“الجاسوس”.. الرواية الإسرائيلية لجاسوسها في سوريا
أسماء الغول
يهبط الممثل البريطاني “ساشا كوهين” من سماء الكوميديا الفاقعة التي بدأت في فيلم “بورات” عام 2006، وامتدت إلى سلسلة أعمال كوميدية أخرى أبرزها “من هي أمريكا؟” و”الدكتاتور”؛ إلى أرض التراجيديا والتشويق ليلعب دور الجاسوس الإسرائيلي “إيلي كوهين”، وذلك في سلسلة درامية مكونة من ست حلقات على شبكة “نتفليكس” تحت اسم “الجاسوس” (The Spy).
ولم يتبق من “بورات” المراسل الكزاخستاني سوى الشارب، وهذا أيضا يبقى شبهاً بعيداً حين تشاهد كوهين يلعب دورا ربما يكون من أهم أدواره الدرامية، بالرغم من مناطق ضعف كثيرة أغلبها يعود إلى الكتابة والإخراج، وقد تولاهما معا المخرج الإسرائيلي “جدعون راف” الذي يبدو واضحاً أنه لم يستطع أن يمحو من رأسه “كليشيه” الجاسوس الأشقر.
المُهمة.. في الأرجنتين
جعل المخرج من كوهين بطلا لا يُقاوَم، فهو ذكي إلى درجة أن الفضل يعود إليه في احتلال إسرائيل للجولان عام 1967 بحسب المسلسل، وذلك حين فكر بإرسال هدية لكتيبة الجيش السوري على الحدود التي زارها، وهي عبارة عن أشجار “الكينيا” أو “الأوكالبتوس”، فزرعوا واحدة عند كل خندق تحت الأرض لتُظلل الجنود من قيظ الحرّ، مما سهل على إسرائيل ضربها.
لكنه في الوقت نفسه لم يكن ذكيا كفاية ليعرف أن إشارة “شفرة مورس” من الممكن ملاحقتها بسهولة في مربع سَكَنه الذي يجاور منطقة أمنية، حيث تم اعتقاله مُتلبسا بالتجسس.
وتبدأ مهمة اليهودي الشرقي إيلي كوهين (وهو مولود لأبوين من مدينة حلب السورية، ترعرع في الإسكندرية بمصر، ثم هاجر منها إلى إسرائيل، وهناك تزوج بنادية اليهودية العراقية) في الأرجنتين بأمريكا الجنوبية، وذلك حين تظاهر بأنه رجل أعمال سوري ثري اسمه “كامل أمين ثابت”، حيث يملك شركة استيراد وتصدير في جنيف، لكنه يحلم بالعودة إلى وطنه سوريا، فينجح في كسب صداقة العديد من الأعضاء المؤثرين في المجتمع السوري، كما يحصل على رسالة توصية قوية من الملحق العسكري وقتها في السفارة السورية أمين الحافظ كي يسهل دخوله إلى دمشق في أوائل عام 1962.
عاش كوهين هناك في بذخ، وكسب ثقة المجتمع السوري، حيث أقام حفلات في منزله حضرها مسؤولون سوريون رفيعو المستوى، وتمكن من جمع معلومات حساسة بعدما كانت سوريا بالنسبة إلى إسرائيل منطقة خارج التغطية.
ليلة الانقلاب.. حفل جنس جماعي
وعلى الرغم من كون مسؤول الأمن الخاص بأمين الحافظ الضابط “السويداني” بقي في شكّ منه منذ أن قابله في الأرجنتين، فإن كوهين استطاع زيارة القواعد العسكرية السورية في مرتفعات الجولان بمساعدة صديقه الضابط “معازي زهر الدين”، واستمر في إرسال معلومات غاية في الأهمية إما عن طريق “شفرة مورس”، أو تهريب الوثائق خلال حشوها في قطع الأثاث التي يُصدرها إلى أوروبا في أجواء بوليسية مشوّقة.
