“أُمّة الطفل الواحد”.. شعار أسود تدفع الصين ثمنه حتى اليوم
عام 1978 أقرّ الحزب الشيوعي الصيني الحاكم قانونا يمنع بموجبه كل أسرة من إنجاب أكثر من طفل واحد، وقد جاء هذا القانون تحت تسمية “تنظيم الأسرة في جمهورية الصين الشعبية” والمعروف بمصطلح “سياسة الطفل الواحد”، وذلك لعقلنة النمو الديموغرافي الرهيب وتقوية الأمن القومي، والمحافظة على الاقتصاد والبيئة، وذلك حسب التبرير الذي رافق تمرير هذا القانون.
وقد صدرت وقتها جملة من البنود التنظيمية لضبط هذه العملية واحتوائها، من بينها تسليط عقوبات مالية مرتفعة وقاسية جدا على كل من يخالف هذا القانون أو يتعداه، وحرمان المولود الثاني من حقّه في التعليم والطب والانتخاب والحقوق المدنية المعروفة.
في المقابل تم توفير الآليات الضرورية للمُضي قُدما بهذا الموضوع، حيث نُشر مجموعةٌ من المخبرين ورؤساء الأحياء لمراقبة الأسر وتعقيم النساء عنوة، مع توفير أطباء لإجهاض كل امرأة وجدت نفسها حاملا بالطفل الثاني.
وبعد 37 عاما من تطبيق هذا القانون أصدرت الحكومة الصينية قرارا يُلغيه، وفي المقابل يسمح لكل عائلة بإنجاب طفلين كحد أقصى من غير شروط.
وقد اكتشف العالم في السنوات الأخيرة المآسي الكبيرة والفظاعات التي صاحبت تطبيق قانون “سياسة الطفل الواحد” على الأسر الصينية وخاصة الفقيرة منها، حيث كانت الأنثى هي الضحية رقم واحد، فقد كان يتم وأدها بعد ولادتها مباشرة، أو يتم رميها في الشارع في حالة الرأفة بها، ناهيك عن المآسي الأخرى التي وقعت وجعلت العالم يرى بعينين دامعتين ما كان مُختبئا خلف الشعارات المرفوعة التي كان يخطّها ويصدرها الحزب الحاكم في الصين.
المرأة.. لعنة منذ الولادة
استطاعت المخرجتان الصينيتان الشابتان “نانفو وانغ” و”جيالينغ جانغ” في فيلمهما الوثائقي “أُمّة الطفل الواحد” (2019) (عُرض في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي من 19 وحتى 27 سبتمبر/أيلول 2019)؛ أن تقدما إحاطة تاريخية شاملة لهذا القانون، وأن تدخلا إلى قلب تفاصيله من أبواب عدة.
أكثر هذه الأبواب إنسانية وتأثيرا هو باب الفقد والهجر، حيث نُقل في الفيلم العديد من القصص التي وقعت، وكانت الطفلة الأنثى هي الضحية رقم واحد، لأن الأغلبية الساحقة من العائلات ترفض المرأة، بحكم أن الرجل هو من يحمل اسم العائلة وهو من يمثلها، أما المرأة فهي سقط متاع ينتهي دورها واسمها بمجرد زواجها، وحسب التقاليد والأعراف فإنها لا تستطيع حمل لقب العائلة، ولا تستطيع أيضا الحفاظ على النسل حسب اعتقاد بعض ضيوف الفيلم، لهذا فإن غالبية الأزواج حين تولد لهم طفلة يتم وأدها مباشرة أو رميها في أحد الأماكن، وفي أحيان أخرى أصبح هناك من يشتري المواليد الجدد، وهو بدوره يقوم ببيعهم لأحد الملاجئ.
من هنا تحوّلت المرأة إلى لعنة لحظة ولادتها، وقد أقرّ العديد من الشهود بهذه الأفعال اللاإنسانية، وقد قال أحدهم بأنه رمى ابنته عند ولادتها في السوق، ورجع لها بعد ثلاثة أيام فوجدها في المكان نفسه، لأنه لا أحد يملك الرغبة لأخذ هذه الطفلة الرضيعة.
