السكر المر.. ذلك الموت الحلو

في الوقت الذي كانت فيه كبيرة الطهاة في قصر شومبرون التاريخي وسط فيينا تشرح للسائحين طريقة عمل فطيرة التفاح الشهية، كان السيد توبلاك رئيس جمعية السمنة الأوروبية يرفع إشارة التحذير من الدرجة القصوى أنه ولأول مرة في تاريخ البشرية، تزيد حالات مرضى السمنة وزيادة الوزن على حالات المجاعة في العالم.

إنها المرة الأولى التي يُجمع فيها الأطباء وعلماء الاجتماع ورجال الدين على أن بعض السلوكيات الغذائية الخاطئة، والشراهة في تناول الطعام، والأنانية المفرطة لدى بعض البشر في تخزين كميات غير ضرورية من الأغذية بحجة الخوف من المجاعة، وسياسة السادة والعبيد في الاستيلاء على أراضي الغير ومحاصيلهم.. كل هذه وغيرها من العوامل أدت إلى ظهور أمراض لم تعهدها البشرية من قبل، مثل السكري وفرط السمنة.

وقد بثت قناة الجزيرة الوثائقية فلماً بعنوان “السكر المر” يسلط الضوء على بعض أمراض العصر الحديث وأهمها فرط السمنة ومرض السكري، ويقف الفيلم على أهم العوامل التي تساعد على تفاقم هذه الأمراض، ولا تقف هذه العوامل عند بعض الأغذية الضارة، ولكن تتجاوزها إلى العوامل الأخلاقية والدينية والسياسية بشكل عام.

وتكمن أهمية هذه المادة الوثائقية الشيقة أنه تم تصويرها في فيينا عاصمة النمسا، هذه المدينة التي تم اختيارها كأفضل مدينة للعيش على مدى عشر سنوات متتالية، فيينا عاصمة الشوكولا وفطيرة التفاح والحلويات اللذيذة الأخرى، وهي أيضاً قلب أوروبا المفعم بالحياة، وعاصمة الحدائق والمتنزهات الجميلة حين يعشق البشر الحياة.

السكر والملح.. هل هما من السموم المستساغة؟

“إليزابيث جاغر” مريضة سمنة قامت مؤخرا بعملية قص جزء من معدتها، والهدف هو تقليل كمية الطعام التي تتناولها يوميا، وفي الوقت نفسه تقليل الشعور بالجوع.

وتعتبر هذه العملية الحل الأخير للذين يعانون من فرط السمنة، وهؤلاء عليهم أن يتناولوا المكملات الغذائية بقية حياتهم، إنها عملية مفيدة على حد تعبير السيدة جاغر، ولكنها خطيرة للغاية.

يعتبر الكثيرون ومنهم السيدة جاغر، أن سلوكيات التغذية الخاطئة التي تعتمد على مادة السكر بإفراط يعود لها الدور الأكبر في تفشي مرض السمنة، والذي يرتبط به مرض السكر ارتباطا عضويا، وما لم يغير الأوروبيون من نمط حياتهم ويقللوا استخدامهم لهذا المادة الضارة فإنهم سيكونون عرضة لما هو أسوأ دائما.

يعبئ أحد مصانع السكر في النمسا ما يعادل نصف مليون طن سكر سنويا، ولكن السيد “يوهان ماريهارت” المدير التنفيذي للشركة يؤكد أن السكر ليس هو السبب الرئيسي في مرض السمنة، ولكنه أحد الأسباب بالطبع، فالسكر لذيذ وحلو، ولذا يفرط الناس في تناوله.

أما الدكتور “ستيفان كريوانيك” وهو طبيب جراح فيقول: إن ما يقلقني هو أن مزيدا من الشباب يعانون من زيادة الوزن، وعندما يتاح لي التحقق من الأمر، أجد أن المشروبات المحلاة لها الدور الأكبر في ذلك.

