“سلطان العارفين”.. جلال الدين الرومي أبلغ سلاح لخلخلة العولمة
د. الحبيب ناصري
كن في ستر العيوب كالليل (جلال الدين الرومي)
لن نختلف في كوننا نعيش أزمة قيم حقيقية عالمية. صحيح أنه لا أحد ينكر العديد من الإنجازات العلمية المفيدة للناس في مجال التواصل والطب والاقتصاد، لكن في الوقت نفسه نعيش جميعا في عالم تتسع رقعة صراعاته، و”نبتلع” في كل لحظة العديد من الصور الآتية من مناطق حربية وأخرى من عوالم هذه العولمة، حيث تَغييب كل ما هو إنساني.
وبالتالي يبقى منطق البحث عن “الربح” هو ما يحرك الشركات العالمية الكبرى التي تتحكم بشكل أو بآخر في هذا العالم، مما يجعل الكل يسير نحو الهاوية، ومن هناك فقداننا لهوية إنسانية وجدانية، كـ”سلاح” حقيقي لخلخلة أطماع هذه العولمة التي بنيت ومن أجل استمراريتها على إشعال فتيل الحروب، مما جعلنا أمام ما يمكن تسميته بـ”اقتصاديات عسكرية حربية”، بالإضافة إلى كونها بنيت أيضا على اقتصاديات تسويق وبيع كل ما يوجد تحت وفوق وفي السماء، ومن منظور رأسمالي محض غير مراع للإنسان كإنسان، حيث خلقه الله كي يكون سعيدا هنا وهناك.
الفن.. ضرورة
منذ أن بدأ الإنسان خطواته الأولى فوق هذه الأرض، لم يكن في حاجة إلى رغيف خبز وماء فقط، بل أحس بالشق الوجداني فيه، ومن هناك بدأ رحلة التأمل في الكون بقصد القبض على ما يثير إعجابه، فراح يترجم هذا في نقوش ورسومات وحرف يدوية عديدة، إذ من الممكن القول إن كل ما اكتشفه واخترعه الإنسان في رحلته الوجودية/الحياتية هو شكل من أشكال الإبداع، لأن به حقق توازنا ما، لاسيما تلك الإبداعات التي بصم فيها أحلامه.
الفن حاجة ضرورية للإنسان، بها يحقق العديد من أحلامه ويسائل واقعه وبها يبحث عما تبقى فيه من قيم إنسانية. صوت الفن صوت إنساني بامتياز، بل صوت موحد ومقرب ومخلخل للمسافات التي صنعتها السياسات، تلك السياسات التي بنت الحدود والحواجز بين الناس في أفق التحكم في البلاد والعباد، بينما الفن ومن جملة وظائفه الأولى هدم الحدود وجعل الناس يستمتعون بالحياة، لاسيما وأن رحلتها قصيرة، مما استوجب جعل الحب بوابة أساسية لنبذ العنف وقهر ظلام أهل السياسة الذين لهم العديد من “الابتكارات” السياسية التي همها الوحيد إرضاء أهل الشركات العالمية الكبرى العابرة للقارات، والتي هي اليوم في المحك، لكون الفن العميق الآتي من رحم المحبة يذكرنا بأننا إخوة في هذا العالم، ووظيفتنا الجوهرية فيه هي نشر السلام وجعله أنشودة تعلق في قلوب الناس مهما كان لون بشرتهم ومهما كانت ديانتهم، بل إن الدين بني على الحب، إلى درجة اعتباره عند أهل التصوف “خمرتهم” المفضلة، وكأسهم التي على الناس الارتواء منها.
وفق، ما سبق من الممكن التأكيد أن إنسانية اليوم هي في حاجة دائمة إلى الفن باعتباره ما تبقى في يد الناس، وما من الممكن أن نتقاسمه مهما كانت خلفياتنا الدينية، سواء أكانت روحية/ربانية أم دنيوية/ وضعية.
الوثائقي.. قبح العولمة
من الفنون التي يمكن المراهنة عليها اليوم لخلخلة عنف العولمة المادي والمالي والرمزي والحربي والنفسي، ثقافة الصورة، لكونها لغة العصر، وسهلة الانتشار لاسيما في ظل هذا التطور التكنولوجي الهائل والمتسارع والمتصارع على جلب المتلقين ومن كافة الفئات العمرية.
