“الغياب”.. من حرب البوسنة إلى مآسي تونس
د. أحمد القاسمي
شارك وثائقي “الغياب” للمخرجة فاطمة الرياحي الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية عام 2018 في العديد من المهرجانات الدولية، وحاز على التانيت البرونزي لصنف الأفلام الوثائقية لأيام قرطاج السينمائية بدورتها الثلاثين.
يجعل هذا الفيلم المغامِر من مأساة منسية لعائلة تقطن بالهامش التونسي موضوعا له، فيعرض وجوها من محنتها بعد أن غيّب السجن الأب “توفيق” بتهمة المشاركة في الحرب الصربية البوسنية، بينما يعرض وجوها أخرى من أثر غياب زوجته البوسنية التي لم تستطع التلاؤم مع ظروفها الجديدة، فترحل مُخلّفة وراءها فتيات ثلاث يواجهن قدرهن بعدئذ.
وتمنح المخرجةُ سِمة الغياب أكثر من شكل، فلا تقصرها على اختفاء الأفراد، بل توسعها لتشمل الأحوال والهيئات والقيم، فيغيب إحساس توفيق بالعدالة، ويغيب إحساس والده بالاحترام، وتفتقر الفتيات للسكينة والسكن معا، ويغدو الفيلم رحلة في حيوات شخصيات مُحطمة تدمرها ذاكرتها المثخنة بالجراح والظلم، ولا يُسعفها حلمها بتحقيق توازنها المفقود، فتحول دونه عوائق محبطة.
وعلى خلاف الفيلم الوثائقي الكلاسيكي الذي ينحو منحى الدراسة البصرية ويصدر عن مقاربات معينة ومناهج محددة ويتنزل ضمن رؤية يغلب عليها حضور المخرج؛ اختارت فاطمة الرياحي ركوب الاختيار الصعب المجدّد، فبنت “غيابها” على ضمير الأنا، وآثرت أن تَظهر على الشاشة وأن تسائل بنفسها شخصياتها غير عابئة بخطر السقوط في الريبورتاج، على ما بين النمطين من الحدود الواهية، فكان الحاصل فيلما إبداعيا غير نمطي يوثّق الحقيقة من وجهة نظر صاحبته، وفي الوقت نفسه ينزع بجلاء إلى القصّ والتخييل.
الطفلة “يمينة”.. الحلم والكابوس
كثيرا ما أجمع النُقاد على أنّ الفيلم الوثائقي نمط مضادّ للنمط التخييلي، فيجدون في الأول خطابا موضوعيا يُعالج الواقع ويعمل على الوصول إلى الحقائق، ويردّون الثاني إلى الخطاب الذاتي الذي يجسّد عالم الخيال والأحلام.
أما متفرّج “الغياب” فلا مناص له وهو يتابع حكاية حياة من أن يتذكر إقرار “جان لوك غودار” بأنّ “أفلام التّخييل الكبرى تنزع إلى التوثيق نزعة الوثائقيات الكبرى إلى التخييل، ومن يتعمق جيدا في أحدهما يجد الآخر بالضرورة في منتهى الطريق”.[1]
أولى هذه النزعات اعتماده الحَبكة القصصية بطريقته المخصوصة، فالمقارنة بين لقطات البداية ومشهد النهاية تَكشف بناء هذا الأثر الوثائقي على شكل مُتجه يتقدّم باستمرار نحو “وضع ختام الحكاية” و”توازنها الفريد”، وتبيّن سيره على منهج أفلام التخييل.
يُستهلّ الفيلم بعرض “يمينة” الطفلة التي تحتفل بعيد ميلادها حالمة بأن تكون طبيبة يوما ما، وأن يخرج والدها توفيق من السجن، ويختتم بها وقد أضحت شابة تلاحق حلمها في المعهد الثانوي تحت رقابة والدها الذي خرج من السجن، وكأنها تأخذ بنصيحة سيد فيلد في توجيه كتاب “الدراما من أثره السيناريو” (ترجمة سامي محمد، دار المأمون للترجمة والنشر، 1989، ص78): “إن استطعت أن تعقد صلة بين بدايتك ونهايتك، فإن هذه الصلة تضيف لمسة سينمائية جميلة. ابدأ بمشهد في النهر وانتَهِ بمشهد في البحر: من الماء إلى الماء، أو من الطّريق إلى الطّريق، من شروق إلى غروب”.