عاد أمين الحافظ إلى سوريا من الأرجنتين برغبة قوية أن يسيطر حزب البعث على السلطة، وتآمر على إسقاط الحكومة عام 1963، وكانت سوريا في حالة من عدم الاستقرار بعدما لفظت الوحدة مع مصر جمال عبد الناصر ضمن حالة رفض شعبي لها، والتي عبّر عنها المسلسل في أكثر من إشارة. وبحسب أحداث المسلسل فقد ساعدهم في ذلك “كامل/كوهين” حين نظّم حفل جنس جماعي للقيادات، وجمعهم في شقته ليلة الانقلاب.
السينما وروايتها المتلونة للتاريخ
حاول المخرج أن يخلق عدة أبعاد اجتماعية ونفسية تجعل المسلسل أكثر عمقاً في حنايا شخصية الجاسوس، مثل معاملته كمواطن من الدرجة الثانية في إسرائيل كونه من أصول شرقية، مما جعله طوال الوقت يحاول أن يثبت أنه يستحق المهمة التي أوليت له.
لعب المخرج كذلك على الازدواجية بين شخصيتي كامل ثابت وإيلي كوهين وتأثير ذلك على حياته، لكن المخرج لم يغص في كل من المنطقتين بشكل كافٍ، بل تركهما معلقتين وعاد إلى “الآكشن”.
وقد أثار المسلسل سلسلة من الاعتراضات والجدل غير المسبوق، واتُّهم بالدعاية لإسرائيل وتزييف التاريخ. وهذه ليست المرة الأولى التي يتصدر فيها اسم إيلي كوهين الجدل هذا العام، بل حدث ذلك قبل أشهر قليلة حين انتشرت أخبار لم تتأكد صحتها عن تسليم جثته سرا إلى إسرائيل.
يطرح هذا النقاش سؤالاً هاماً عما إذا كان المطلوب من العمل الدرامي أو السينمائي أن يقدم وثيقة تاريخية مطابقة لما حدث فعلا، أم تكون هناك رؤية لدى الكاتب ومخرج العمل قد تلعب في بعض الأحداث وتحركها؟
على سبيل المثال قالت زوجة الجاسوس “نادية كوهين” (وهي الآن في العقد الثامن من عمرها) خلال مقابلة لها مع وكالة “رويترز”: إن ما جرى في أجزاء من المسلسل رفع ضغط دمها، مستشهدة بطريقة تجسيدها وهي تكافح من أجل العمل كخياطة لصالح شخصية إسرائيلية من الطبقة الغنية، بينما تُربي أطفالها بمفردها، وكذلك حين يُظهر أحد عناصر الموساد اهتمامه الرومانسي بها بينما زوجها غائب، مؤكدة أن شيئا من ذلك لم يحدث في الواقع.
حبكات درامية بعيدة عن الواقع
ويبدو أن المخرج أَكثَرَ من الحبكات الدرامية الجانبية التي لا تمتّ للواقع بصلة، واعتدى على كثير من التفاصيل والشخصيات ليبرز زمناً يريد القول إنه السبب في تفوق إسرائيل اليوم أمنياً واستخبارتياً، ولتقديم البطل الإسرائيلي كـ”سوبر هيرو” مخلص بعاطفته، ومستثمر لوطنيته، مقابل العربي المكبوت جنسياً والعاطفي بوطنيته.
ولم يرف جفنا كل من المخرج “جدعون” والممثل “ساشا” حين سألتهما الصحافة عما قدمه المسلسل كوقائع وشخصيات بأسماء حقيقية لكن في مسارات وسمات بعيدة عن الحقيقة، بل بدا عليهما الفخر بما فعلاه، فانطلاق العمل الفني يعني إنجازه، ومن الصعب أن يتوقف عند أي نقد، وربما يحدث ذلك في حال كانت هناك دعاوى قضائية، إضافة إلى أن الأمر يُعتبر شخصياً جدا بالنسبة إلى ساشا، ففي لقاءات مع الإعلام كان واضحاً عليه التحمس للدور، فقد كبر وهو يرى كتاب “رجلنا في دمشق” بمنزله باعتباره بطلا قوميا، لذلك نجده يشارك أيضاً في إنتاج المسلسل.
