين طياته ما هو أعمق؛ عدة تساؤلات تطرق الذهن باحثة عن إجابة تتأمل ماهية الذاكرة وارتباط الذكرى بالحلم، ولعل أهم هذه الأسئلة هو: كيف يُمكن للإنسان أن يتصالح مع نفسه ومع ماضيه؟

تدور أحداث الفيلم حول سلفادور مالو (أنطونيو بانديرس) المخرج السينمائي المُتقاعد بفعل المرض، حيث تُقرر مكتبة الأفلام الوطنية إعادة عرض أول أفلامه التي أخرجها منذ 32 عاماً، وذلك بعد ترميمها في عرض خاص احتفاء به، ليسعى سلفادور مالو للتصالح مع الممثل الرئيسي للفيلم ألبيرتو كريسبو (أسير إتكسناديا) الذي اختلف معه بعد عرض الفيلم في الماضي ولم يره منذ ذلك الحين.

طفولة وشيخوخة.. امتداد وتضاد

يبدأ الفيلم من التيترات التي تُكتب على لوحات لونية مُبهرة تتشكل تلقائياً، وكل منهما تُسلم الأخرى في إيقاع متناسق. إنها شبيهة باللوحات السريالية المُتأثرة بالمدرسة التأثيرية، بضعة خطوط ملوّنة تُشير لتلافيف العقل وأغواره السحيقة، ثم تتغير شيئاً فشيئاً لتُشير إلى الأشجار ومعالم وقسمات وجوه لا نتبين ملامحها، ولون أزرق إشارة للسماء ومرة أخرى لماء البحر، حتى نصل للون الأحمر المفضل لألمودفار، ومنه للون الرمادي، ثم تنتقل الكاميرا ببطء نحو الأسفل، لنجد “سلفادور” يجلس وحيداً في حمام سباحة كبير وهو مُغمض العينين، لينتقل الزمن تدريجيا إلى الماضي.

جعل السيناريو السرد يسير في خطين متوازيين كل منهما يُسلم الآخر؛ الماضي والحاضر، ماضي سلفادور وطفولته تحديدا التي تتقاطع مع حاضره الآن، فكل من الزمنين له وحدة مُتسقة وبناء سردي متكامل، والطفولة ما هي إلا إرهاصات الحاضر، والحاضر ما هو إلا امتداد للطفولة وسنوات التكوين الأولى.

الخط الأول –الماضي- يدور حول طفولة سلفادور وعلاقته الشديدة القرب والتعلق بأمه، ففي هذا الجزء نرى لمحات من حياة “ألمودفار”، الطفل الذي تقبّل بالكاد قبسا من الدراسة اللاهوتية، ثم انطلق بعدها إلى مدريد لتعلّم السينما شغفه الأساسي وعشقه الأوحد.

يبدأ سرد الماضي من مشهد يجمع سلفادور مع أمه جاسينتا (بينلوب كروز) وهي تغسل الملابس برفقة صديقاتها في ماء النهر، لتصبح هذه البداية مثل انسياب وجريان الماء، وبعدها يتدفق الحكي في دروب أكثر اتساعاً تحوي ومضات من سيرة ألمودفار، وفي الوقت نفسه لا تخلو من اعتراف بالأخطاء سعيا للتطهر، فبيدرو ألمودفار الذي لم يحتمل الدراسة في المدارس المسيحية يُقدم هنا فيلم اعتراف، وكأن الجمهور هو كاهنه الذي سيتقبل اعترافه ويمنحه صكّ المجد لا الغفران.

حاول السيناريو أن يُفكك قدر المستطاع شفرات وعلامات أفلام ألمودفار التي ترتبط ارتباطا وثيقا بطفولته مثل علاقته بالمرأة، فالمرأة هي البطل في أغلب أفلام ألمودفار، والتي يكنّ لها احتراما وقدسية خاصة، فعلاقته بأمه وثيقة الصلة وحميمة للغاية، فأغلب مشاهد الطفولة برفقتها، خاصة بعد رحيل الأب وتنقله بين الحانات وإهماله له، فالأم عند ألمودفار هي عتبة العالم ومنبع الخيال وحصن الأمان.