لكن هذا الحلم لا يتحقّق إلا وقد أضحى أقر إلى الكابوس، فما إن يخرج توفيق من السجن حتى تختفي الأم من حياة بناتها وتعود إلى كوسوفو وتنقطع أخبارها، أما المنزل الذي تشقى الفتيات في بنائه ليجْمَعهن بوالدهن فيرفض الاكتمال لقِصَر ذات اليد، مما يضطر الأب نفسه إلى ترك القرية وترك بناته بحثا عن العمل في حظائر البناء في العاصمة.
“توفيق”.. مسار حياة متقلب
يمثل توفيق مدار القصّ ومركزه، فلا تفتأ الكاميرا تجمع نُتفا مُتباعدة من حياته عبر الشهادات المختلفة، وتترك للمشاهد إعادة ترتيب أطوارها من ولادته عليلا، إلى التعافي، إلى الدراسة الثانوية بالقرية، إلى الهجرة والالتحاق بالقوات البوسنية، إلى الزواج بـ”مارسيدا” وإنجاب البنات، إلى السجن وما عقبه من تشرد للأسرة، إلى رحيل الزوجة ومعاناة بناتها الحالمات بغد أفضل.. ولعل قارئ أسطرنا يجد الحكاية عادية على ما فيها من ألم أو يجدها واحدة من بين مئات القصص الحزينة التي تطفح بها بلاد عاشت أكثر من نصف قرن في ظلّ الديكتاتورية، وعاشت قبل ذلك طويلا في ظلّ الاستعمار، فكيف “للغياب” أن يشد متفرّجه بذلك الشكل؟ بديهي أن الجواب يكمن في طريقة المعالجة أساسا.
لقد ظلّت المخرجة فاطمة الرياحي تُلاحق مسار حياة توفيق أيام شبابه وأثناء هجرته وعند خروجه من السجن، دون أن تلجأ إلى العرض الخطي لشريط الأحداث، فلم يكن إيقاع القص ينسج الأحداث والوقائع فيرتبها على خطّ الزمن، ولم يعتمد حبكة تقليدية تتدرج عضويا في تشكيل العُقد لتصل إلى ذروة التأزم ثم تمهّد لحلّها، بل كانت بدلا من ذلك تلجأ باستمرار إلى تهشيم خط الزمن، وتفتّت فتراته لتعرِضها في شكل حلقات منفصلة حينا متداخلة حينا آخر، وتنزّل مقاربتها بالنتيجة ضمن جمالية التفكك، فتستهل الفيلم بالفيديو العائلي الذي يوثق الاحتفال بعيد ميلاد يمينة في العاصمة أيام سجن توفيق، ثم تنقلنا إلى عملية جني الزيتون وقد شبّت وغادرت رفقة شقيقاتها العاصمة بعد أن خرج والدها من السجن، وتتخذ من هذا النشاط وسيلة تكشف بها وجوها من معاناته بعد أن أفنى سنوات شبابه بعيدا عن بناته.
الصورة الذكرى.. بين الماضي والحاضر
يرحل بنا ألبوم الصور الذي تقلبه يمينة إلى سنوات طفولتها في البوسنة ولوكسمبورغ، بينما يأخذنا عمل توفيق في حظيرة البناء إلى حياته بعد السجن ساعيا إلى جمع شمل عائلته تحت سقف واحد، ومنه إلى ولادته وإلى ماضي الأب والجد الدستوري وهكذا.
تجعل المخرجة الرياحي من ترحيل توفيق من أوروبا واعتقاله في تونس نقطة ارتكاز منها يعود الفيلم إلى الوراء، فيسترجع أزمنة سابقة سِمتُها السعادة والتلقائية والوئام الأسري، ثم يتقدّم إلى الأمام ليُعرّي جراحا عميقة منها تشرّد الفتيات وأمهن، وتعذيب توفيق في سجنه وتفكك أسرته خارجه، فتغادر مارسيدا إلى كوسوفو ويصطدم بعنف مع والده، ويستسلم للشّعور بالمذلة والمهانة عندما يكتشف أنّ البوليس قد اغتصب زوجته.
حاصل هذا البناء صورةٌ ذكرى ينمو فيها القصّ وفق مُتجهين؛ أولٌ يتجه صوب المستقبل، وثانٍ يوغل في الماضي ويجول بين عالمَي الشخصية الخارجي والباطني، فلا تستدعي تجارب الماضي حين تعود إليه لتخبر به موسعة آفاق القصّ، بقدر ما تكشف عن ذوات فاقدة للتوازن عاجزة عن تمثل حاضرها، فتجعل من الماضي ملاذها، ومن خلال إعادة تأمله تسعى إلى التلاؤم مع راهنها دون جدوى.