الحافظ.. رواية مُغايرة
ونجد في الطرف العربي أن أكثر ما أزعج الكُتاب والنقاد ما قدمه المسلسل عن الرئيس السوري السابق (منذ عام 1963 وحتى عام 1966) أمين الحافظ وزوجته، خاصة أن الحافظ له حوار سابق على قناة الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر” عام 2001 قدّم فيه رواية مختلفة تماماً، وأكد أنه لم تربطه علاقة صداقة بكامل ثابت، كما لم يلتقيا في الأرجنتين، ولم يتم ترشيح ثابت لمنصب نائب وزير الدفاع، وهو عكس ما يقوله المسلسل.
ومن الطبيعي أن ينفي الحافظ ذلك على برنامج تلفزيوني في أواخر حياته -إذ توفي بعد شهادته بأربعة أعوام- علاقته بأي جاسوس، فلن يقول “نعم، لقد كنت صديقاً للإسرائيلي المتخفي”.
وهذا ليس دفاعاً عن رواية المسلسل بقدر ما أنه تعبير عن غياب الرواية السورية والعربية غير الرسمية لحقيقة ما حدث ممن عاصروا تلك الأحداث في سوريا، سواء أكانوا صحفيين أم أدباء أم حتى مواطنين عاديين، فلا يوجد سوى كتابين لمؤلفين إسرائيليين اعتمدهما المسلسل هما “الجاسوس الذي جاء من إسرائيل” للكاتبين أوري دان ويشياهو بن بورات، و”وحيد في دمشق” لشموئيل ريجف.
بيد أن شبكة “نتفليكس” العالمية باستطاعتها أن تُكلف جيشا من الباحثين لو أرادت معرفة الحقيقة بدقة وسماع رواية الطرف الآخر، لكن هذا لم يحدث، بل بقي الاعتماد على المخرج في كتابة الأحداث، وهو ليس مبدعاً مستقلاً بل تشوب أعماله الكثير من النزعة “الوطنية” إذا جاز تسميتها بذلك، وحدث هذا من قبل في عمليه “الوطن” (Homeland) و”منتجع غطس البحر الأحمر” (The red sea diving resort).
عباءة الاستشراق الرثّة
وإذا كان المخرج كرّر كثيرا من “كليشيهات” ذاكرة أفلام الجاسوسية التي مرّت على شاشة هوليود، كالمشهد حين طلب منه الضابط السوري إطلاق النار على المُتنزهين الإسرائيليين أمامه وهو ينظر من منظار السلاح في الجولان فارتبك وتعرّق وارتجف، فنرى ذات المخرج يكرر “كليشهيات” النزعة الاستشراقية نحو الرجل العربي الجشع جنسيا والمرأة العربية المكبوتة، وهي “الصورة النمطية” (ستريو تايب) عبر سنوات في إعلانات وأفلام الغرب، لكنه قدّم هذه الغرائز بشكل أكثر إباحية ومثلية علنية، وهو أمر مشكوك بوجوده في ذاك الزمن.
ومن المفترض أن مسلسلاً بهذه الإمكانيات وفي عام 2019 أن يكون قد خرج من عباءة الاستشراق الرثّة، لكنه ليس بهذا الذكاء، بل يتجه للأسهل طوال الوقت، فهو يصنع قصة للاستهلاك وليس للبقاء.