جعل السيناريو السرد يسير في خطين متوازيين كل منهما يُسلم الآخر؛ الماضي والحاضر
جعل السيناريو السرد يسير في خطين متوازيين كل منهما يُسلم الآخر؛ الماضي والحاضر

معاناة مع الماضي.. وتصالح مع الحاضر

أما الخط الآخر فهو الزمن الحاضر، حيث يدور عالمه حول سلفادور في أواخر عمره، وذلك بعد إصابته بالعديد من الأمراض العضوية منها والنفسية، وتوقفه عن صناعة الأفلام بعد وفاة والدته، وإصابته بآلام العضلات والظهر التي تعوقه عن ممارسة عمله مثلما كان في الماضي.

في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم يصف سلفادور حياته ومعاناته من خلال التشكيل، حيث تتداخل المشاهد المكونة من الرسوم المتحركة مع التعليق الصوتي الذي يسرد مصفوفة أمراض سلفادور التي لا تنتهي، وبذلك يُدخلنا الفيلم في قلب معاناة وأزمة البطل الحالية، معاناته مع مرضه وآثار الماضي عليه، والأهم سعيه للتصالح مع النفس.

جاء اختيار السيناريو لهذين الزمنين؛ الطفولة في مقابل الشيخوخة رغم تضادهما، وكأنه يُنهي قوس حياة سلفادور أو بيدرو ألمودفار ذاته، فالبداية مع الطفولة والنهاية مع الكِبر، وما بينهما لا نرى منه سوى لمحات، فحينما يكبر الإنسان يُصبح أشبه بالطفل، وسلفادور في سنواته الأخيرة التي نراه يقترب في صفاته من الطفل إلى حد كبير.

أحداث الفيلم تدور حول شخصية سلفادور وكأنه المركز، ومن حوله تتخلّق خيوط الأحداث ويتشعب السرد
أحداث الفيلم تدور حول شخصية سلفادور وكأنه المركز، ومن حوله تتخلّق خيوط الأحداث ويتشعب السرد

سلفادور وألبيرتو.. منفعة مُتبادلة

يلتقي سلفادور بألبيرتو سعياً منه لمصالحته بعد مضي كل هذه السنوات، يرتاب ألبيرتو في نوايا سلفادور، لكن سلفادور يُقدم له عربون تصالح يقتضي حضورهما سوياً العرض الاحتفائي لنسخة الفيلم المرممة، فقد جعل السيناريو من شخصية ألبيرتو قوة دافعة للأحداث، وأيضاً قوة مؤثرة في شخصية سلفادور، فكل منهما يحتاج الآخر. فسلفادور يُعاني من الوحدة والمرض ويرغب في مصالحة ماضيه، أما ألبيرتو فهو يأفل نجمه الآن بعد محاولات فاشلة في التمثيل.

أحداث الفيلم تدور حول شخصية سلفادور وكأنه المركز، ومن حوله تتخلّق خيوط الأحداث ويتشعب السرد، فقد رسم السيناريو الشخصية بشكل متكامل من لحم ودم، حيث نراها من بدايتها منذ سنوات التكوين الأولى، فهو مُحب للحياة يعشق الحرية، ويكتشف العالم ويتعرف على مفرداته بعقل طفل شغوف، فنراه في أحد المشاهد وهو يعثر على إحدى الروايات في سلة المهملات فيقتنيها بفرحة وكأنه اكتشف كنزاً.

ثم ينطلق السرد لأعلى ونراه في مرحلته العمرية الأكبر بعدما تعدى الستين وهو يُعاني من المرض والوحدة، وبداخله طاقة حزن تكفي العالم بأسره، نظراته المليئة بالأسى لا ترسل إلا الشجن، ولا يعنيه من العالم سوى عشقه الأزلي للسينما، فهو يُعاني من الاكتئاب لابتعاده عن العمل، وفي الوقت نفسه لا يقدر على مواصلة الإبداع بعد إصابته بدفعات متتالية من الأمراض لا يظهر لها نهاية.