ويؤكد جوزيف زوتر وهو صاحب مصنع شوكولاتة، أن السكر غالبا ما يستخدم للتغطية على رداءة مكون آخر، ولذلك فهو يعمد إلى تعويد الزبائن على تناول الشوكولاتة بكمية قليلة من السكر، ويدعوهم إلى الاستمتاع بطعم الكاكاو الأصيل، ويضيف أن كثيرا من أنواع الحلويات الرخيصة تكون فيها كمية السكر كبيرة جدا، لأن السكر يعتبر أحد أرخص المواد الخام عالميا، ولذلك فإنك تجد السكر في مكونات غالب الأطعمة التي تقدم للناس، ومهما اختلفت المسميات فلا بد أنك ستجد السكر في آخر مكان يمكن أن تتوقعه.

السكر يضفي الطعم المميز على الحلوى والشوكولاتة، ومع ذلك يعتبر الأطباء كثرته خطرا

وتشن السيدة جاغر حملة عنيفة على مصنعي المواد الغذائية الذين يسوقون استخدام سكر الفركتوز على أنه ذو قيمة غذائية عالية، ولكنه في حقيقة الأمر مادة تستخرج من حبات الذرة يجب التخلص منها إلى مكب النفايات، وهم بدل ذلك يستخدمونها كمادة حافظة تجعل الناس يدمنون عليها.

يقول “هيرمان توبلاك” رئيس جمعية السمنة الأوروبية: إذا تتبعت التطورات التي طرأت على الأغذية خلال السنوات الأربعين الماضية تجد أن المكونات السكرية هي التي زادت زيادة ملحوظة، وبشكل أكبر بكثير من الزيادة في المواد الدهنية، وهذه الثقافة الطارئة جاءت في أكثر الأحيان من أمريكا؛ طعام قليل الدسم ولكنه كثير السكريات، وهذه كارثة لمواطنينا، إنه الإدمان بأجلى صوره.

ويضيف: كان الإنسان الأول يعتمد على الصيد وكان يأكل كثيرا، ولكنه في المقابل كان يمشي ما يقرب من 17 كيلومترا ليحصل على غذائه، أما اليوم فنحن نأكل كثيرا ونتحرك قليلا، وهذا مدعاة لكثير من الأمراض وعلى رأسها السكري.

نهم السكر الإدماني

يرى كثير من المختصين في مجال التغذية أن تناول السكر قد يؤدي إلى ما يشبه حالة الإدمان على المخدرات، وأن تناول ما يزيد على أربعة أضعاف ما توصي به منظمة الصحة العالمية يؤدي إلى الإدمان على السكر.

لذا فإن “روبرت لانزينبيرغر” الباحث في علوم الدماغ في مستشفى فيينا الجامعي، يدعونا إلى تجربة عملية يثبت فيها أن مركز المكافآت في الدماغ الذي ينشط عند ذكر الكوكايين أو الأفيون لدى مدمني المخدرات أو عند الإشارة لمشروب كحولي لدى مدمني الخمور، هو نفسه الذي يتحفز عند رؤية صور الحلويات الشهية من قبل الأشخاص الذين لا يتخيلون أن يمضي يومهم بسهولة إذا لم يتناولوا شيئا من السكريات.

لكن الدكتور روبرت ومعه عالم اللاهوت والفيلسوف كليمان سيدماك يحاولان أن يفرقا بين الإدمان الذي يسلبك الإرادة ويمنعك من السيطرة والتحكم في سلوكك مثل إدمان المخدرات، وبين “السلوك الإدماني” في تناول السكريات والذي لا يسلبك حق الاختيار والتحكم. بيد أن الفيلسوف كليمان يحذر من أن يجرّك هذا السلوك الإدماني إلى ما لا تحمد عقباه من قبيل الوقوع في مشاكل صحية وخيمة.