شهود الجرائم
وقدّم فنان تشكيلي شهادة مهمة جدا عن هذه الجرائم، حيث قال إنه كان يذهب إلى أكوام النفايات فيجد فيها العشرات من الأجنة الحديثة الولادة، ومن هنا تحوّل إلى فنان مُختص في رسم وإعادة تجسيد هذه المآسي، كما أنه قام بالاحتفاظ ببعض هذه الأجنّة في زجاجات مُعبأة بمحلول الحفظ لتقديمها للأجيال القادمة، حتى يعرفوا ما خلّفه هذا القانون من مآسٍ.
كما قدّم الفيلم عددا من الشهود ممن كانوا أطرافا مهمة ومحركة في هذه العملية، أبرزهم مثلا قائد الحيّ الذي قال إنه كان مرغما على تطبيق القانون الذي أقرّه الحزب، والتخاذل كان يعني وقتها الخيانة العظمى، لهذا كان يأخذ كل امرأة قسرا من أجل القيام بتعقيمها أو تسليط العقوبات القصوى، وحجز منازل البعض لأنهم لم يتمكنوا من تسديد أثمان العقوبات.
من جهة أخرى قدّمت طبيبة مختصة في النساء والتوليد شهادة مهمة بحكم أنها قامت بإجهاض مئات الآلاف من النساء، وعندما سألتها المخرجة عن شعورها بعد ارتكاب هذه الأفعال ردّت بأنها لم تندم، لأن هذا القانون كان ضروريا لحماية الصين من الغول الديموغرافي الرهيب، لكنها أخلاقيا ندمت، لهذا فتحت عيادتها الحالية لعلاج العقم، وقد استطاعت أن تُعالج مئات الأزواج، والدليل هو الهدايا المعلقة في غرف عيادتها التي تقدمها لمن نجح علاجهم.
رُضّع للبيع
من مخلفات قانون “سياسة الطفل الواحد” حسب المعلومات القيّمة التي أظهرها الفيلم، أنه خُلقت تجارة جديدة تجعل من الأطفال والرُضّع سلعة تُباع وتشترى بشكل قانوني، وهذا من خلال الملاجئ المنتشرة في الصين والتي تقوم بشراء المواليد من أشخاص معينين يقومون بجمعهم من مكبّات النفايات، أو يتم شراؤهم من قبل العائلات التي خالفت القانون بزيادة مولود جديد، حيث يقوم الملجأ بتربيتهم حتى يجدوا عائلة ما تتبناهم أو تقوم بشرائهم بتعبير أصحّ، فمعظم العائلات التي قامت بالتبني تنتمي إلى المجتمع الأمريكي، والسبب -حسب أحد الشهود- هو السعر المتدني للأطفال.
قامت المخرجتان نانفو وجيالينغ بإجراء تحقيق مُفصّل في هذا الأمر، فقد ربطتا العديد من الشباب والشابات مع عائلاتهم الأصلية في الصين، وذلك من خلال بنك المعلومات الذي أنشأه أحد الناشطين الأمريكيين، حيث قام بجمع الحمض النووي (DNA) لكل فرد صيني مُتبنى في أمريكا. وفي المقابل فُتح تحقيق شامل في الملاجئ الصينية التي كانت تقوم بالتحايل عبر تقديم أسماء خاطئة أو معطيات كاذبة، حتى لا يتم الوصول إلى العائلات الحقيقية، ومن أجل التضليل والتحايل القانوني.
بين أمريكا والصين
استطاعت المخرجتان وبمجهودهما أن تصلا إلى بعض هذه العائلات من خلال مُعطيات الحمض النووي، أو المعطيات المعرفية المدعومة بالشهود، ومن بين أهم هذه القصص عملية تفريق بين توأم بالقوة بسبب قانون سياسة الطفل الواحد وقتها من قبل النظام الصيني، وقد بيعت إحداهما في أمريكا، فيما بقيت الأخرى في الصين، كما أُجريت معهما مقابلة في الفيلم، وتم نقل الإحساس الكبير الذي تخبئه كل فتاة منهما، ناهيك عن عدد من العائلات الأخرى التي حدث معها مثل ما حدث مع التوأم.
وقد رفض الكثير ممن تم تبنيهم في أمريكا معرفة عائلاتهم الحقيقية في الصين، وهذا بعد أن تم الاتصال بهم بعد معرفة تطابق الحمض النووي، وذلك بسبب الخوف من الشرخ الذي سيحدث وقتها أو الخوف من الحقيقة.
