“الجوكر”.. تعطّش للعنف أم صرخة على الظلم؟

لا شك في أن فيلم الجوكر في نسخته الأخيرة للمخرج “تود فيليبس” والنجم “خواكين فينيكس” المعروض الآن بجميع دور العرض حول العالم قد حقق نجاحاً منقطع النظير، بل أصبح حديث الناس في كل مكان.
وتحدثت مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الصحفية الإلكترونية والمكتوبة عن نجاح غير عادي لفيلم غير عادي تجاوز كل التوقعات، ليحقق حالة من الانشغال لدى الجماهير العريضة. وتتعالى أصوات بإدانة هذا الفيلم بوصفه مدعاة لتكريس العنف والشرّ، وتتعالى أصوات أكثر بالمديح والإعجاب.
تُرى ما سُرّ كل هذا الهوس غير المسبوق؟ ولكي نقدم الإجابة على هذا السؤال، لا بُدّ بادئ ذي بدء أن نُلقي الضوء على بدايات الجوكر.
الجوكر.. البدايات والتطور
كان الجوكر مجرد قصص “دي سي كوميكس” (وهي شركة أفلام وقصص مصورة)، وعندما قرّرت الشركة تحويل قصص “باتمان” إلى مسلسل تلفزيوني، ثم لفيلم سينمائي عام 1966، لعب دور الجوكر الممثل سيزار روميرو، وكانت شخصية الجوكر لا تزيد أكثر عن مقالب شريرة غير ذي بال للبطل “باتمان” الذي يحمي مدينة غوثام من الأشرار، وبالطبع كان للشكل الذي ظهر به أكثر من قصة.
في البدايات سقط الجوكر في حوض محاليل كيميائية جعلت من وجهه أبيض كالمهرج وشفاهه تزداد احمراراً وشعره يصطبغ باللون الأخضر. بالطبع تغيرت هذه الجزئية في النسخ الأكثر حداثة.
أما في نسخة “باتمان” 1989 لـ”تيم بيرتون”، فقد أدى دور الجوكر النجم “جاك نيكلسون” الذي جعل منه أيقونة تتندر بها الجماهير.
وفي نسخة “فارس الظلام” (The Dark Night) لـ”كريستوفر نولان” والنجم “هيث ليدجر”، اكتسبت شخصية الجوكر بُعداً فلسفيا من خلال معارضة السلطة لتحقيق العدل، حتى ولو أدى ذلك إلى الكثير من الشرّ.

وهنا تلقّف المبدع هيث ليدجر هذا التفسير، وبدأ ينسج تفاصيل شخصية الجوكر التي اضطلع بها ليقدم أداءً مُذهلا، مما دفع أكاديمية العلوم السينمائية الأمريكية في سابقه تُعّد الأولى من نوعها إلى منحه الأوسكار متخطية بذلك كل الأعراف التي تُحجّم مثل هذه الأعمال والشخصيات، بوصفها كوميكساً (قصصا) لا تستحق منحها شرف الأوسكار.
لكن دون شك فإن عبقرية أداء “هيث ليدجر” أجبرت الجميع على الانحناء احتراما لهذا الإبداع الفريد، ومع شديد الأسف والأسى لم يعش ليدجر ليحصد نجاحه، فقد رحل قبل عرض الفيلم، ومُنحت الأوسكار له وهو الغائب الحاضر، وقد كان رحيله مفاجئاً وصادماً. وقد انهمك ليدجر ليصل بالشخصية إلى ما أصبحت عليه بصورتها النهائية، واستطاع بالاشتراك مع “كريستوفر نولان” أن يستلهم الشكل الخارجي للجوكر من لوحات البديع “فرانسيس بيكون”، ليقدم ليدجر في النهاية أداءً سيظل علامة فارقة لشخصية الجوكر.

وفي عام 2016 أدى الممثل “جاريد ليتو” أداء باهتا لشخصية الجوكر، وقدّمه من منطلق سيكوباتي (اعتلال نفسي) يقوم بتعذيب ضحاياه، لكن لم يصمد أمام جوكر هيث ليدجر وفشل فشلا ذريعا.
