“زيّانة”.. زوجة عُمانية متوارية في المنفى الهندي
عدنان حسين أحمد
دأب المُخرج العُماني خالد الزدجالي في معظم أفلامه على الاهتمام بقضايا المرأة العُمانية، وفي فيلمه الروائي الطويل الثالث “زيّانة” يُركّز على إساءة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي واستغلالها في تشويه سمعة امرأة عُمانية وخدش كرامتها في مجتمع عربي إسلامي مُحافظ، الأمر الذي يُفضي بها إلى “متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة”، وما ينجم عنها من توحّد وسلوك عنيف لأنها وُضِعت في موقف عصيب لا يمنحها الفرصة للدفاع عن نفسها، والذود عن كرامتها المهدورة.
لا تسير الأحداث بخطٍ تصاعدي مستقيم، ويبدو أن كُتّاب السيناريو الثلاثة فاطمة السالمية وفيصل ميران والزدجالي نفسه يتمتعون بحِرفية واضحة جعلتهم يعتمدون الاسترجاعات الذهنية التي تُعيدنا إلى الحياة السعيدة للزوجين عادل (علي العامري) وزيّانة (نورة الفارسية)، وتُرجعنا أيضا إلى لحظات التحرّش التي قام بها زياد (خميس الرواحي) في مقهى باذخ بأحد الفنادق الراقية، وذلك حين لمس يدها وهو يضع أمامها الورقة التي كتب فيها صديقه شامس (سيف القصبي) رقم هاتفه، فنهضت حاملةً كأس العصير الذي رشقته به أمام زبائن المقهى ونعتتهُ بالحقير الذي لم يتربَّ جيدا.
ثُلّة منحرفة
تبدأ أحداث القصة السينمائية من هذه الانعطافة التي تدفع زياد للتفكير بالانتقام من زيّانة؛ المرأة العُمانية المتزوجة التي تسعى للحفاظ على حياتها الزوجية وتحلم بإكمال دراستها العليا في حقل اختصاصها الجامعي.
تبدأ هذه الثُلّة المنحرفة من الأصدقاء الثلاثة بالتخطيط للانتقام من زيّانة، حيث يندسّ زياد تحت سيارتها ويُحدث فيها عطبا ما، ويعود إلى أصدقاء السوء الذين ينتظرون خروجها في سيارتهم، ثم تَتَبُّعها ومحاولة الإيقاع بها حسب الخطّة الشريرة التي رسموها في أذهانهم.
وفي طريق عودتها إلى المنزل في وقت متأخر في الليل تتوقف سيارتها، فيقترب منها سالم (عمر الكيومي) ويعرض مساعدته عليها، لكنها ترفض أن تُنزل نافذة السيارة ولا تُحبِّذ مكالمته، وتحاول الاتصال بزوجها الذي لا يردّ على مكالماتها المتعددة، فترضخ في خاتمة المطاف وتفتح باب السيارة، لكن “سالم” يعاجلها ويضرب رأسها على المقوَد مرتين، فيُغمى عليها لبعض الوقت، الأمر الذي يُتيح لزياد أن يجلس إلى جوارها ويضع القناع على وجهه، تاركا الأمر إلى شامس كي يصوّرهما بأوضاع حميمة من زوايا مختلفة. وفي لمح البصر تنتقل هذه الصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتُحطم أسرتين عُمانيتين بكاملهما، وليس زيّانة وزوجها عادل فقط.
أفلام الطريق.. كشف جماليات المكان
يُصنَّف “زيّانة” كفيلم درامي في بُنيته السردية، لكن ما إن ينتقل “عادل” الشخصية الرئيسية في القصة السينمائية إلى الهند باحثا عن زوجته التي توارت على حين غرّة؛ حتى نُصبح أمام فيلم من أفلام الطريق الذي يكشف لنا جماليات المكان، في كل من كيرلا وسلطان بيذَري وما بينهما من مساحات خضراء تسرُّ الناظرين.