وفي المقابل لا تزال آلاف العائلات الصينية تبحث عن أبنائها الذين تم التخلي عنهم خوفا من العقوبات، ومعظمهم لا يريدون إلا معرفة مصيرهم والاطمئنان على مستقبلهم في الأرض الجديدة.
طفل واحد يكفي.. لا يكفي
انعكس القانون الذي أقرّته الصين في وقت مضى إيجابا عليها بشكل عام، بينما أفرز العديد من المآسي بشكل خاص، حيث استطاعت الصين في 37 عاما (هي مدة سريان القانون) أن تمنع نحو 250 مليون صيني من الولادة، لكن في المقابل خلقت فجوة إنسانية كبيرة بسبب آلام الفراق التي حدثت، عدا زعزعة التوازن السكاني في الصين، حيث باتت نسبة الذكور أعلى بكثير من نسبة الإناث، بالإضافة إلى المشكلة الكبرى؛ “شبح الشيخوخة” الذي بات مشكلة كبيرة في الصين، كما سيؤثر هذا الأمر بشكل كبير على الاقتصاد الصيني في المستقبل القريب.
وعلى خلفية هذه المعطيات أعادت الصين ترتيب أوراقها من جديد، وذلك بعد أن أسقطت هذا القانون عام 2015، أو بالأحرى قامت بتعديله، حيث أصبح الشعار الجديد الذي بات معلقا في الكثير من الشوارع هو “طفل واحد لا يكفي.. اثنان أمر جيد”، وذلك بعد أن كبر الصينيون وتربوا على شعار “طفل واحد يكفي”، لكن هذا الشعار سطّر كتابا أسود في تاريخ الصين، وأضحى مُقترنا بالدموع لدى شريحة واسعة منهم.
أسس الفيلم الوثائقي
ينتصر فيلم “أُمّة الطفل الواحد” للأسس الحقيقية التي يقوم عليها الفيلم الوثائقي، فنجده مفعما بالحركة والبحث، ومنوع الأرشيف والوثائق، كما ويكشف عن قضية إنسانية في غاية الأهمية عن طريق البحث والتحري واستبيان الحقائق، والتي يعود الفضل في كشفها إلى المخرجتين نانفو وجيالينغ.
وربما يعود هذا إلى التكوين المعرفي والثقافي والأكاديمي الجيد للمخرجتين، فالأولى منتجة ومونتيرة ومصورة سينمائية عُرض فيلمها الأول “العصفور المشاغب” (2016) في مهرجان سندانس السينمائي، فيما تُصنّف جيالينغ جانغ كمخرجة مستقلة تحمل درجة الماجستير في صناعة الأفلام الوثائقية من جامعة نيويورك، وقد سبق لها وأن أخرجت العديد من الأفلام.
جاء هذا الفيلم كإخراج مشترك بين المخرجتين، وربما تعود هذه الشراكة إلى المعطيات اللوجستية فقط بحكم موضوع الفيلم، وللخفض من التكاليف وتسهيل التصاريح، حيث تعيش المخرجة الأولى في نيويورك والثانية في بكين، والفيلم تدور أحداثه بين المدينتين.
قيمة تاريخية
فاز فيلم “أُمّة الطفل الواحد” بجائزة لجنة التحكيم الكبرى للفيلم الوثائقي في مهرجان سندانس السينمائي، وجائزة تيم هيرثنتون في مهرجان شيفليد السينمائي الدولي للأفلام الوثائقية، إضافة إلى جائزة الجمهور لأفضل فيلم أجنبي غير روائي في مهرجان مدينة ترافيرس السينمائي.
وهذا ما يدلّ على أهمية الفيلم الذي اعتمد على عرض أرشيف سمعي بصري مُهم، خاصة الومضات الإعلانية التي كان يبثها التلفزيون الصيني، ناهيك عن التمثيليات والشعارات التي كانت تُعرض في المدن الكبرى والقرى من أجل ترسيخ فكرة الطفل الواحد، بالإضافة إلى المقابلات المهمة الذي تم الاعتماد عليها لأشخاص كانوا فاعلين أساسيين في الموضوع المطروح، من بينهم مثلا الأشخاص الذين كانوا يبيعون الأطفال للملاجئ، إضافة إلى النشطاء والضحايا والطبيبات والمسؤولين.
من هنا تكمن أهمية هذا الفيلم وقيمته التاريخية التي كشفت حقائق مؤلمة حدثت في يوم ما، ولا تزال تبعاتها تجري إلى اليوم.