“الطريق إلى أناكوندا”.. رحلة سينمائية في سبيل الأمازون

قيس قاسم

عودة المستكشف والكاتب الكندي “ويد ديفيس” إلى كولومبيا بعد أربعة عقود، ومقابلة صديقه القديم عالِم الأنثروبولوجيا الكولومبي الأمريكي الأصل “مارتن فون هيلجبراند”؛ أثمرت مشروعا طموحا يهدف لحماية حوض الأمازون وممراته النهرية من التخريب والدمار الذي تتعرض له، حيث أطلقوا على مشروعهم اسم “حماية نهر الأمازون من أندرنا حتى المحيط الأطلسي”.

المخرج الكولومبي “ألساندرو أنغولو” وثّق في فيلمه “الطريق إلى أناكوندا” تفاصيل الرحلة ونتائجها بكاميرا منفتحة عدساتها على سعتها، لتصوّر إحدى أجمل المناطق الطبيعية في العالم، وتنقل حياة سكانها الأصليين وثقافتهم المهددة اليوم بالزوال، وذلك بسبب الغزو “الصناعي” لمناطقهم.

ومن جانب آخر يُقدّم في وثائقيه شخصيات علمية غربية أحبت المكان وتعاملت معه إنسانيا، ولم تترفع على ثقافات المنطقة، بل سعت إلى معرفتها بكل عمقها الحضاري والتعايش معها وحمايتها، وبذلك يقدّم وثائقيه أشخاصا كرّسوا حياتهم العلمية لمعرفة الآخر، وعملوا على نقل ثقافته إلى بقية العالم حتى يُغيّر نظرته إليه.

بنقل كل ذلك إلى الشاشة حوّل “أنغولو” منجزه السينمائي إلى مباحث بصرية في معارف وثقافة سكان منطقة حوض الأمازون، وأيضا إلى كُرّاس سطّر فيه فصولا من سِيَر شخصية لعلماء حرصوا على التعامل معها كإرث حضاري، إلى جانب نقله روعة المكان بكل جماله وبهائه.

 

رحلة الماضي.. نافذة المستقبل

أسلوب الكاتب “ويد ديفيس” في سرد تجربة عودته إلى منطقة أناكوندا الكولومبية حميمي، حيث يجمع فيه بين العاطفة والمشاعر المُحبة للمكان، وبين التعبير عن رغبة صادقة للعمل على ما يفيد منطقة وقع في حبها منذ أن وصل إليها شابا في مُقتبل العمر.

اعتبر ديفيس وصوله إليها تحوّلا جذريا في حياته، فقد غيّرت المنطقة من نظرته إلى العالم، وغذَّت خبرته العلمية والأدبية، كما اكتشف فيها ثقافات وتعرّف عن قُرب على منجز أستاذ عالم النباتات “ريتشارد إيفنز شولتيز” الذي ألّف عن نهر الأمازون كتابا أسماه “النهر”، ووصف فيه رحلاته إلى حوض الأمازون واكتشافاته المذهلة لأشجارها ونباتاتها، ودراسته العلمية لأعشابها وسبل الاستفادة الطبية منها، وقدّم من خلالها خدمة للبشرية لا تُقدّر بثمن.

“الطريق إلى أناكوندا” إنما هو تتبع التلميذ للأثر الذي تركه أستاذه على الطريق الذي قطعه بمحاذاة نهر أبابوريس وصولا إلى منبعه. إنها رحلة يصفها “ديفيس” كما لو أنه يركب الآن آلة زمن تُرجعه إلى أماكن لم تكن معروفة للعالم قبل توثيق أستاذه لها بكاميراته، إضافة لبحوثه العلمية عنها في جامعة هارفرد. إنها عودة لمناطق ساحرة أحبها “ديفيس” وما زالت باقية كما هي في ذاكرته رغم مرور أكثر من أربعين عاما على رؤيته لها أول مرة، فهي بالنسبة إليه رحلة من الماضي إلى الحاضر، وهي أيضا نافذة على المستقبل.

المخرج الكولومبي “ألساندرو أنغولو” وثّق في فيلمه تفاصيل الرحلة ونتائجها بكاميرا منفتحة عدساتها على سعتها

 

من النهر إلى المنبع

بقارب صغير شقّ الصديقان طريقهما نحو منبع نهر “أبابوريس” ومعهما خبير شاب من سكان المنطقة يُدعى “روبن دياز”، حيث مَرّوا بالقرى الواقعة على ضفتي النهر، ودخلوا مشيا في الغابات المطيرة المحيطة بها، فهم كانوا يريدون برحلتهم استعادة مسيرة العالِم الأمريكي “شولتيز”، لكن هذه المرة بصحبة كاميرا سينمائية تُعيد تسجيلها بأدق تفاصيلها، وتلتقط المُتغيرات التي حدثت على المكان منذ أن تركه قبل سبعة عقود.