لماذا الوثائقي؟ وأي وثائقي نريد؟ وهل من الممكن أن نمرر عبره خطابات إنسانية خادمة لـ”أجندات” الإنسان كإنسان مهما كانت خلفياته المشار إليها سالفا؟
السينما بشكل عام، والوثائقي بشكل خاص، يتجاذبهما خطابان قويان، خطاب يروّج لثقافة العنف ومحو الهويات وإعداد الإنسان ليكون “لقمة” في بطن العولمة ورأسماليتها المتوحشة المرعبة غير الرحيمة بالإنسان، وخطاب ثان غايته هدم وخلخلة الخطاب الأول والدفاع عن الإنسان.
من الممكن أن ندرج كل الأفلام التي تتغلب فيها التقنية/الآلة على الإنسان في أفق إعداده نفسيا لهذه “الحتمية”، ومن هنا جعله في “قبضة” الشركات الكبرى العابرة للقارات. أما النوع الثاني فيمكن أن ندرج تحته كل الأفلام التي تنتصر لقيمة إنسانية ما، بل تدافع عن قيم الحب والسلام ونبذ الحروب وفضح “متلذذي” موت الأطفال وهدم البيوت.
إذن، من الممكن أن “نصنف” ما يجري في واقعنا اليومي العالمي، إلى قسمين:
الأول: عشاق وأنصار السلام ودعاة الحب وتقاسم ثروات الأرض وهدم الجدر العنصرية بين الشعوب. هذا القسم له من يؤازره فنيا وعلى مستويات عديدة لها قيمتها الجمالية والإنسانية، على الرغم من قلتها.
الثاني: أنصار بناء العالم على قوة عسكرية وتقنية وتكنولوجية في قبضة فئة قليلة عليها أن تروض الباقي وفق أهوائها، دون مراعاة للإنسان كإنسان. وهذا القسم له من يدافع عنه بلغة “الفن”، بل توظف في هذا المجال أموال طائلة لغاية واحدة سبق طرحها وتحليل بعض جوانبها.
موسيقى روحية
يُقصد بالموسيقى الروحية تلك الموسيقى المخاطبة لروح الإنسان، المذكرة لإنسانيته، المزعزعة لعنفه والراغبة في نشر قيم الحب والتسامح والتعايش والتساكن بين الناس جميعا. الجميل في هذه الموسيقى أنها قاسم مشترك بين الناس، ليست حكرا على بلد أو شعب متقدم دون آخر، بل هي منتشرة في كل بقاع العالم، تَغنى بها الأجداد وتركوها إرثا جميلا للخلف، موسيقى عريقة وعميقة ووجدانية تتجه نحو القلوب لأسرها وجعلها تستحضر المغيّب فينا، وكأن لسان حالها يقول: يا أيها الإنسان لم الحروب، لم القتل، لم الخراب، لم الدمار؟ من يقتل من ولماذا؟ الله خلق هذا الكون لكم، انظروا إلى جمال الله فيكم وفي نباتكم ومائكم وحيوانكم وهوائكم وبحاركم.. انظروا حقيقة وجماليات هذا العالم، فلماذا هذا الدمار هنا وهناك، وهل يعقل بناء سور كي لا يمر الإنسان بينما الطيور في السماء تحلق مثلما يحلو لها، وتحت جدار العنصرية أو فوقه تنتقل الفراشات، وقتما شاءت؟ أيها الإنسان أنت راحل إلى ربك، أكنت مؤمنا به أم غير مؤمن، فأنت مودع لهذه الحياة، فلم الحروب وصور البكائيات كل ثانية منشورة ومبثوثة هنا وهناك؟ تعالوا نرقص على إيقاعات الجمال، تعالوا نجعل من الجمال بوابة الحياة، تعالوا نغني أنشودة الحب والعشق وجعل الإنسان أغنية حب دائم، فالله جميل يحب الجمال.
