“الأب”.. حين يكون الموت أولى مراتب الحياة

عبد الكريم قادري

السينما هي أكثر الفنون التي استطاعت أن تجسّد العاطفة وتجعل هذا المُقوّم الحسّي مادة مرئية يتفاعل مع تفاصيلها المشاهد، حيث يرى فيها ما كان يحسّ به كشعور داخلي، وأحيانا تتقاطع العديد من المشاهد السينمائية في تفصيل ما من حياته، لهذا يتضاعف التفاعل وتتوسع حلقة العلاقة بينه وبين الفيلم.

ومن هنا لا يمكن إخراج فيلم من دون عاطفة، سواء كمحور رئيسي أو كعناصر ثانوية، وأكثر سمات هذه العاطفة هي العلاقة بين الرجل والمرأة، وهي من “الثيمات” التي لا يملّ منها المنتج والمتلقي على حدّ سواء.

ورغم تفاوت قيمة هذه الثيمة في كل فيلم، فإن الأفلام التي ركّزت على التواصل بين الأحياء والأموات قليلة جدا، حيث تُعكس فيها القيمة الحقيقية بين الزوج وزوجته بعد سنوات من العيش معا، لكن الموت يُباغت ويهدم هذه العلاقة، ويصبح أحدهما بين عشية وضحاها من دون سند، لتُفرز هذه الخسارة المفاجئة مشاكل نفسية على الأب والابن والأقارب والمجتمع كله.

هذه القيمة الإنسانية هي المعادل الموضوعي للفيلم البلغاري “الأب” (2019) للمخرجَين “كرستينا غروزيفا” و”بيتر فالغانوف”. وقد عُرض الفيلم في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي الذي عُقد في الفترة من 19 وحتى 27 سبتمبر/أيلول 2019.

فيلم “الأب” هو الثالث الذي اشتغل عليه المخرجان كثنائي، وذلك بعد فيلم “الدرس” (2014) الذي عرض في الدورة الـ39 لمهرجان تورنتو السينمائي، وفيلم “ألم ومجد” الذي تنافس في مسابقة لوكارنو وحصل على تنويه خاص ليحصد بعدها نحو 30 جائزة عالمية، كما استطاع فيلمهما الثالث “الأب” أن يحصد الجائزة الكبرى “الكريستالة الذهبية” بمهرجان كارلوفي فاري خلال دورته الأخيرة.

سيناريو يوازي قوة التمثيل

استطاع الفيلم أن يمزج بشكل رهيب بين الدراما والكوميديا، ويعود هذا بالأساس إلى قوة السيناريو الذي نُسج بذكاء كبير رغم صعوبة القصة وتقييدها وقلة الحركة فيها، لكن التقسيم الجيد في الأفكار الرئيسية والثانوية جعلها سلسة ومهضومة، إذ يمكن لمشهد واحد أن يجعلك تغرق في الحزن، فيأتي المشهد الذي يليه فيحولك إلى البكاء مباشرة، لتأتي المشاهد كلها على هذا المنوال؛ ليس بالترتيب المذكور، لكن الكوميديا والدراما يسيران جنبا إلى جنب.

رغم تعقيد القصة التي تتمحور حول الموت والفقد، فإن كرستينا غروزيفا وبيتر فالغانوف حوّلا هذا الموضوع إلى فرصة للوقوف على ترتيبات الضمير واقتناص الفرصة قبل ضياعها، وذلك عن طريق التقدير الجيد لمواقف الحياة، واستثمار العلاقة بين الأب والأم، واحترام العِشرة والأيام التي جمعتهما تحت سقف واحد.

وبالتوازي مع قوة السيناريو جاء التمثيل الذي أعطى الفيلم دفعا كبيرا، وأنجح انفعالات الشخصيات التي تعددت في الفيلم، رغم أن أغلب المشاهد جاءت بين الأب (أدى الدور إيفان سالوف) والابن بافل (أدى الدور إيفان رانيف).