هكذا إذن بعرض الزمن مهشما وعبر حركة الشخصية بين فتراته جيئة وذهابا، تخوّل المخرجة للمتفرّج أن يخترق طبقتها السطحية لينفذ إلى أعماقها، وليُطلّ على روحها الممزقة، فتعرض وجوها من مأساة يتواطأ الجميع لتجاهلها غير عابئين بمعاناة أصحابها.
أرواح باطنة تُسقَط على الفضاء الخارجي
جعلت المعالجة الفنية للفيلم من الفضاء مستويات؛ أولها المستوى المادي، ذلك الإطار الذي يحتضن الأحداث فيجعلنا نجول في منطقة جلمة من سيدي بوزيد في ريفها وبساتينها، أو يجعلنا نرحل عبر الفيديوهات إلى مدينة تونس، أو عبر الصور إلى البوسنة أو لوكسمبورغ.
أما ثانيها -وهو الأهم- فناشئ عن ما لكاميرا المخرجة من مهارة تنتزع الفيلم من بُعده المادي فتحوّله إلى مجاز يُشكّل المشاعر بصريا، وينثر على أديمه الأفكار المجردة.
فيمينة التي تُمزَّق بين ضرورة الخضوع لأب مُتشدد يرفض أن تتذكر أمها، وبين ذكرى الأم الراحلة المراقَبة من قبل البوليس؛ تظهر على الشاشة والأشواك من خلفها ونبات الصبار من أمامها، ويعلق ثوبها وهي تطبخ الخبز في الفرن بهذه الأشواك ويتمزّق، وهنا يتجسد الفضاء الخارجي شاشة تعرض الروح الباطنة وتجعلنا نرى الألم عيانا، وتنعكس صورة وجوه الفتيات الجميلات بملامحهن الغربية الآسرة على صفحة الماء في البئر. ويُرمى بالدلو ليغوص تحت الطبقة السطحية فترتج الصفحة وتشوّه الصورة، فيعبث الارتطام بهذا الجمال البريء. وتتراكم الغيوم فتصد أبواب السماء وتتحول إلى غطاء يمتد فوق جبال متسامقة، فإذا بالفضاء الخارجي يتحول إلى زنزانة تحكم الطوق على توفيق المُحاصر بماضيه وذكرياته.
ويضيق بتوفيق الحال في مضيق “قلاس”، فيذرع الطريق جيئة وذهابا وهو يتأمل ماضيه، وتقفز إلى ذاكرته صورة جيوش هتلر وهي تنهار في ذات المضيق، وتبدأ هزائمها التي تنتهي بانهيار حلمه. هنا انهار جيش هتلر العظيم، فكيف بتوفيق وهو الفقير الأعزل؟
وليُعزّي ذاته المهزومة ويمنحها انتصارا موهوما يفترض أن مارسيدا تعود إليه، فيتمنع مُكابرا مغالبا شوقه مُعلنا رفضه لهذه العودة، فإذا الخطافان القابعان على السلك الكهربائي يفترقان ويذهب كل منهما في اتجاه مكرسين سطوة الواقع.
وإجمالا كانت كاميرا الرياحي تجعل ألم الشخصيات يحمل صبغة مسرحية باستمرار، وتعرض أرواحها الباطنة بصريا وتسقطها على الفضاء، وكانت تمنح الأفكار والمشاعر هيئات وأشكالا وأبعادا وأطوالا، وكانت بذلك تنقل هذا الفضاء من مستواه الهندسي الطبوغرافي إلى المستوى الاستيهامي.
الفضاء.. بُعد تشكيلي وتعبيري
للفضاء في الأفلام بُعد تشكيلي يتصل بالتقطيع الفني عامة من أسلوب للتأطير وزوايا للتصوير، فاختيار سُلّم محدد للقطات هو في النهاية تقطيع لأجزاء من الفضاء من أجل إعادة تركيبها وفق رؤية جمالية ووظائف تعبيرية.
و”للغياب” تقطيعه الفني المخصوص، فقد نزعت الصورة بجلاء إلى اللقطة المتوسطة التي تضع الشخصية في علاقة تفاعلية مع الفضاء، فتجمع يمينة الزيتون أو تغسل الأواني أو تعمل شقيقتها في حظائر البناء. ويكشف هذا الاختيار عن رغبة واضحة في تجاوز الوثائقيات “البيروقراطية” التي تكتفي بتثبيت الشخصية أمام الكاميرا، وتجعلها تسترسل في الكلام لدقائق عديدة غير عابئة بما يخلفه في العمل من رتابة وفقر في الموارد البصرية.