هي موسيقى تزداد قيمتها يوما بعد يوم، مما يؤكد أن الإنسان راغب في الاحتماء بها والارتخاء في أحضانها لكونها ما تبقى في يده كي يقول لا لكل غطرسة حربية قاتلة للإنسان.
وثائقيات في التصوف
بنيت فكرة هذه الوثائقيات على كونها خدمة ثقافية ووجدانية وإنسانية، وذلك لكون من “تلبس” بها أدرك خلفية العولمة وما تعيشه الإنسانية اليوم في ظلها، وبات من أبدعها يبحث عن رموزها وطبيعة غنائها وموضوعاتها التي لا تبتعد في المجمل عما قيل، ونلخصه هنا في كونها حاجة، إن لم نقل علاجا يبحث عنه الجميع بعد تشخيص قام به الإنسان لنفسه، وأدرك أن من علاجاته المستعجلة والضرورية الاستمتاع بزمن الموسيقى الروحية المتسرب إلى كل مناحي الجسم، ليزيح ما ترسخ من “تعفنات” فيه.
هي إذن، وبلغة أهل الصيدلة والطب، “مضاد حيوي” لكل ما ترسب في القلب من بقع سوداء، لا يرتاح الإنسان إلا بمشاهدة المزيد من القبح هنا وهناك، هنا السر في الإقبال على هذا النوع من الثقافة الفنية الروحية.
من الممكن عنونة هذه الأعمال الفيلمية الوثائقية التي تنهل من هذه الثقافة الموسيقية الروحية، بأنها حاجة/ضرورة. الجميل في هذا النوع من الأعمال قبولها من لدن الجميع، حتى ولو كنا لا نعرف ما يُغنى فيها من كلمات، لكن صيحات المطرب وآلاته ومن معه تجعلنا نحسم أنها تميل لصالح الحب والقيم الإنسانية، وتذكرنا بكينونتنا الإنسانية.
الحب ولا شيء غير الحب، وبمفهومه الإنساني الراقي؛ “تيمة” مهيمنة في كل المكونات الصوفية (موسيقاها، أعلامها، أشعارها، رقصها..). وعندما كنت أعد هذا المقال، وبحثا عن بعض مميزات الموسيقى الصوفية مثلا، قيل لي من لدن بعض المختصين في شؤونها الإيقاعية، إنها في الطرب العربي الروحي مثلا، يحضر فيها مقام الصبا ومقام راحة الأرواح، وهما مقامان لهما خصائص عديدة مثل الحزن والتأمل والوجدانيات والرحيل والشوق.. سبب آخر يجعلنا ننبش فيها، لاسيما على مستوى القول الفيلمي الوثائقي.
المتأمل لبعض الأفلام الوثائقية النابشة في قضايا صوفية بشكل عام (موسيقى روحية، أعلام الفكر الصوفي، مقاماتها، رموزها..)، من الممكن أن ينتبه إلى قيمة وعمق هذه الأفلام الوثائقية، بل حتى على مستوى ما كتب في هذا المجال الفني الصوفي (شعر، رواية، قصص، سينما، تشكيل..)، مما يؤكد أن التصوف كلما حضر تجلٍ من تجلياته في إبداع ما حصلت الخصوبة اللغوية والفنية والرمزية والفكرية والفلسفية.
وثائقي “سلطان العارفين.. الرومي”
قليلة هي الأفلام الوثائقية التي تناولت رمز الفكر الصوفي مولانا جلال الدين الرومي، أحد العارفين بالله، بل واحد من الذين يمكن اعتبارهم حاجة وضرورة يومية، لاسيما في ظل هذه العولمة المرهبة والمخيفة التي تقودنا نحو أفق مجهول. فعند الاشتغال على هذا العارف ومن أي زاوية كانت شعرية أو فكرية أو صوفية أو إنسانية أو جمالية، سنجد أنفسنا أمام اسم إنساني راق هو اليوم خريطة طريق للتخلص من وهم العولمة وما تدفعنا إليه، بل هو علاج للعالم أجمع. فهل من الممكن اعتبار وثائقياته على وجه الخصوص -أي تلك الأفلام الوثائقية التي نسجت عنه وحوله- مدخلا نوعيا مساعدا لنا لفهم طبيعة الرجل وبعده الفني/الجمالي، ومن ثم هو “مفتاح” من “مفاتيح” فك ألغاز هذه العولمة؟
سنة 2010، تمكن المخرج التركي سنم أوجال دمرتاش من التوقيع على فيلم وثائقي مدته الزمنية 54 دقيقة، وهو من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، فيلم مكننا من معرفة العديد من الخبايا الخاصة بهذا العارف بالله، والذي ترجمت أشعاره إلى معظم لغات العالم، مما يؤكد حاجتنا فعلا إلى مثل هذه الرموز الروحية والإنسانية، وإلى مثل هذه الإنتاجات الفيليمة الوثائقية.