نجد الأب والابن يتنقلان من انفعال إلى آخر بكل سهولة واحترافية في الوقت نفسه، وينعكس رسم الانفعال على الملامح وفي التصرف، مما يدل بأنهما اشتغلا جيدا على الشخصيتين، بالإضافة إلى التجربة التي يمتلكانها في التمثيل، لأنهما أديا دورين في غاية الصعوبة، وهو تفسير العلاقة المعقدة بين الأب وابنه بعد فقدان الأم، ومحاولة كل فرد منهما إيجاد طريقة للتأقلم مع الوضع وتصحيح الأخطاء التي وقعت.

كما كانت هناك شخصيات حاضرة بقوة في القصة كشخصيات معنوية غير مرئية، مثل الأم الميتة، أو زوجة بافل التي حضرت هي الأخرى من خلال المكالمات التي تحدث بينهما من حين لآخر، وهي خطوة ذكية من كاتبي السيناريو، لأن هناك ضرورة ماسّة لكسر خط القصة الرئيسية والدخول في قصة ثانوية وبشخصيات مختلفة وإن كانت غائبة جسديا، وهو هنا يكسر بها الملل ويفتح نافذة أخرى للمشاهد، خاصة وأن المدة الزمنية للفيلم تبلغ 87 دقيقة.

أكثر سمات العاطفة هي العلاقة بين الرجل والمرأة، وهي من الموضوعات التي لا يمل منها المخرج والمنتج والمتلقي على السواء

في البدء كان الموت

كانت افتتاحية الفيلم عبارة عن مشهد حضور بعض الأصدقاء والأقارب لمراسيم دفن الأم، حيث كانت ملامح الأب والابن في غاية الحزن، فيما يقوم القِسّ بقراءة بعض التراتيل. وحين جاء موعد وضع التابوت داخل القبر قام الأب بإيقاف المراسيم، ثم أخذ كاميرا من ابنه وفتح التابوت وبدأ يلتقط صورا لوجه زوجته المتوفاة من عدّة زوايا، وهذا ما جعل الابن يتدخل ويوقفه بعد أن شعر بالإحراج وغرابة الأمر، خاصة وأن الكاميرا يملكها الابن وأُخذت رغما عنه، وأن المشهد العام لعملية الدفن أصبح عبثيا، إذ إن نظرة الاستغراب ارتسمت على وجوه جميع الحضور، ومن بينهم القِسّ الذي تعجّب من هذا الموقف الذي ربما لم يُصادفه من قبل.

كان مشهد الافتتاح هذا مُفسرا لقصة الفيلم وتفاصيلها، وقد رسم خطا لما ستكون عليه بشكل عام، لينتقل بعدها للمشاهد الأخرى التي تُقدّم تفاسير الشخصيات ومرجعياتها العملية والاجتماعية، أهمها الأب الذي يشتغل رساما، والابن الذي يعمل مصور إعلانات، حيث تم التطرق إلى العلاقة التي تجمعهما عن طريق صُنع المواقف والتعابير الدرامية، وهي علاقة معقدة لا يمكن معرفة أسباب هذا التعقيد إلا من خلال مشاهدة تفاصيل الفيلم وقصته، فقد اعتمد المخرج على تقديم المعلومات بالتدريج، بمعنى أنه يختار الوقت المناسب لتقديمها للمتلقي تحت ذريعة درامية في السياق الذي يخدم التصوّر العام للفيلم.

من هنا تبدأ تعقيدات الأب الذي دخل مبكرا في شعور الوحدة، مما جعله رغم المرجعية الثقافية التي يملكها يبحث في الأمور الروحية ويؤمن بالخرافات، ومن بينها الرسائل التي تأتي من العالم الآخر، حيث بدأ يصدق بأن زوجته تريد أن توصل له رسالة معينة من العالم الآخر، وهذا بعد أن سقطت مزهرية على الأرض، فراح يجمع أجزاءها، وفي الوقت نفسه قام بتفسير الأجزاء وكأنها رسالة روحية من الزوجة، وذلك حسب السياق الذي يخدم تصوره.