تتصاعد وقائع الفيلم وأحداثه الدرامية حينما نتعرّف إلى الشخصيات الهندية، وبعضها معروف جدا في المشهد السينمائي الهندي، مثل “كوباغومار” الذي جسّد دور “كاني” والد “آشا”، وهناك “راجو رام” الذي أبدع في دور السائق “فضل الله” الذي رافق عادل في رحلته الطويلة إلى مركز التأهيل الذي يبعد 500 كلم عن مدينة كيرلا، والتي لا يعرف فيها البطل أحدا سوى فضل الله ولينا صديقة زوجته في الجامعة، إضافة إلى شخصيات ثانوية هندية أثّثت مناخ الفيلم وجعلته أقرب إلى الفيلم الهندي منه إلى فيلم عُماني، خصوصا وأنّ نسبة التصوير في عُمان بلغت 30%، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى 70% في عموم المدن والقرى الهندية التي صُوِّرت فيها غالبية مَشاهد الفيلم وتُجسّد رحلة البحث عن الزوجة المتوارية في المنفى الهندي.
جُرح الكرامة
وما إن يهبط عادل في المطار حتى يجد في انتظاره السائق فضل الله، وهو شخص مرح خفيف الظل يكسر إيقاع الفيلم الدرامي، ويُخفِّف من ثقل المأساة المعنوية التي يُعاني منها عادل وزوجته زيّانة.
يتصل عادل بـ”لينا” صديقة زوجته وشريكتها في السكن الجامعي، ويذهب على وجه السرعة للقائها في جامعة كيرلا، فتُخبره بما حدث لزوجته التي كانت متشوِّقة ومتحمِّسة لدراستها، لكن حماسها سرعان ما تلاشى أثناء فترة الدراسة، وأصبحت تؤذي الآخرين وتبالغ في تصرفاتها الحسّاسة مع الطلاب.
وبما أنّ الفيلم يعتمد على تقنية الاستعادة الذهنية كما أشرنا سلفا، فإن المُخرج يقدِّم لنا مشهدَ “لينا” وهي تتهرّب متذمرة من صديقها المِلحاح الذي يستفسر عن سبب نفورها المفاجئ منه، وتملصها من الإجابة على أسئلته، الأمر الذي يدفع زيّانة لأن تضربه بالكتاب على صدره وتبدأ بالصراخ مُستذكرة إساءة زياد لها، حيث تقرّر إدارة الجامعة إرسالها إلى مركز تأهيل بعيد جدا، وذلك كي تتعالج وتتخلص من هذه المتلازمة النفسية التي بدأت تُسبب لها مشاكل مع الناس المُحيطين بها.
ومن خلال حديث “لينا” نُدرك أن زيّانة بدأت تعاني من التوحّد، وقد اختارت العُزلة الشخصية، فهي لا تتحدث حتى إلى صديقتها المفضّلة التي تشاركها السكن والحياة الدراسية.
وعلى الرغم من الإجراء الصارم الذي اتخذتهُ الجامعة، فإنّ الأستاذ يعتبرها طالبة ممتازة تُرحّب بها الجامعة في أي وقت، شرط أن تستريح وتمنح نفسها بعض الوقت كي تتخلّص من مِحنتها الشخصية، وتداوي جُرح الكرامة الذي تعرّضت له من قِبل الثُلّة الخارجة عن أعراف المجتمع العُماني.
سلاسة النسق السردي
يبدو أنّ السيناريو مكتوب بحِرفية عالية، الأمر الذي جعل النسق السردي للفيلم سلسا، حيث بدأنا نتعرّف على الشخصيات العُمانية والهندية تباعا، بدءا من السائق فضل الله ولينا وميناشي، مرورا بآشا ووالدها كاني طبيب الأعشاب وراجيش، وانتهاء بالعصابة التي تعرّضت لهم في الغابة واشتبكت معهم بعض الوقت، قبل أن تصل قصة الفيلم إلى ذروتها ويلتقي عادل بزوجته زيّانة ليعود بها إلى مَسقط من جديد.
أثناء هذه الرحلة الطويلة يبوح فضل الله لعادل بأنه يعرف مسقط وصلالة ونزوى وصحار والوادي الكبير، وذلك لأنه عمل هناك 12 عاما، وتعلّم اللغة العربية “الخليطة”، وأصبح مندوبا في إحدى الشركات التي تزوّد المحلات العُمانية بحلوى الأطفال، لكن تبيّن لاحقا أنّ الشركة كانت تضع تواريخ مزوّرة على الحلويات المنتهية الصلاحية، فأصبح كل المندوبين أكباش فداء، إذ رُحِّلوا إلى بلدهم بينما ظلّت الشركة تعمل في عُمان.