يَعرف العالم “مارتن فون هيلجبراند” كل شبر من المنطقة التي عاش فيها وصار جزءا منها، ويعرف من أين تأتي الأخطار إليها، فالعالم الأنثروبولوجي لا يكتفي بالاندماج مع ثقافة شعوب شمال غرب الأمازون ومنطقة أناكوندا تحديدا، بل يريد نقلها بكل عمقها إلى العالم وفق رؤيتهم.

من خبرته يعرف أن كل ثقافة تريد قول أشياء مفيدة لبقية البشر، ومن المهم جدا الاستماع إليها، وهو لا يعتبر ذلك فضلا من أحد على غيره، بل هو واجب حضاري، لأن الأشياء الموجودة في كل ثقافة تستحق الاستماع إليها، وبها نُغنِي معارفنا ونُكمل تصوراتنا عن الكوكب الذي نعيش فيه.

قرية “مالوكا” ذات القيادة النسائية

 

قرية “مالوكا”.. حيث تقود النساء

عن الخصوصية القائمة في المنطقة يقدم الوثائقي مثالا بقرية “مالوكا” ذات القيادة النسائية، حيث يقابل زعيمة القبيلة التي تُدير عمليات جني الأعشاب المستخدمة لأغراض طبية، وتُشرف بنفسها على زراعة الأرض، فسكانها استمدوا معارفهم الطبية من خبرات “أطباء” سبقوهم، فهم يعرفون فائدة كل عشبة للجسم معرفة مذهلة تكشف عن خبرة متراكمة.

في عيشها تعتمد القبيلة على زراعة الأشجار المثمرة، حيث يخصصون لها مساحات داخل الغابة الكثيفة. لا يبيعون الفائض من إنتاجهم الزراعي، بل يوزرعونه على بقية القرى. إنه أسلوب عيش متوازن لا يضر بالطبيعة ولا يغذي أطماعا.

حين وصل عالم النباتات الأمريكي “شولتيز” عام 1943 لأول مرة إلى القرية، لم يكن يعرف الشيء الكثير عن الأعشاب البرية واستخداماتها الطبية، لكنه اكتسب من السكان المحليين خبرة ستنفع البشرية وتمنح الطب لاحقا منفعة هائلة.

أحد أطفال منطقة الأمازون

 

عبودية في الأمازون ونهب للمطاط

متابعة تجربة العالم الأمريكي “شولتيز” تكشف الخراب الذي أحدثه وصول الحضارة الغربية إلى الأمازون، إذ يصف في مذكراته كيف أضرت الولايات المتحدة الأمريكية بغاباتها المطيرة حين علمت بوجود أشجار المطاط الطبيعي فيها. لقد سبقهم اليابانيون في استثماره في شرق آسيا، وبعد الحرب العالمية الثانية أدركت الولايات المتحدة أهميته التجارية والصناعية، فتوجهت إلى كولومبيا وبدأت في استثماره على نطاق تجاري واسع أضر بالتوازن البيئي وبالسكان الأصليين.

يحدثهم الشاب ابن المنطقة عن الخراب الذي حلّ بالغابات في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وكيف استغل المبشرون الجدد سكانها وحولوهم إلى عبيد، كما أجبروهم على استخراج أكبر كمية من المطاط يوميا، وفي حالة عجزهم كان المُلاك الغربيون يعلقونهم من أياديهم على أشجارها عِقابا. لقد أحيا الأمريكيون تاريخ العبودية مجددا في حوض الأمازون.

المواطن “دياز” يعرض ما قامت به شركات التنقيب الكندية عن الذهب في عام 2007

 

عروق الذهب.. نهب وتخريب

لم يتوقف استغلال موارد الحوض الغني حتى يومنا هذا، إذ يعرض المواطن “دياز” ما قامت به شركات التنقيب الكندية عن الذهب في عام 2007، لقد حصلت عبر علاقاتها المشبوهة بساسة البلاد على موافقات من الحكومة الكولومبية على حفر الجبال واستخراج عروق الذهب من باطنها، كما استخدموا أساليب الترغيب بادئ الأمر لإقناع سكان المناطق القريبة منها، ووعدوا بتقديم مساعدات طبية ورواتب مجزية لهم وحماية كاملة لبيئتهم. لكن بعد مُدّة اكتشف سكان المنطقة الأصليين كذب دعاية الشركات، فهي لم تحافظ على البيئة ولم تُحسّن أوضاعهم، بل فاقمتها وخربت مناطقهم الطبيعية.