سلوكيات التغذية الخاطئة التي تعتمد السكر بإفراط يعود لها الدور الأكبر في تفشي مرض السمنة

ويضيف كليمان: الفكرة أننا لسنا كائنات مادية فقط، هناك جانب روحي فينا، والمطلوب من الجسد أن يخدم الرحلة الروحية للكائن البشري وليس العكس، فأساس الدين عندنا هو عدم وضع طاقة فكرية لخدمة الجسد، بل العكس هو الصحيح، وهو ما يسمى الزهد وعكسه الشراهة المنبوذة في كل الأديان والتي تعد عندنا خطيئة.

يعيش في أمعاء الإنسان ما يقرب من كيلوغرام ونصف من الميكروبات والبكتيريا، وهي مجهريات مهمة جدا في عملية الهضم يتغير تركيزها بحسب المواد التي تهضمها الأمعاء. وفي حالة السكريات تتغير الإشارات الواردة للدماغ بحسب إعادة تموضع هذه الميكروبات في الأمعاء، وبالتالي تؤثر على الحالة المزاجية للشخص بشكل عام، والذين يتناولون السكريات بشكل أكثر تنمو في أمعائهم بكتيريا تشتهي السكر وتعيش عليه، وتطلق ومضات عصبية للدماغ بما يشبه تأثير المخدرات على الدماغ، وتستثير أجزاء في الدماغ تلح على الشخص بأكل السكر، وبالتالي فإنها تتحكم في مشاعرنا وسلوكنا وتصرفاتنا.

هل يتسبب السكر بالموت البطيء؟

ينشط كثير من الناس في جماعات ضغط ضد السلوكيات السيئة التي تؤدي إلى السكري، وهم يتهمون المروّجين للحلويات والسكريات بأنهم يشبهون الذين يروجون للتبغ والكحول إن لم يكونوا هم أنفسهم. وجماعات الضغط هذه تحاول أن تقلل من أهمية التفرقة بين السكريات والكربوهيدرات مثل الدقيق الأبيض والبطاطس، وتقول إنها في النهاية تحمل نفس الأضرار وتؤدي إلى السكري ونتائجه الوخيمة، ولذلك فإنهم يشددون على المشي والحركة الكثيرة لحرق الدهون والسكريات.

وهناك توصيات من منظمات متخصصة بالمشي عشرة آلاف خطوة يوميا للحصول على نتائج جيدة؛ فالمشي والحركة واستخدام الدراجة الهوائية من شأنها أن تقلل من إنتاج الأنسولين الذي هو بروتين بنائي يساعد على تركيز السكر في الخلايا، وحتى المشي البطيء داخل المنزل لمدة عشرين دقيقة كفيل أيضا بإراحة البنكرياس.

هناك توصيات من منظمات متخصصة بالمشي عشرة آلاف خطوة يوميا للحصول على نتائج جيدة

وبالعودة للدكتور توبلاك فإنه يشير إلى حقيقة مرعبة، وذلك أن الكرش اللطيف الذي كان يظهر على كبار السن في الماضي، صرت تراه أكثر بشاعة على الشباب الصغار، وذلك بسبب الممارسات الخاطئة في أساليب التغذية.

يقول توبلاك: الأمر الكارثي في أمراض السمنة والسكري هو أن آثارها تتراكم بشكل بطيء جدا وغير ملحوظ تماما في الجسم، فانقباض الأوعية الدموية ثم انسدادها ثم جلطات متفرقة وبعدها دعامات في القلب والكلى إلى فشل كامل في الكلى، يستتبعه بالضرورة غسيل الكلى بشكل دوري، ثم انسداد الشعيرات الدموية في الساقين والقدمين والذي يؤدي بشكل حتمي إلى بتر هذه الأعضاء (في ألمانيا وحدها تُبتر خمسون ألف ساق سنويا بسبب السكري فقط)، ثم العمى الكلي في حالات عديدة.. إنه الموت البطيء دون شك.

