“يقولون لا شيء يبقى على حاله”.. جسر يهزم قاربا

عبد الكريم قادري

تملك اليابان ماضيا مُشرفا وتاريخا حافلا في السينما، فقد تطورت هذه الصناعة في اليابان منذ ظهورها صامتة مرورا بنطقها وصولا إلى اليوم، وشهدت خلال هذه المحطات الزمنية صعودا ونزولا متناوبا في كل مرة، لكنها في المجمل لم تختفِ بالمطلق، وقد سجلت حضورها في كل مرحلة من خلال المهرجانات والجوائز العالمية الكبرى، مثل مُنافستها على جوائز الأوسكار لـ15 مرة لأفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية، وقد حصدت منها أربعة أوسكارات، ناهيك عن “سعفة كان” و”دب برلين” و”أسد البندقية”، وكلها جوائز ذهبية رفيعة لأصحاب المراكز الأولى، بالإضافة إلى العديد من الجوائز الأخرى.

لا يمكن ذِكر السينما اليابانية دون أن نذكر صانع مجدها أكيرا كوروساوا (1910-1998) الذي أبرز هوية اليابان الثقافية والحضارية عن طريق صناعة الأفلام، حتى عُد أحد عظماء هذه الصناعة في العالم بعد أن ترك -رفقة مجموعة من المخرجين الأوائل- أرشيفا مُهمّا ساعد بشكل كبير في تكوين مجموعة كبيرة من المخرجين اليابانيين الجدد الذين اقتبسوا من تجاربهم، سواء أولئك الذين اتبعوا آثارها، أو الذين خَلقوا لأنفسهم نهجا جديدا مُغايرا لما ورثوه وتميزوا به.

وقد انعكس هذا الفعل ميدانيا بعد التجارب الحميدة التي باتت تشارك وتفوز هنا وهناك مثل فيلم “سارقو المتاجر” للمخرج “هيروكازو كوري إدا”، والذي حصد “السعفة الذهبية” بمهرجان “كان” السينمائي (2018)، ثم يأتي هذه السنة عمل لا يقل جمالية وفنية عن الأول، وهو فيلم “يقولون لا شيء يبقى على حاله” (2019) للمخرج الشاب جو أوداجيري، والذي عُرض في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي (من 19 وحتى 27 سبتمبر/ أيلول 2019).

 

حِرفة التجديف.. والمصير المجهول

يقطن “تويشي” (أكيرا إيموتو) في كوخ خشبي صغير ومُتهالك يقع على حافة النهر، حيث يمتهن منذ سنوات خلت عملا كان مهما بالنسبة له وللكثيرين من سكان القرى والعابرين، وهذا من خلال القارب الصغير الذي يملكه ويكسب منه قوته، إذ كان يقوم بتوصيل الناس إلى الضفة الأخرى من النهر.

لكن حياته تغيرت كثيرا حين تم تشييد جسر كبير يربط بين ضفتي النهر، فمع قُرب نهاية الأشغال في الجسر اقتربت نهاية عمل “تويشي” الذي لا يملك حِرفة سوى حرفة التجديف ونقل الأشخاص عن طريق القارب الخشبي، لهذا فإنه بدأ يشعر بالحسرة على حاله، ويفكر جديّا في مصيره المجهول تماما.

لكن وبينما كان “تويشي” في تلك الحالة من التفكير المستمر اقتحمت حياته الخاصة فتاة غامضة وجدها مرمية في النهر، فقام بإنقاذها وإطعامها ومعالجتها، وهو الأمر الذي يغير حياته تماما، ليتخذ مسارا غير الذي سبق أن رسمه.

الممثل الياباني الكبير “أكيرا إيموتو” يملك تجارب كبيرة في التمثيل، خاصة وأنه يبلغ من العمر 71 عاما

 

نكران وجحود

تنعكس أهمية الإنسان من خلال العمل الذي يقوم به ويُجيده، ولا يمكن أن نشعر بأهمية هذا المنجَز إلا حين نفقده، وكل عمل -وإن كان صغيرا- يحمل في جوهره ميزة كبيرة ويشكل فارقا في حياة البشر.