حوادث على الطريق
طوال الطريق إلى مدينة سلطان بيذري يُصادف عادل العديد من المواقف، أبرزها حادث السير الذي سبّبه السائق وأوشك أن يُنهي حياتيهما معا، وتعطّل السيارة في مكان شبه منقطع، ومبيته في فندق على الطريق.
وحينما يتعذّر عليه تأجير سيارة تاكسي بسبب إضراب السائق في ذلك النهار؛ يضطر لركوب الحافلة التي يصادف فيها بعض المشاكل، حيث تجلس أمامه آشا (زارين شهاب) التي تتعرّض إلى مضايقة أحد الشبان الثلاثة الذين يصعدون الباص في الطريق، وحينما يشتبك معهم يجد نفسه مُلقى خارج الحافلة هو وفضل الله والفتاة آشا التي تذمّرت لتدخّله في حياتها الخاصة، لكنها سرعان ما أيقنت أنه فتى شهم انبرى للدفاع عنها، وتحمّل بسببها الطرد من الحافلة وهو في أمسّ الحاجة للوصول إلى مركز التأهيل الذي تتعالج فيه زوجته.
يكشف لنا الفيلم تباعا بقية الشخصيات الهندية والعُمانية، حيث نتعرّف على الفتاة “آشا” ووالدها “كاني”، كما نُطلُّ على قصة حُبّها مع راجيش، هذا الرجل اللعوب الذي نكتشف أنه متزوج ولديه طفلة، وأنّ علاقته بآشا ما هي إلاّ خدعة وتمضية وقت.
عُمان والهند
لا يفرّق الفيلم بين المشاكل التي تحدث في عُمان أو في الهند، فمثلما تعرّضت زيّانة العُمانية إلى فضيحة على وسائل التواصل الاجتماعي دفعتها للهروب إلى الهند، هناك “ميناشي” التي تعرّضت للاغتصاب الجماعي لكنها نهضت من كبوتها، وهي سعيدة الآن تستمتع بحياتها بعد أن مرّت بمرحلة إعادة تأهيل، كما تجاوزت “آشا” علاقتها مع “راجيش”، واكتشفتهُ قبل أن ترتكب خطأ تندم عليه.
يُركِّز الفيلم على مركز التأهيل الذي يضم عددا كبيرا من ضحايا التحرّش والمخدرات والعنف الأُسَري، والذي دفع البعض منهن إلى التفكير بالانتحار أو السقوط في فخّ التوحّد والعُزلة الشخصية.
لم تفعل العصابة شيئا وإن ألحقت بعض الضرر بعادل وكاني وروّعت آشا، لكنهم جميعا ينجون في خاتمة المطاف بعد تدخل الشرطة الهندية، ويصل عادل إلى مركز التأهيل ليأخذ زوجته ويعود بها إلى مَسقط ثانية.
انتقاد لاذع وهواجس مُتنوّعة
لم تكتفِ قصة الفيلم بالاعتماد على ثيمة واحدة هي تشويه سمعة زيّانة بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما تجاوزتها إلى العديد من الثيمات الفرعية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، والتوحّد والعنف والتحرّش والاغتصاب ومحاولات الانتحار، وزواج الهنديات من عرب ميسورين، والخيانة العاطفية والغربة، وممارسة اليوغا والتأمل، وغيرها من الأفكار والهواجس التي تنتاب غالبية شخصيات هذا الفيلم الذي يقول أشياء كثيرة تهمّ العالَمين العُماني والهندي على حد سواء.
يحمل الفيلم بين طيّاته انتقادا حادّا ولاذعا لبعض المواطنين العُمانيّين البَطِرين الذين يسافرون إلى الهند، ليس بهدف السياحة والاصطياف أو النهل من الثقافة الهندية، وإنما لغرض إشباع غرائزهم النهمة، وذلك كما فعل “مرهون” حين تعرّى كُليا أمام عاملة “المَسَاج” وجعلها تصرخ بقوة، ليجد نفسه أمام رجال الشرطة الذين أودعوه السجن، وتركوه خلف القضبان يدفع ثمن الخطأ الذي ارتكبه بحق المواطنة الهندية التي كانت تؤدي وظيفتها على أكمل وجه.