من قد يصدق أنه في الستينيات من القرن الماضي يوجد في سوريا تاجر أثاث يعرض ابنته “صالحة” لتكون صاحبة أحد الأغنياء علّه يفكر بالزواج منها في النهاية؟
هي ذاتها الصورة العنصرية التي نشرها مؤخراً البعض سينمائياً ودرامياً بغرض تشويه السوري اللاجئ على أنه يبيع بناته، لكن المخرج أرجعها هنا لزمن الستينيات، وبذلك وسم الآخر بأسوأ الأخلاق جامعاً إياها من كل المراحل، وابن بلده بأفضلها لأن كوهين بالطبع رفض العرض والإغراء أكثر من مرة رغم ضرورة ذلك في عمله كجاسوس، كي لا يشك أحد بعزوبيته المتأخرة.
ومع كل هذه المثالب فإن الأجواء العربية في زمن الماضي أعطت المسلسل جاذبية تجعل المُشاهد يتعلق به، بل أكثر من ذلك تجعله يتعاطف مع الجاسوس الإسرائيلي، وبذلك تحولك الكاميرا في ست ساعات لمتعاطف مع رواية إسرائيل للتاريخ، ومع واحد من أخطر أجهزة الاستخبارات في العالم، وإلا فإنه ليس أمامك سوى إشاحة النظر عن هذا الطرف، والتعاطف مع حزب البعث الذي أوصل سوريا إلى ما هي عليه اليوم، ونجاحك بأن لا تفعل كليهما يعتمد على درجة الوعي والمعرفة بالوقائع التاريخية وخلفية القائمين على المسلسل.
“الجاسوس” و”الملاك”.. إشكالية اللغة
ومن أبرز ما أخرجته “نتفليكس” في الأعوام الماضية عن حكايات الجواسيس كان فيلم “الملاك”، ويروي قصة العميل المصري أشرف مروان الذي كان متزوجا من ابنة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كما كان مستشارا مُقربا للرئيس أنور السادات.
لكن مسلسل “الجاسوس” يُعتبر أفضل إخراجياً من “الملاك”، فقد قدّم الأخير الخطأ الأكبر تاريخيا حين صوّر جمال عبد الناصر في زيارة لابنته في لندن، وهو الأمر الذي لم يحدث، أما الخطأ الثاني فيتعلق بموضوع اللهجات واللكنات العربية والخلط بينها بطريقة مريعة.
وهذا لم يقع به مسلسل “الجاسوس”، فقد جاءت اللغة حاسمة لأن الجميع يتحدث بالإنجليزية، وهو الأمر الذي سيبقى مفتوحاً على الاجتهاد الشخصي لكل مخرج قائم على عمل يتناول الشرق الأوسط؛ فإما يتم تصويره كما لو أن الأمر واقعي، وبالتالي تكون اللغة العربية هي الغالبة في العمل التلفزيوني أو السينمائي واللكنات مطابقة، وهذا ما حاول “الملاك” تقديمه لكنه فشل في ذلك، أو أن يتم توحيد اللغة، ولا شكّ في أن هذا الخيار يبقى غير واقعي، لكنه الحلّ الأكثر تماسكا كما في “الجاسوس”.
أين الرواية العربية المُضادة؟
ويُحسب للممثل الذي لعب دور “الجاسوس” مروان، وهو التونسي الهولندي “مروان كنزاري”؛ الأداء السلس والمقنع، على عكس الجمود الذي شاب أداء ساشا كوهين، فالتعمق العمودي في الشخصية كان واضحا أنه صعب على ممثل لا يقدم سوى الكوميديا والتقمص الساخر.
إن مجابهة مسلسل مثل “الجاسوس” يحتاج إلى رواية سينمائية أو تلفزيونية عربية مُضادّة وأكثر تماسكا وجاذبية فنية، وهو ما يستطيع الإنتاج العربي فعله، لكن إلى أي حدّ هو معني بتناول هكذا حكايات جدلية وسط كثير من التجاذبات السياسية والفرق المتخاصمة في الوطن العربي؟