منذ البداية نشعر فعلا أننا أمام تجربة فيلمية وثائقية غنية، لكونها استمدت هذا الغنى من اسم صوفي له قيمته ووزنه الإنساني، بل من الممكن به أن نسمو في درج المحبة. الأمر يتعلق بالعارف بالله مولانا جلال الدين الرومي.
فكرة الفيلم، بنيت على النبش في متون العارف بالله مولانا جلال الدين الرومي، حيث تم تفصيل القول الفيلمي الوثائقي، وبلغة الصورة، في العديد من قصصه/عبره، وتقوّت فكرة الفيلم في تلك الشروحات الدقيقة التي فسرت متونه/عطاءاته.
نحن هنا في حضرة عارف بالله، إما “استسلم” لكلامه الآتي من فضاءات علوية ربانية، أو ارحل، ومن حقك هذا، لأن الحضرة هنا، حضرة أهل الله. هذا يستشف من كثير كلامه الذي نلخص هنا في كلمة واحدة: الحب.
ونحن نتابع منعرجات الفيلم الذي من الصعب أن تشاهده دون أن يترك فيك صدى ما، نستخلص عمق وغنى الشهادات التي قيلت في حق هذا العارف بالله، وهي أسماء لا بد من استحضارها هنا اعترافا بمجهوداتها التي بذلت من أجل تقريب كلام وسلوك هذا العارف بالله. ومن جملة هذه الأسماء نجد:
– جمال نور سركوت: كاتبة وباحثة في التصوف، وقد تميزت شروحاتها بأنها مدركة لقيمة كلام الرومي، لاسيما وقد قدمته من زاوية العشق/الفؤاد. مدرسته إذن ولدت من هذه المعادلة وليس من مدرسة الكتب، الرؤية والإبصار والإدراك، من العشق/الفؤاد.
-طغرل إننجر: مدير مجموعة إسطنبول للموسيقى التركية التاريخية. فإضاءات هذا العاشق لفكر مولانا جلال الدين الرومي من الممكن تلخيصها في كونه فهم فهما خاصا ما تركه هذا العارف بالله، لاسيما حينما أكد أن العارف هو من أهل الحال وليس من أهل المقال، مع تقاطعه مع الباحثة الأولى (جمال نور سركوت) على مستوى اعتبار الفؤاد ميزة مميزة للرومي.
– محمود أرول كلج: أستاذ دكتور بجامعة مرمرة، ويبدو أن عنصر الحكمة والتواضع وربط ذلك بسياقات عائلية ودينية تخص الرومي، هو ما ميز شروحات هذا الباحث.
– سميح جيهان: باحث بمركز الديانات الإسلامية التابع لوقف الديانة التركي، وهو باحث فصّل القول في بعض رحلات الرومي التي قادته إلى التعرف على شمس الدين التبريزي، وما فعله هذا اللقاء فيه من تجاوز للمظاهر/القشور، والغوص في عوالم الباطن، ومنه تعلم –حسب شروحات هذا الباحث- مفهوم العشق الذي ميز الرومي في كل مساراته العلمية الدنيوية والأخروية.
-نوري شمشكلر: دكتور جامعي بمركز مولانا للبحوث والتطبيق، تميزت شروحاته الدقيقة من إثارة عنصر جديد في مسارات حياة هذا العارف بالله الجميل، حيث أطلق على اللقاء الذي تم بين المتعلم ومعلمه أو بين المريد وشيخه؛ لقاء “مرج البحرين”، وهي تسمية آتية من القرآن الكريم، “مرج البحرين” بمعنى لقاء البحرين، في إحالة إلى طبيعة اللقاء الذي تم بين الرمزين الصوفيين، وما نتج عنه إلى الآن من خصوبة فكرية وروحية وعشقية لاتزال ترخي بظلالها على محبي الفكر الصوفي كله.