يُصوّر الوثائقي كيف عرّت عمليات الحفر مساحات هائلة من غابات الأمازون، وأخلّت بالتوازن الدقيق داخل مياه أنهارها، ناهيك عن هجرة الحيوانات والطيور من الغابات المحيطة بجبال الذهب، وذلك بسبب التفجيرات وأصوات آلات الحفر العملاقة.

الغربي المتفوق يرى بأن له الحق المطلق في أخذ كل ما في باطن الأرض وظاهرها من ثروات

 

أمانة الشمس.. تصادم ثقافي

لا يرى العالِم الأنثروبولوجي “شولتيز” في الأمر استغلالا جائرا لثروات الغير فحسب، بل تصادما ثقافيا أيضا، ويقدم مثالا مقنعا على ذلك، فبينما يرى الغربي المتفوق بأن له الحق المطلق في أخذ كل ما في باطن الأرض وظاهرها من ثروات؛ يرى سكان منطقة ماكونا -وفق ثقافتهم- الأمر بعين مختلفة، فهم يعتبرون عروق الذهب خيوطا شمسية وصلت إليهم من السماء، وبالتالي فهي أمانة لا يصحّ استخراجها والتصرف بها احتراما لعظمة الشمس.

هذا الاختلاف في رؤية الأشياء ثقافيا وحضاريا دفع العالِم الأنثروبولوجي للتفكير في مشروع يهدف إلى جعل ممرات أنهار الأمازون وثقافته محمية طبيعية وملكا للبشرية جمعاء، ولا بد من الحفاظ عليها. فمنطلقه الأساس احترام بقية الثقافات والتعامل مع المجموعات السكانية الصغيرة باعتبارها مكونات مكملة للثقافة والحضارة البشرية، وأن أرضهم هي لهم، ووحدهم سكانها لهم حق التصرف بها والنظر إليها وفق موروثاتهم الثقافية والدينية.

كما يقدم مثالا على فعالية الاعتماد على سكانها في استرداد ملكيتهم، وكيف نجحوا في إيقاف المشروع الكندي لإقامة مناطق دائمة لاستخراج الذهب.

ممرات أنهر الأمازون

 

شُحّ المياه.. وممرات أنهار آمنة

يقدّم الصديقان القديمان تصوّرا دقيقا للتحكم بمصادر مياه حوض الأمازون في ظلّ شُحّ المياه عالميا، فهما يعتبران مياه الحوض من بين القليل المتبقي من المصادر الأساسية لإبقاء الحياة على كوكب الأرض، وذلك في ظِلّ التغيرات المناخية، فقمم الجبال في القارة الأمريكية لم تعد تغطيها الثلوج طيلة أيام السنة، بل ذاب الكثير منها بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض.

وقد أقنعا الحكومة الكولومبية بالعمل على مشروع وطني يتعاون مع كل دول الحوض وينفتح على بقية دول العالم، وذلك من أجل توفير آلية عملية تجعل من ممرات أنهر الأمازون محمية طبيعية.

ينتقل الوثائقي إلى غابات أندرنا ليسجل مقاطع من العمل الجاري على مشروع ” كولومبيا بيو”، وطموح العاملين فيه على تحقيق أهدافه الإنسانية النبيلة، وتوثيق موجودات الغابات من تنوع بيئي غني ما زال الكثير منه غير مسجل علميا، وبالتالي فهو عرضة للنهب والتدمير.

منبع نهر الأبابوريس

 

رحلة بصرية إلى الجمال الأخّاذ

بعد تحقيق ما كانا يحلمان به يذهبان لتكملة مسيرتهم المتتبعة لخطى مسيرة عالم النباتات الأمريكي “شولتيز” الذي وصل إلى منبع نهر الأبابوريس، حيث جبل تشيريبيكويت، أحد رموز عظمة الطبيعة في كولومبيا. تأخذنا كاميرا الوثائقي في رحلة بصرية مدهشة إلى عالم ساحر لم يخرب كله بعد، فرؤيته تدفع للتفكير بجمال أخّاذ ليس من العدل تدميره وتحويله إلى أرض جرداء.

مشهديات تبهر وتحبس الأنفاس مقرونة بموسيقى هادئة، تتخللها انتقالات قصيرة للكاميرا إلى القارب الصغير الذي ضمّ ثلاثة رجال نظروا إلى ثقافات وثروات تلك المنطقة البكر بعين مُحبة، وعاينوها بفكر منفتح على احترام ما يقدمه إنسانها من معارف عميقة، والتي تخدم في نهاية المطاف البشرية جمعاء وتتكامل معها.


إعلان