الشراهة والجوع.. أخلاقيات السادة والعبيد

هنالك بُعد أخلاقي للمسألة، فحسب رأي عالِم الأديان كيرت ريميل، فإن سياسة توزيع الغذاء حول العالم تقتضي وجود مجتمعات مستهلكة متخمة تتمثل في الدول الأوروبية، ومجتمعات لديها مخازن كبيرة للغذاء ولكنها تعاني من فقر وسوء تغذية، وهذا يتمثل في دول آسيوية وأفريقية عدة.

“كورت شميدنجر” الجيوفيزيائي وعالم الغذاء، يتناول جانبا آخر من المسألة وهو وجود الكربوهيدرات العديمة الفائدة في غذائنا، والتي تحتاج إلى تدمير جزء كبير من الغابات المطيرة في كوكبنا من أجل إنتاجها، فزراعة الذرة وإنتاج اللحوم لها تأثير مدمر على التوازن الطبيعي في الكوكب.

ومن التداعيات الأخلاقية أيضا أن مئات الملايين من الفقراء والمعدمين في معظم أنحاء العالم والذين يقومون بتوفير هذا الغذاء لأهل أوروبا، قد يتحولون إلى سلاح فتاك يهدد أمن أوروبا الاجتماعي، لأنهم ببساطة مشاريع لاجئين قد يغزون أوروبا في أية لحظة.

يقول الصحفي كيرت لانغبين: هناك عشرة آلاف لاجئ هربوا فعليا إلى أوروبا من هذه المناطق خلال العام الماضي فقط، وهم مهيؤون للزيادة.

ويضيف: اكتشفتُ للأسف أن المَزارع التي يعمل بها هؤلاء المعدمون على طول خط الاستواء والتي تنتج لنا الذرة والسكر والكاكاو؛ يتم تمويل 44% منها من جيوب المستثمرين الأوروبيين. إنه أمر مرعب عندما تكتشف كم عدد الأطفال تحت السن القانونية الذين يعملون في هذه المزارع. لقد رأيت تجار الرقيق وهم يسرقون الأطفال من بين أيدي أمهاتهم اللاتي لن يرينهم بعد الآن، كم هي أوروبا مجرمة بحق هؤلاء؟

أمراض السمنة والسكري تتراكم آثارها بشكل بطيء جدا وغير ملحوظ في الجسم

إن وسائل الدعاية والإعلان ترتكب خطيئة مجتمعية لا تغتفر بحق الأطفال وصغار السن عندما تروج بطرق شيطانية للشوكولاتة والسكريات، وفي المقابل هناك نقص في التوعية من قبل الآباء والمحاضن التربوية والمدارس، ثم عندما يكبرون وتترهل بطونهم يدرك الناس أنهم قد وقعوا في شراك السمنة والسكري، ولكن حين لا ينفع الإدراك.

استمرار الأمل

ما الحل إذن؟ يؤكد المختصون على المزيد ثم المزيد من الحركة والرياضة، كما أن رجال الدين والكهنوت يؤكدون على المعاني السامية مثل إنكار الذات والالتزام بالمعايير المجتمعية والتوصيات الصحية، وكذلك الضغط على النفس من أجل الانضباط بالبرامج الصحية وإشهاد العائلة والأصدقاء على برامجك حتى يكونوا عونا لك في تنفيذ ما يتوجب عليك.

ومن جهتهم يوصي خبراء التغذية بالبحث عن الأماكن التي تقدم طعاما قليل السكر والكربوهيدرات، وتقدم عوضا عن ذلك مواد غذائية غنية بالمعادن والفيتامينات.

والأمل ما زال قائما في القضاء على السكري من دون تدخلات طبية وبالحمية فقط وبتخفيف الكربوهيدرات والتخلص من غير المفيد منها كليا، والمشي والرياضة والحركة بشكل مستمر، واستبدال السكر بالمُحلّيات الطبيعية الأخرى مثل نبات الستيفيا.

كما أن لدى بعص مصانع الشوكولاتة الصحية عرض جيد للشراء: كُلِ النصف وادفع الضعف ولنعش سعداء جميعا.


إعلان