وهناك شخص عُماني آخر يُدعى “صلاح” الذي دفع ثمن إدمانه، فهو يعترف بالفم الملآن أنه هدمَ كل ما بناه طوال حياته، وقوّض كل ما بنتهُ الأسرة على مدى عقود طوال، وقد ظنّ الجميع أنّ الغربة هي الحلّ الوحيد له ولهم، لكنهم لم يعرفوا أنه قد خسر كل شيء، ولم يستطع أن يكسب حتى نفسه.
يُعدّ فيلم “زيّانة” للمخرج خالد الزدجالي أول تعاون عُماني هندي مشترك، وقد سبق لهذا المخرج الدؤوب أن أنجز فيلم “ألبوم” عام 2005، وهو أول فيلم روائي طويل في السلطنة، كما أردفهُ بفيلم “أصيل” عام 2012، ثم توالت أفلامه ومسلسلاته التلفزيونية الناجمة عن خبرته الإخراجية وتخصصه السينمائي الدقيق.
براعة التصوير والمونتاج
لا بدّ للمتلقي الذي يُشاهد هذا الفيلم أن يخرج بنتيجة مفادها أنّ التصوير الذي تبنّاه “أيابان إن” كان لافتا للانتباه، وينمّ عن خبرة بصرية واضحة في زوايا النظر التي تخدم طبيعة الفيلم برمّته، حيث أحاطنا بصور السهل والجبل والنهر والغابة والقرى المبثوثة في المناطق المُشجرة، إضافة إلى مدينتي عُمان وكيرلا.
كما أنّ براعة المونتير “جافال جافو” أسفرت عن سلاسة الفيلم الذي كانت أحداثه تتدفق بانسيابية واضحة لا يعوقها الافتعال في الأحداث أو السرد البصري، والذي بدا مُقنِعا على مدى 90 دقيقة استوعبت القصة السينمائية واحتوتها بالكامل.
حماس هندي وفتور عُماني
ثمّة فرق واضح في الأداء بين الممثلين العُمانيين والهنود، وهذا راجع للخبرة المتراكمة للممثل الهندي الذي يمتلك خبرة مئة عام في السينما، بينما لا يزال الممثل العُماني في بداية مسيرته السينمائية، خاصة في مضمار الأفلام الروائية الطويلة.
فقد تألق كوباغومار في دوره كطبيب أعشاب في القرية وكأب لآشا، حيث جسّد دوره بحرفية عالية يمكن تلمّسها في التعبيرات القوية التي رسمها على ملامح وجهه. كما أن أداء روجو رام كان مميزا في مَرحه وخفّة ظله، وقد أحبّ الجمهور حضوره الفكِه وقدرته على إقناع سيده عادل في العديد من المواقف الجدية التي لا تخلو من طرافة.
هذا الأمر ينسحب على آشا ولينا وبقية الممثلات الهنديات اللواتي قدّمن أدوارهن بحيوية وحماسة، قابلها فتور نورة الفارسية وبرودة أدائها الذي لا يرتقي إلى دور البطولة التي تناصفتها مع علي العامري.
رؤية إخراجية راسخة
جدير بالذكر أن فيلم “زيّانة” شارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة التاسعة لمهرجان مالمو للسينما العربية، لكنه لم ينل أي جائزة من جوائز المهرجان الخمس، وذلك لقوّة الأفلام السبعة الأخرى، فقد خطف “ليل خارجي” لأحمد عبد الله السيد جائزة أفضل فيلم روائي طويل، فيما نال “صباح الخير” لبهيج حجيج جائزة أفضل إخراج، كما حصل فيلم “مفكّ” على جائزة أفضل سيناريو، أما جائزة أفضل ممثل فقد ذهبت إلى أحمد الحفيان عن دوره في فيلم “فتوى” لمحمود المحمود، وحصلت فاطمة عاطف على جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم “مياركة” لمحمد زين الدين.
ولو كانت هناك جوائز أخرى للتصوير والمونتاج والمؤثرت السمعية والبصرية لذهبت بالتأكيد إلى فيلم “زيّانة”، الذي أكدّ فيه خالد الزدجالي رؤيته الإخراجية التي تترسّخ كلما أنجز فيلما روائيا جديدا.