استطاع الفيلم أن يمزج بشكل رهيب بين الدراما والكوميديا

تواصل روحي مع الزوجة

بدأ الأب يفكر في طريقة لجعل التواصل بينه وبين زوجته المتوفاة حقيقيا، وقد ساهمت في تقوية هذا الاعتقاد إحدى قريباته التي جاءتهم وقالت بأن الأم تواصلت معها عن طريق الهاتف، وهو ما صدقه الأب تماما، مما جعله يقرر أن يُسافر إلى أحد المختصين في استحضار الأرواح، إذ قام هذا الدجّال بأخذ ماله ونصَحَه بالذهاب إلى الغابة قرب المكان الذي سقطت فيه أحد النيازك، وهناك سيتمكن من التواصل مع زوجته.

ووسط مغامرات الأب غير المتوقعة يعيش الابن في حالة من الفوضى، فهو يحاول إرجاع الأب إلى البيت، وفي الوقت نفسه لديه ضغط كبير في العمل بعد أن تم رفض الإعلان الذي قام بتصويره، ويجب إعادة تصحيح الألوان أو إعادته في أقرب فرصة أو إلغائه نهائيا، بالإضافة إلى كذبه المستمر على زوجته التي لم يخبرها بوفاة أمه وقال لها بأنه في رحلة عمل لخوفه عليها لأنها في مرحلة حمل، مما جعله يختلق لها القصص ليبرر غيابه، ثم ليتبين في النهاية أن الأب كان واهما لأنه كان يشعر بتأنيب الضمير، ففي آخر مكالمة هاتفية تمنى لزوجته الموت.

أما هي فأرادت أن توصيه بأمر لكنه لم يعرف ما هو هذا الأمر، لهذا يعيش حياة قلق وتأنيب ضمير، وبعد أن تحصل على الهاتف سمع رسالتها المخزنة التي وُجهت له، حيث أوصته بأن يقوم بتحويل فاكهة السفرجل التي في القبو إلى مربى يحفظه قبل أن يفسد، وهذا ما قام به تنفيذا لطلبها مع ابنه بافل، وفي الوقت نفسه قاما من خلال هذا المشهد بتوضيح كل المسائل العالقة بينهما، وكأنها يتصالحان من جديد.

فيلم "الأب" يُفسر العلاقات الاجتماعية المعقدةّ، ويقدمها في قالب الكوميديا والدراما
فيلم “الأب” يُفسر العلاقات الاجتماعية المعقدةّ، ويقدمها في قالب الكوميديا والدراما

تفاصيل تصنع الجمال

فيلم “الأب” يُفسر العلاقات الاجتماعية المعقدة، ويقدمها في قالب الكوميديا والدراما، لنضحك ونتعظ في الوقت نفسه، وهذا من خلال اللعب على التفاصيل الصغيرة والاشتغال عليها بشكل دقيق، لأن النظر إلى كل جزئية بالأهمية نفسها هو ما يخلق المعادلة الكلية للجمال، وكمثال دقيق ما تعكسه الفسيفساء التي تتشكل من أجزاء، ولكل جزء منها دور مهم فقط يتم وضعه في المكان المناسب.

هذا ما حدث في هذا الفيلم الذي قاما بإخراجه شراكة كل من المخرجة كرستينا غروزيفا والمخرج بيتر فالغانوف، بالإضافة إلى أنهما قاما بكتابة السيناريو، وكون المخرجين رجلا وامرأة يجعلنا نفهم عمق الحوار وتشعّب القصة، لأن كل طرف استكمل الطرف الآخر، خصوصا في فهم العلاقة بين الأب وزوجته، أو الابن بافل وزوجته، وبشكل عام العلاقة بين المرأة والرجل، وكأن المخرج والمخرجة قاما بعكس ما بداخلهما في الفيلم، لهذا لا نلمس أيّ غرابة أو ثقل في الحوار أو في عمق الشخصيات.


إعلان