وبعد ذلك قدم “آلان مور” (وهو كاتب سيناريو فيلم “فيندتي”) فيلم التحريك “النكتة القاتلة”، وقد جعل من الجوكر كوميدياناً فاشلاً، لكن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تُدمر كل أحلامه، مما يدفعه إلى القيام بعملية تعويض نفسي عن طريق الشرّ سلوكا وحياة، وهذا كان المدخل لتود فيليبس ليقدم نسخته المهمة للجوكر خواكين فينيكس.
جوكر 2019.. انفجار بركان الشرّ
تمكن “تود فيليبس” من تقديم بناء مُحكم لشخصية الجوكر المريضة؛ أحلامها وطموحاتها وإحباطاتها وكبتها وغضبها، وتحولها إلى الشرّ الدموي كمعادل موضوعي لواقعه الاجتماعي والسياسي والشخصي. فقد كشف السيناريو تدريجيا الصدمات القاسية التي تعرض لها “آرثر” الذي تحول بعد ذلك إلى الجوكر، فهو يعاني وأمه فقرا مدقعا، كما أنه يُعّالَج نفسيا، لكن يُجابه بأن التأمين الصحي أوقَفَ العلاج وبالتالي أوُقف الدواء.
رغبة آرثر في معرفة والده الحقيقي، وسخرية الجميع منه وإهانتهم له، وعدم تحققه كممثل كوميدي؛ كل هذه المعطيات جعلته يتحول إلى النقيض ليتفجر بركان شرّ ودم.
مرض الجوكر
“بي بي إيه” (PBA) هو اختصار لمرض “التقلقل العاطفي” (PSEUDO BULBAR AFECT)، وهو نوبات مُفاجئة غير مُسيطر عليها من الضحك والبكاء يعجز المريض عن منعها.
ووفقا لفرويد تختلف أسباب تلك الحالة المرضية، فقد تكون ناجمة عن وسواس قهري، أو إثر ورم في المخ، أو نتيجة اضطراب حركي إثر تَهيّج بالقشرة المخيّة فيتحول لحالة صرع.
ومما لا شك فيه أن الأداء المُبدع والأسطوري لـخواكين فينكس وتجسيده لهذه الشخصية المركبة على هذا النحو غير المسبوق؛ كان من عوامل النجاح الكبير الذي حظي به الفيلم. لكن يبقى السؤال: لماذا تقبّل الجمهور كل هذا العنف من هذه الشخصية؟

إذا نحيّنا جانبا الأداء المبهر لفينيكس وتأملنا المعطيات السياسية والاجتماعية التي يطرحها الفيلم بمدينة غوثام المعادل الموضوعي لمدينه نيويورك، وإذا أخذنا في الاعتبار المشهد الزاخر بالدلالات وهو مشهد تظاهر سُكّان غوثام مُرتدين قناع الجوكر؛ نجد أننا أمام عمل فني واقعي لحد القسوة، حيث يرى فيها المُشاهد معاناته وإحباطاته ولا يستطيع أن يُحّرك ساكنا بسبب القمع والقهر الذي يُمارس عليه من قبل السلطة، ومن ثم يرى تحققه ورغبته في الصراخ ضد كل القمع والقهر بمختلف درجاته.
الجوكر.. أعمال مُشابهة
الجوكر هو صرخة احتجاج ضد الاستغلال والظلم والقبح والفجاجة والفظاظة التي يمتلئ بها العالم، ولهذا توحّد الناس مع الجوكر والعنف الذي اختاره سلوكا ومنهجا. وهنا تحضرنا ثلاثة أعمال فنية تتشابه مع الجوكر من حيث طرح مفهوم العنف، وتتنوع دلالاتها المختلفة.