ومن شأن اللقطة المتوسطة أن توجه عناية المتفرّج إلى الحركة بين البداية والوسط والنهاية، فتخلق وضعيات سردية فرعية تتفاعل فيما بينها لتطوير الوضعيات الدرامية الأشمل. لذلك كانت اختيار الأفلام الواقعية بامتياز.
كذلك شأن الحركة في “غياب” فاطمة الرياحي وأكثر، فبالإضافة إلى دفعها بالحدث القصصي لم تخلُ من بُعد تعبيري. فلم يخلُ غسل يمينة للأواني وهي تسرد علاقتها بأمها وبمحيطها عامة من تشنُّج ناشئ عن استعادة صورة الأب المقيد بالأغلال أثناء ترحيله، أو محاسبة للأم التي آثرت الاستسلام بعد معاناة طويلة فانسحبت غير عابئة ببناتها. توفيق وهو يجمع الحطب ليشعل الموقد كان يبحث عن الدفء الوجداني أكثر مما كان يبحث عن الدفء المادي، وكان يعرض حياة قاحلة لا يكاد التدفق العاطفي يعرف إليها سبيلا.
ومن ثمة كانت هذه اللقطات تنتهي غالبا إلى لقطات كبيرة تعرض الوجه وتجعله معبرا للنفاذ إلى باطن الشخصية للإمساك بالانفعالات المختلفة وهي تعتمل داخله، أو كانت تنتهي إلى لقطات إدراج، فتعرض يد توفيق مرتعشة عابثة بالتراب ترسم خطوطا غائرة متداخلة، مُعبرة عن الحيرة أو الشجن أو الشعور بالعجز. وتُدرج يد يمينة وهي تساعد نملة على عبور الحاجز، فتسعفها وتمدّ لها يدا افتقدتها هي في فضاء مُعاد يأخذها بجريرة والدها أو أمها، ويحمّلها وزر اختيارات لم تكن طرفا فيها بقدر ما كانت ضحية لها.
شخصيات “الغياب” سطوحا وأعماقا
لا يتحقق القص بدون شخصيات تخترق الزمن وتؤثّر في الفضاء، لكن تصوير العالم الخارجي يُقدّم لنا الطبقة السطحية من العالم دائما، فلا حقيقة غير حقيقة الباطن، وليس الإنسان بظاهره وحركاته المحسوبة ووقاره المصطنع، وإنما بباطنه ومشاعره المضطربة وتردده وتوازنه المفقود. فمن هذه الأحوال التي نعمل عادة على إخفائها عن العين المراقِبة نستمد بشريتنا، وملاحظتها في سلوك الشخصية المعروضة أمامنا تجعلنا نجد فيها شيئا منّا، فإذا الحكاية لا تعرض الآخر الغريب عنا بقدر ما تعرض على مرآتها وجها من وجوهنا.
ما ميّز كاميرا “الغياب” هو قدرتها على تجاوز الطبقات السطحية من الآخر الغريب واختراق باطنه، لنقع على هذا الجانب الإنساني المشترك بيننا، فإذا بنا نواجه شخصيات متأزمة تنزع أقنعتها أمامنا، فقد عهدنا “توفيق” عنيفا منغلقا على نفسه مُكابرا يُصرّ على إبراز انسجامه مع تصوراته وقناعاته، لكنه يكشف في لحظة انفعال عن صراعه النفسي الحادّ بين الإصرار على البراءة واعتبار نفسه ضحية، وبين ندم دفين تكشفه ردة فعله القوية في “مضيق القلاس”، فيقطع المكان جيئة وذهابا، أو يذرعه هروبا من الكاميرا واقترابا منها رغبة في إفضاء قد يكون كَتَمه عن نفسه قبل أن يكتمه عن المتفرّج.
ولأنه يُكابر، ظلّ طيلة المحادثات يُعلن رغبته في الانتقام ممن سجنوه ظلما، أو تعرضوا بالإيذاء لبناته أو بالاغتصاب لزوجته، ثم ينهار في نهاية الفيلم مُستجديا اعتذارا، مجرد اعتذار لا غير، عساه يردّ إليه بعض الاعتبار، فيغفر لجلاديه اعتداءهم ويتناسى اغتصاب الزوجة، ويحاول إقناع النفس بعسر بأنّ مغتصبيها كانوا مُجبرين على إيذائها، وبأنها لم تكن قادرة على صدّهم.