لذا يأتي لقاؤه بألبيرتو مُحفزاً له على إعادة اكتشاف العالم وتذوقه من جديد، فألبيرتو الذي عاد إلى مدريد بعد سنوات من العمل في الدراما المكسيكية تبدو حياته فارغة من العمل، لا يشغلها إلا تعاطي المخدرات، ففي أحد المشاهد نرى سلفادور وهو يطلب من ألبيرتو أن يُجرب قطرة من ذلك المخدر، وكأنه يُعيد اكتشاف المُحرمات، وكأن تلك القطرة المخدرة تفاحة آدم، فهذه المرة لن تُخرجه من الجنة، لكنها ستنطلق به إلى دروب مجهولة لا يدري لها مخرجاً.

أثناء زيارة ألبيرتو لسلفادور في منزله، وبعد تناول سلفادور جرعة المخدر يغيب عن الوعي في نوبة نوم فجائية، ليتلصص ألبيرتو على مذكرات سلفادور ويتعلق بها ويطلب منه تحويل ذلك النص إلى عرض مسرحي من بطولة ألبيرتو، فكل منهما بحاجة للآخر، فألبيرتو يرغب في العودة إلى التمثيل من خلال هذا النص، وسلفادور يرغب في مصالحة ألبيرتو بعد هذا العمر.

نسج السيناريو علاقة بينهما يحكمها المنفعة المتبادلة، حتى وإن كانت تلك المنفعة ليست إلا صحبة أو رفقة إنسانية، أو حتى نصاً يجعل من ممثل درجة ثانية نجماً معروفاً.

ينتقل السرد بين الماضي والحاضر، حاضر سلفادور وماضيه، هذا الانتقال يشبه آلة الزمن التي تتطلب وسيلة للانتقال، والوسيلة هنا هي الأحلام
ينتقل السرد بين الماضي والحاضر، حاضر سلفادور وماضيه، هذا الانتقال يشبه آلة الزمن التي تتطلب وسيلة للانتقال، والوسيلة هنا هي الأحلام

الأحلام.. دوّامة ذكريات لا تنتهي

ينتقل السرد بين الماضي والحاضر، حاضر سلفادور وماضيه، هذا الانتقال يشبه آلة الزمن التي تتطلب وسيلة للانتقال، والوسيلة هنا هي الأحلام، فسلفادور لا يرى ماضيه إلا أثناء النوم من خلال أحلامه، في البداية أثناء غفوته في حمام السباحة، ثم بعد تناوله أول جرعة من المخدر يُغيّبه النوم بشكل مُباغت فيتراءى له ماضيه، وهكذا في دوامة من الذكريات تتداعى بشكل حُرّ لا ينتهي.

لكن أحياناً تأتي الريح بما تشتهي السفن، فأثناء تأدية ألبيرتو لدوره في العرض المسرحي المأخوذ عن نص سلفادور، يحضر العرض فجأة فيدريكو صديق سلفادور القديم الذي هجره منذ ثلاثين عاماً، لتفتح الذكريات باباً للمزيد من الشجن والتصالح أيضاً مع الماضي، ففيدريكو الذي اختفى فجأة من حياة سلفادور بعد علاقة استمرت ثلاث سنوات يعود مُجدداً بعد كل تلك السنوات، وكأنه بهذا اللقاء يُزيح من قلب سلفادور غصّة مؤلمة ظلت تؤرقه وتؤلمه دون إجابة شافية عن سبب الرحيل المفاجئ.

يستمر تداعي الذكريات التي تُلاحق سلفادور أثناء نومه، لا شاردة تمرّ من مخيلته ولا واردة تعبر سالمة، حياته تحت المجهر وكأنه كشف حساب، حتى الذكريات التي لا نراها مثل انتقاله إلى مدريد لدراسة السينما بعد دراسته في الثانوية اللاهوتية في قريته يتطرق إليها هي الأخرى، مدريد الثمانينيات التي يرثيها سلفادور في حديثه إلى فيدريكو، مدريد ألمودفار التي يعشقها، ذكرياته مع صناعة الأفلام إبان فترة عصيبة من تاريخ إسبانيا بعد رحيل فرانكو وبدء التحول الديمقراطي، مدريد بصخبها وهدوئها، بشبابها وشيخوختها، مدريد الماضي التي تختلف عن الحاضر..