العمل الأول هو “البرتقالة الآلية” تأليف أنتوني بريجس وإخراج ستانلي كوبريك، والعمل الثاني هو “سائق التاكسي” عن قصة بول شيريدر وإخراج مارتن سكورسيزي، أما العمل الثالث فهو “وُلِدو ليقتلوا” لأوليفر ستون واشترك في كتابة السيناريو كوينتن تارنتينو.
“البرتقالة الآلية”.. العنف دون مبرر
طرح ستانلي كوبريك مخرج فيلم “البرتقالة الآلية” مسألة حرية الاختيار متفقا مع مؤلف القصة المأخوذ عنها الفيلم أنتوني بيرجس في مسألة العنف والعنف المضاد. ويجنح بطل الفيلم هو ورفاقه إلى العنف سلوكا وأسلوبا بالحياة غير مكترثين بعواقبه الوخيمة، فنجدهم يدخلون في معارك الواحدة تلو الأخرى، فيقتحمون فيلا مؤلف مشهور ويغتصبون زوجته أمام عينيه، ويقتلونها بعد أن يوسعوا زوجها ضربا ويصيبوه بشلل نصفي.
يقوم البطل الشاب زعيمهم باقتحام منزل جارته ويعذبها ويقتلها منفردا دون مبرر، مما يُثير خلافا حادّا بينه وبين أصدقائه عن جدوى قتلها، ويلقى القبض عليه ويودع السجن. هناك يتم إعادة تأهيله عن طريق إخضاعه لبرنامج علاجي بعنوان “علاج لودفيكو”، ويتلخص في ربط العنف بالشعور بالغثيان “كرد فعل شرطي” على العنف “كمثير شَرطي”، وتصاحب هذه التجارب موسيقى سيمفونية “القدر” لبيتهوفن.
ويتصادف أنها الموسيقى المفضلة لبطل فيلمنا، فهو صاحب ذوق رفيع، وبالطبع قبل أن يتم الإفراج عنه يخضع للاختبارات للتأكد من أنه قد تم تدجينه على الوجة الأمثل، وأنه أصبح مؤهلا ولن يقابل العنف بعنف مضاد.
يشعر بطل الفيلم الشاب مباشرة بغثيان وبعجز عن الحركة، وحين يواجه ذلك يخرج كالحمل الوديع ليواجة العالم، فيتصادف أن يقابل متسوّلا عجوزا كان قد مارس عليه العنف سابقا، وعندما يتعرف عليه المتسول يقوم بتعنيفه وضربة ضرباً مبرحاً بالاشتراك مع باقي متسولى الحي. كل هذا ولا يستطيع بطلنا الردّ، فقد أصبح عاجزاً تماما بسبب العلاج الذي حوله إلى شخص لا خيار له سوى الإذعان.
وعندما يقابِل أصدقاءه القدامى وقد اعتلوا مراكز في جهاز الشرطة؛ يسخرون منه ويسبّونه ويضربونه ضربا مبرحا، وعندما يهرب منهم إلى فيلا مجاورة يتضح أنه وقع في براثن الكاتب المشلول الذي سُرعان ما تعرف عليه، ويفهم حالة الارتباط الشرطي بين الغثيان وسماعة لبيتهوفن كمثير، فيقرر أن يكون جلاده، ويحبسه في غرفة مُجهزّة صوتيا ليتم التعذيب من خلال إسماعه لموسيقى بيتهوفن، فلا يطيق بطلنا، بل يكاد يجن جنونه فيقفز من شرفة الغرفة ليُنقَل إلى المستشفى. وهناك يُعالج بعلاج مُضاد ليعود إلى طبيعته، ويحضر وزير الداخلية بنفسه ليقدم له اعتذارا عن علاج “لودفيج” الذي طُبق عليه في السجن.
ورغم نُبل فكرة الفيلم ونجاحه، فإنه قوبل بحملة ضارية على أنه مُسوّق لعنف غير مسبوق، بل ومبرر لمزيد من العنف، أي أنه فيلم يحتفل بالعنف في حد ذاته، مما دفع كوبريك إلى رفع الفيلم من دور العرض بعد أسابيع من عرضه وهو في قمة نجاحه.