الجد والبنات.. كلنا في الجراح سواء
ليس والد توفيق بعيدا عن شخصيات الفيلم الأخرى، فهو بدوره له جِراحه النفسية أيضا، وأول جراحه هذا الابن المارق على مبادئ الحزب الدستوري الحُرّ حزب النضال والاستقلال عنده، لذلك يحزّ في نفسه أن يختار توفيق اتجاها فكريا مُعاديا له، وأن يجعل معركته تقع خارج حدود البلاد بدل أن تكون ضد التخلف والجهل داخلها، ثم ها هو يَحمل مسؤولية سجن ابنه، فبسبب الرسالة التي وصلته من توفيق وتعامل معها بإهمال، عرفت الشرطة عنوانه في أوروبا ولاحقته فأوقعت به. وها هو يُحمَّل مسؤولية هروب مارسيدا كيدا وظلما، ويحزّ في نفسه أن يشتبك توفيق معه بسببها ثم يجافيه لسنوات، فلا يبادره بالتحية أو السؤال عن أحواله.
وأما يمينة فجرحها أنكى وأعمق، فجميع من حولها يتحمل مسؤولية اختياره بشكل ما، أما هي فتدفع ضريبة اختيارات غيرها، فلا هي اختارت نهج “الجهاد”، ولا هي أرادت لأمها أن تتزوج من “أجنبي”، لذلك ترتبك حين يطلب إليها أن تحدّد موقفها من هروب أمها قدر ارتباكها في تحديد هويتها إن كانت تونسية أو بوسنية.
المشاعر المتجمدة.. أزمة الشخصيات الصامتة
لقد اجتهد الفيلم كثيرا في تصوير أزمات شخصياته، فجعلها أميَل إلى الصمت، وجَعَلَ الجفوة تغلب على علاقاتها، ويتجلى ذلك في علاقة توفيق مع محيطه، مع والده وأشقائه وبناته، وهو الذي يعترف أنه أميَل إلى الوحدة والتجهم، وأنه قد يبقى أحيانا أسبوعين بأكملهما دون أن يبتسم.
وقد أوكل الفيلم للكاميرا ترجمة تلك الجفوة بصريا، فكانت تركّز على الصقيع وعلى السحب القاتمة، وعلى برودة الطقس، وتجعلها وسيلة للتعبير عن تبلُّد المشاعر وتجمدها. أما عند التصوير صيفا فلا نكاد ننتبه إلى الحرّ، والحال أن الوسط التونسي شديد القيظ صيفا، فلا نكاد ندرك الفصل إلا من خلال بعض لوازمه كتناول فاكهة البطيخ الأحمر.
هل ينتسب الفيلم إلى نهج تجميد المشاعر الذي اعتمده المخرج النمساوي الجنسية الألماني المولد والنشأة والدراسة مايكل هانيك منذ أول أفلامه السينمائيّة “القارة السابعة – Le septièmes continent”) 1989) لفضح العنف الذي يعاني منه مجتمعه؟
لا نقدّر ذلك، فقد عملت المخرجة إلى بث شيء من الدفء في العلاقات المُتشنجة بين أفراد الأسرة مع نهاية الفيلم، بدليل عودة التواصل بين توفيق ووالده، أو لحظة عناقه مع ابنته يمينة رغم أنه بدا غير متفاعل، فبدل أن يفتح ذراعيه ليحتضنها أو يشاركها حلمها بأن تكون طبيبة يوما ما، يتعسّف على صفاء اللحظة فيذكرها بالهواجس التي تؤرقه بأنها جسد أنثوي، وأن من واجبها أن “تحافظ على نفسها”.
بين المخرجة والأبطال.. صراع الأيديولوجيات
يدفعنا الصراع بين المخرجة الرياحي وبطل الفيلم توفيق حول غايات الفيلم وكيفية معالجته؛ إلى استحضار مسرحية الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيراندللو “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”، ومدار هذه المسرحية على شخصيات الأب والأم والأبناء التي تتمرد على كاتبها للتعبير عن مأساتها بنفسها مباشرة على الركح (خشبة المسرح)، وذلك كما تريد هي لا كما يُريد لها كاتبها.