هذا هو الإحساس الذي تملّك “تويشي” لعقود من الزمن، ومن حقه أن يشعر بهذا لأنه إذا غاب عن عمله مرة مهما كان سبب هذا الغياب، فإن حياة مجموعة من الناس ستتأثر بشكل كبير، وستولّد جملة من المعوقات أبرزها مثلا مَن سينقل الطبيب إلى المرضى، وكيف ستنتقل العائلات إلى القرية، وكيف سيلتحق العامل بعمله.. وهكذا.

من هنا تنعكس هذه الأهمية ومن خلفها الإحساس الذي يسكن “تويشي” الذي يعرف جيدا بأنه يُقدّم عملا جبارا للبشر، لكن سرعان ما يذوب هذا الإحساس بعد أن تشرق عليه شمس الجسر الذي أوشك على نهايته، ومن هنا يبدأ الأفراد الذين كانوا يتنقلون عبر القارب لسنوات في التنكر له، إذ إنهم لم يُظهروا تعاطفا معه، أو على الأقل لم يحترموا عاطفته، بل جاهروه بتلهفهم في انتظار تدشين الجسر الجديد. ومن هنا تتشكل الخيبة الكبرى لدى “تويشي” الذي فاجأه تنكر العديد منهم لمساره، رغم أنه قدّم الكثير من وقته وجهده لهم، لكنه في المقابل لم يتلقَّ منهم سوى النكران والجحود.

صورة تجمع تويشي مع الفتاة التي حاول حمايتها من الشب “نيهي” الذي حاول اغتصابها

 

جسر على أنقاض أحلام الماضي

“تويشي” لم يكن يعرف شيئا عن التطور، فكل مهاراته في الحياة هي تلك المهارات التي اكتسبها من النهر بعبوره اليومي لعشرات المرات، أو الاستفادة من السمك الذي فيه، وقد تعلم منه أيضا العديد من المسائل الحياتية المهمة، منها الامتداد في الزمن والخير والعطاء والصفاء والاحتواء، لهذا دهسته عجلة التقدم، لأنه لم يكن يملك أي معطى حوله، بل يعيش وفقا لمعطيات الماضي، فلهذا لم تحفل به هذه العجلة الكبيرة أو تسأل عن مصيره، بل دهسته رغم ما يمثل في شخصه من محمول ثقافي وهوياتي.

ومن هنا تصبح عجلة التقدم أو التطور هذه أداة مدمرة لا تفكر في عواقب أفعالها، بل تدوس كل ما تجده أمامها، ساحقة بذلك المكتسبات الثقافية والموروث والعادات والتقاليد، ليصبح هذا التقدم غولا وإن كانت المكتسبات التي يحققها كبيرة، لكنها آنية إن لم يتم الحفاظ على العتبات والمقومات التي بني عليها المجتمع واستمر من خلالها لقرون من الزمن.

“تويشي” لم يكن يعرف شيئا عن التطور، فكل مهاراته في الحياة هي تلك المهارات التي اكتسبها من النهر بعبوره اليومي لعشرات المرات

 

شعلة التطور تحرق التراث

من هنا ينعكس العنوان “يقولون لا شيء يبقى على حاله” على متن الفيلم، وأصبح معادلا موضوعيا لفكرته، إذ إن عملية النقل وتوصيل الأشخاص لم تبقَ على حالها، وقد حلّ محلها الجسر، أما الشاب الدرويش “نيهي” صاحب الثياب الرثة الذي كان يصاحب “تويشي” فلم يبق هو الآخر على حاله أيضا، بل ذهب وعاد بثياب فاخرة وأنيقة، وأصبح ذئبا في ثوب بشر، وذلك بعد أن حاول اغتصاب الفتاة التي كان يحميها “تويشي”.

“نيهي” هو ابن الصياد الذي عاش حياته خلف الطرائد يصطادها ويأكل لحمها، وحين مات أوصى ابنه “نيهي” أن يرميه في الغابات، وذلك حتى تأكله الوحوش التي تعوّد على صيدها، لأنه لا شيء يبقى على حاله، فبالأمس كان صيادا واليوم تحوّل إلى طريدة.