“سائق التاكسي”.. عنف بفمهوم فردي
إذا تعرضنا فيما سبق للعنف من مفهوم حرية الاختيار، فسنتعرض في فيلم “سائق التاكسي” لـمارتن سكورسيزي للعنف كمفهوم فردي، وكردّ فعل طبيعي لزيف الحياة وفجاجتها في نيويورك.
يُعاني “ترافيس” بيغل من الوحدة والأرق الشديدين اللذين يحرمانه النوم، ومن أجل هذا يتوجه إلى مكتب للتوظيف بدوام ليلي، حيث يستطيع أن يحصل على وظيفة سائق تاكسي. ورغم اضطراب إجاباته وعدم وضوحها فإنه فاز بالعمل، لكنه بقي يحتقر حياة الليل، وينعت كل زبائنه بالحيوانات، بل وأكثر من هذا، فإنه في كل صباح يغسل سيارته كي يطهرها من دنس أهل الليل.
“ترافيس” شخصية غريبة الأطوار تُعاني من تناقضات كثيرة، فهو يكره حياة الليل لما يزخر بها من عهر رخيص، ومع هذا نراه يرتاد سينما لعرض أفلام إباحية، وعندما تلفت نظره عاملة شباك السينما التي تُدعى “ببتس” ويلقبها هو بالملاك الأبيض لارتدائها فستانا أبيض؛ ينجح في التقرب منها ويقوم بمواعدتها في مقهى، ثم يدعوها إلى السينما، لتكتشف “بيتس” أن الفيلم المعروض إباحيّ.
ومع تجاوز ترافيس حدود اللياقة تنسحب “بيتس” وتنهره، وبعد ذلك يعود إلى وحدته القاتلة لا سيما وأنه كان قد جاملها بتأييد المرشح السياسي “تشارلز بالنتين” رغم تحفظاته عليه وعدم ثقتة بوعوده. لكن كل هذا لأن بيتس -الملاك الأبيض- كانت مديرة حملته الانتخابية.
ويبدأ ترافيس في قصة أخرى عندما يتعاطف مع عاهرة مراهقة هي إيربس (تلعب دورها جودي فوستر) فيقرر أن ينتشلها من عملها ويعيدها إلى أهلها مرة أخرى غير عابئ بالعواقب التي سيتورط بها.
ومما لا شك فيه أن الفيلم حين عرضه تسبّب بصدمة للجمهور، لكن طريقته غير التقليدية وأسلوب أداء روبرت دي نيرو، وإبداع مارتن سكورسيزي في خلق أجواء السبعينيات، كل ذلك أدى إلى موافقة الجمهور بشكل أو بآخر على ما يقوم به “ترافيس” رغم دمويته وعنفة.
“وُلِدوا ليقتلوا”.. تعطّش للدماء
يدور فيلم “وُلِدو ليقتلوا” لأوليفر ستون واشترك في كتابته كوينتين ترانتينو؛ عن “ميكي” و”مالوري” اللذين ارتكبا مذابح ومجازر بحق أبرياء، وذلك لتعطشهما للدم والعنف ولا شيء غير ذلك، إلا الناجي الوحيد من كل هذا العنف الذي يسرد كل تفاصيل جرائمهم، وقد اكتسب كلاهما شعبية كبيرة ليصبحا أيقونة لدى كثيرين.
يقول أوليفر ستون “أعلم أن فيلمي به كثير من العنف، لكنني أردت للجمهور التطهر من جراء الصدمة التي يُحدثها الفيلم، وبرغم هذا أقول للأصوات المعارضة إن تاريخ الدراما مليء بالعنف والدم، فعلى سبيل المثال ألم تكن مسرحيات شكسبير زاخرة بالعنف والدم وغيره كثيرون؟”. ويختتم حديثه بالقول “دعونا نكون صريحين مع أنفسنا قبل أن نكون صريحين مع الجمهور”.
وهكذا يتجه الفن من حالة من الظمأ والعطش إلى الدم والعنف.