وتقبل الرياحي هذا التحدي فتُناقش يمينة في موقفها السلبي من أمها وتتهمها بالأنانية، وتحاول دفعها إلى تعديل موقفها دون جدوى، وتجرّ الجدّ إلى اتهام العمدة والنظام بالتواطؤ في تدمير حياة ابنه، وهو الدستوري الوفيّ للنظام المُعتزّ بانتمائه الموروث عن والده. ولئن كان تعاطي المخرجة مع عامة أفراد الأسرة سهلا إلى حدّ ما، فإن التعامل مع توفيق مثّل معركة حقيقية، فالرجل متحفّظ لم يقبل بتصويره إلا للتعريف بقضيته التي يريدها؛ “قضية فلاحية حقوقية لا حساسية أو خصوصية”.
أما المخرجة فتبحث عن الجانب الإنساني في هذه القضية، وتكاد تكون لسان دفاع للفتيات اللاتي يرغبن في التحدي وفي فرض الذات أيضا، وذلك في مجتمع ريفي وفي ظلّ أب يرفض عمل المرأة، فـالمخرجة “تخاف عليهن من تشدّده وعنفه”. ويتجسّد صراعها معه في مظاهر كثيرة، منها الموقف من الدولة والموقف من المرأة، فضلا عن تصوّر الفيلم بأسره.
ولئن انتهت أغلب الشخصيات إلى التصالح مع مؤلفها وتوصلت معه إلى توافقات بشكل أو بآخر، فإن مارسيدا تظل مُغيّبة وهي التي تحمّلت وزر المأساة كلها، ولا شك أن بحث جهة الإنتاج عنها لعرض وجهة نظرها كان سيفيد الفيلم كثيرا، رغم أن المخرجة حاولت أن تنوب عنها في الدفاع عن موقفها، إلا أن الزوجة ظلّت عنوانا بارزا للغياب لا تجد مؤلفها الذي يقصّ حكاية ألمها، وذلك في فيلم أُنشِئ أساسا ليشجب الغياب.
المخرجة الشجاعة.. إحراج السياسيين
لقد جاء الفيلم عملا ثريا يختلط فيه الموضوعي بالذاتي، وتختلط الأحلام بالكوابيس، فكانت النتيجة عملا وثائقيا يعمل على تقديم رؤيته الفكرية، دون أن يفقد سمته كعمل تخييلي يحوز مختلف مقومات القص. وكان ينفذ إلى أعماق شخصياته بسلاسة، فيعرض أحلامها -وقليلا ما كانت تحلم- ويبسط خيباتها، والتي كثيرا ما كانت تخيب، كما كان يؤلف بين وجهات نظرها المختلفة.
ومن التأليف بينها يشكّل وجهة نظر مخرجته حول محنة توفيق، وما ترتّب عليها من أذى لمختلف أفراد العائلة، فيُدين تورّط أجهزة الدولة في هذه المحنة أيام بن علي وتراخيها في رفع المظلمة عنه اليوم. كما يكشف عن شجاعة المخرجة على مستوى المقاربة الجمالية لقدرتها على الغوص في أعماق شخصيات موجوعة، وجعلها تُخرج ذلك الوجع وتستسلم لكاميراها كما يُفضي المريض أمام المحلل النفسي وهو يرتخي على السرير ويتحرر من رقابته الذاتية.
وعلى النحو نفسه كان يكشف عن شجاعتها على مستوى الطرح أيضا، فقد كانت تدفع إلى الواجهة بقضية مُحرِجة لمختلف أطراف الطيف السياسي في تونس، فهي مُحرِجة لممثلي الإسلام السياسي الذي يُروّج لنفسه باعتباره تيارا مدنيا وحراكا داخليا يُدين العنف ويقطع العلاقة مع مختلف الروابط الخارجية؛ إذ إن تبنّي هذا التيار الإسلامي لقضية توفيق سيختلط في الأذهان بتهمة تسفير الشباب التونسي ليحارب هذه الأيام مع تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، وهي التهمة التي يرميه بها خصومه السياسيون.
أما التقدميون اليساريون فسيجدون حرجا في اتهامه بالإرهاب، فالرجل لم يقاتل الأبرياء العُزّل، ولم ينازل قوات مسلحة على أراضيها الخاصة، كما أن جرائم الصرب ضد الإنسانية معترف بها دوليا، وزِد على ذلك أن إدانته ستضير بنضالات أبطالهم ممن حاربوا في منظمة التحرير والجبهة الشعبية والعراق زمن صدام حسين.