يقول بيدرو ألمودفار عن اللون الأحمر بأنه "يعبر عن الشغف والحياة والحب والخطر والموت أيضاً"
يقول بيدرو ألمودفار عن اللون الأحمر بأنه “يعبر عن الشغف والحياة والحب والخطر والموت أيضاً”

ماضٍ بعيد وحاضر جاثم

يقول بيدرو ألمودفار عن اللون الأحمر بأنه “يعبر عن الشغف والحياة والحب والخطر والموت أيضاً”، وكأنه لون الألوان بالنسبة له، فأغلب أفلام ألمودفار تحوي اللون الأحمر بتدرجات لونية مختلفة.

وهنا يستكمل ألمودفار إبداعاته اللونية على مستوى الصورة والكادرات، بدءاً من الملصق الدعائي للفيلم الذي نجده يحوي اللون الأحمر في الخلفية، وفي المقابل يظهر وجه بيدرو ألمودفار وأمامه سلفادور، ليصبح سلفادور نسخة أخرى من بيدرو، فشخصية سلفادور ليس إلا ألمودفار نفسه، حتى بناء الشخصية وتكوينها الخارجي وحركاتها مشابه إلى حد التطابق مع ألمودفار، مثل النظارة الشمسية وطراز الملابس وألوانها.

وكأغلب أفلام ألمودفار فإن التعبير بالصورة هو الهمّ الأساسي، حيث يُقدم شخصياته ويُعبر عنها بلغة سينمائية لا تخلو من رقة، ففي أحد المشاهد نرى سلفادور وهو يهاتف صديقه فدريكو أمام المرآة، لنجد أن الكادر قد انقسم إلى نصفين؛ نصف أعلى يحوي جسد سلفادور وكأنه شبح في صورة باهتة، ونصف أسفل يحوي جسد سلفادور من الخلف، وكأنه يُخبرنا عن معاناة سلفادور مع ماضيه وحاضره، ماضيه الذي يراه الآن كشيء بعيد، وحاضره الجاثم عليه بهمومه وأمراضه، وذلك في أداء متماهٍ تماماً مع الشخصية من أنطونيو باديرس في واحد من أجمل أدواره.

يلعب ألمودفار مع المتفرج، يأخذه من هنا إلى هناك في سلاسة، ينتقل به من الماضي إلى الحاضر، فالسرد يتكون من شذرات ومقاطع مُتعددة، شذرة من الطفولة مع أخرى من الكهولة حتى يكتمل السرد؛ قطعات مونتاجية ناعمة لا نكاد نشعر بها، فالبداية مع الحاضر ثم للماضي ومنها للحاضر مرة أخرى وهكذا، حتى نصل للمشهد الأخير الذي يحوي المفاجأة التي يُباغتنا بها ألمودفار، فالنهاية مع نفس مشهد بداية سلسال الذكريات، وكأنه يُنهي حلمه، مقطوعة موسيقية تُنهي حركاتها بنعومة ورقة، سلفادور برفقة أمه داخل منزل الجدة، ثم تبتعد الكاميرا ليتسع الكادر ونرى مايكروفون الصوت المثبت أعلى الديكور، وتنتقل الكاميرا إلى سلفادور وهو يصيح “اقطع”، لنكتشف أن الجزء الخاص بالماضي ليس إلا فيلماً يصوره سلفادور في كسر لإيهام الفيلم، لنصبح داخل فيلم آخر لا ندري عنه شيئاً، ونكتشف أن ألمودفار يخدعنا بمهارة لا تخلو من شاعرية وعذوبة دون أن نشعر.

هكذا السينما تبدو كالحلم والحياة مثلما يقول المخرج روبرت التمان “السينما هي كيفية أن تعيش أكثر من حياة، حياة جديدة مع كل فيلم تشاهده”.


إعلان