حتى “تويشي” لم يعد على حاله، فقد قرر -بعد أن قتلت الفتاة الشاب “نيهي” الذي حاول اغتصابها، وبدأ العمل في الجسر- أن يحرق الكوخ ويخرج من المكان الذي عاش فيه في السابق ليبدأ مرحلة أخرى من حياته، مرحلة يمثلها الجسر الذي عبره مع الفتاة، إذ تشيّعهما أعمدة الدخان التي تتصاعد في السماء.

ومن هنا تتضاعف رمزية الكوخ الذي التهمته ألسنة النيران، وهو رمز سيميولوجي (علم العلامات) لكل ما هو قديم يتم حرقه بفعل عوامل التطور النفعية التي ترسم مصالحها بشكل آني، دون اكتراث لمحمول الماضي.

"نيهي" هو ابن الصياد الذي عاش حياته خلف الطرائد يصطادها ويأكل لحمها
الشاب “نيهي” هو ابن الصياد الذي عاش حياته خلف الطرائد يصطادها ويأكل لحمها

 

تحفة فنية متحركة

استعان المخرج جو أوداجيري في فيلمه “يقولون لا شيء يبقى على حاله” بالمخرج والممثل الأسترالي كريستوفر دويل ليكون مصوّر الفيلم، لهذا جاء العمل غنيا بشكل كبير بالصور الثابتة المتحركة والمتنوعة لمناظر طبيعية خلابة.

وقد كان التصوير أحد المقومات الأساسية في خلق جماليات هذا الفيلم التي تنعكس بشكل واضح في شعرية الصورة الطافحة؛ حيث نجد في المشهد الواحد عشرات اللقطات من العديد من الزوايا يتم تركيبها بكل تنوعها في مشهد واحد، وهذا تقريبا في كل مشاهد الفيلم المحورية، مما يعكس الجهد الكبير للمصور الذي استطاع أن يُطوع الفضاء المكاني الذي تم من خلاله تصوير الفيلم، وقد جاء ملائما بدرجة كبيرة.

من هنا توسعت دائرة الجمال الذي عكسه انسياب مياه النهر وفصل الشتاء وتساقط الأمطار والثلوج، إضافة للضباب والغابات بأشجارها الشاهقة، وبقايا جذور الأشجار على النهر، والصخور المنتشرة. هذه المقومات ساعدت في أن تكون الصورة جميلة بشكل كبير، خاصة وأن مصورها شخص يملك تجارب كبيرة في السينما.

يمثل هذا الفيلم ثاني تجربة للمخرج "جو أوداغيري" في إخراج الفيلم الروائي الطويل
الممثلون “أكيرا إيموتو” و”ريريكا كاوسيما” و”نيجيرو موراكامي” كان أداؤهم احترافيا

 

أصابع المحترفين

كما خلق المونتاج الذكي الذي شارك فيه المخرج جو أوداجيري إيقاعا جميلا وساحرا ولّد لغة خاصة في الفيلم، وساعد في فهم وإيصال العديد من الأفكار التي يحملها الموضوع، كما كان أداء الممثلين محترفا، وخصوصا “أكيرا إيموتو” و”ريريكا كاوسيما” و”نيجيرو موراكامي” و”ماساتوتشي ناغاسي”، فقد انعكس جهدهم في قيمة ما قدموه في العمل، حيث يشعر المشاهد بأنهم أشخاص حقيقيون قامت الكاميرا بتصويرهم على حقيقتهم، وأهمهم الممثل الكبير أكيرا إيموتو الذي يملك تجارب كبيرة في التمثيل، وقد سبق أن عمل مع الكثير من المخرجين المهمين، خاصة وأنه يبلغ من العمر 71 سنة.

يمثل هذا الفيلم ثاني تجربة للمخرج “جو أوداغيري” في إخراج الفيلم الروائي الطويل، بعد العمل الروائي الأول “البحث عن أزهار الكرز” (شارك في الدورة الـ38 لمهرجان روتردام السينمائي الدولي)، ويحاول المخرج عبر هذا الفيلم التموقع في الساحة السينمائية كمخرج سينمائي، بعيدا عن مهنة التمثيل والموسيقى اللتين كان يمارسهما لفترة زمنية طويلة، ويأتي هذا الفيلم “يقولون لا شيء يبقى على حاله” ليضاعف حظوظه في أن يكون مخرجا سينمائيا كبيرا.


إعلان