ما أحوجنا إلى الرومي
ما بين هذه الشروحات التي كثفناها هنا واستخلصنا منها هذه العناصر الأساسية، حضرت العديد من المشاهد التمثيلية الموضحة لكل مناحي الحياة المميزة لجلال الدين الرومي، بدءا من مراحله الأولى ومرورا بتعليمه وسفره وبُعده الموسيقي الروحي ولقاءاته العلمية الدنيوية والأخروية، وعطاءات وكرامات الرجل وهو على قيد الحياة، وصولا إلى موته/قبره.
وما بين المشهد الأول حيث دوران الرجلين لأحد الراقصين الصوفيين (لون أسود للحذاء وأبيض للباس، لونان لا يخلوان من ثنائية ضدية الخير والشر)، والمشهد الأخير حيث يودعنا الفيلم/المخرج من قبر الرومي، تتحقق العديد من المتع والاهتزازات الباطنية، لاسيما والفيلم يستقبلنا ويودعنا في المشهد الأول والأخير أيضا بالعديد من الحكم التي تركها الرومي، وهي تنهل من فيض المحبة والخير والتواضع والرحمة.
بنية معجمية ما أحوج عالمنا اليوم إليها، لاسيما وهو ذلك العالم -كما بينا سالفا- المبني على الصراعات والاقتتال والتدمير. فما أحوج من يوقّع قرار بدء حرب ما إلى الإصغاء إلى نبضات قلب الرومي.
ونحن نقترب من نهاية هذا الفيلم الوثائقي، تترسخ في أذهاننا العديد من الأفكار التي هي وليدة هذه الفرجة الوثائقية الجميلة لهذا الفيلم، ومنها:
– الطابع الكوني هو المميز لمولانا جلال الدين الرومي، أي أنه لا يخص العربي أو المسلم وحده، بل يخص جميع المتدينين وغيرهم، أي أن خطابه خطاب إنساني بامتياز.
– البعد الموسيقى الروحي الصوفي لأشعاره قبل تحويلها إلى نصوص مغناة، بمعنى أن الراوي في هذا الفيلم تمكن من أسرنا جميعا لما تميز به في قراءته الشعرية الشاعرية ذات البعد الصوفي.
– رقصات واردة في الفيلم وذات بعد موسيقي صوفي سام، وهنا علينا أن نذكر كيف أن الرومي رحمه الله اعتبر الرقص والسماع بمثابة رموز دالة مولدة للعديد من الدلالات، فالدوران في الرقص (دوران نحو النفس) بملابس بيضاء ترمز للكفن، واليد المرفوعة إنما هي للدعاء بالخير والمغفرة والحب والجمال والموجهة إلى السماء/الخالق، والأخرى نحو الأرض/الناس، وكأن مولانا العارف بالله صاحب هذه الرقصة كما ورد في العديد من المرجعيات الثقافية الصوفية الفنية، يرغب في قطف أو تسلم شيء ما من السماء/الله، وليوزعه بيده الثانية/السفلى على من هم في الأرض. وماذا سيتسلم أو يقطف الرومي من السماء غير الحب والبحث عن المغفرة والجمال؟ يفعل هذا برأس مائلة ومنحنية تدل على التواضع و”المسكنة” الإنسانية، لأن الوقوف هنا هو في دائرة/عمق الحضرة الإلهية.
– إذا كان الرقص الصوفي يتميز بالبعد الدائري، وكما لاحظنا سالفا فإن الفيلم بدوره بدأ وانتهى بأشعار/حكم قوية ودالة وضمن رؤية دائرية فنية، من الصعب أن لا “نستسلم” قلبيا لها. لنصغ لها الآن ولا أقول لنقرأها، لأن كلام هذا العارف، وكما جاء على لسان من شرح أشعاره، كلام أحوال وليس مجرد أقوال: كن في الحب كالشمس.. كن في الصداقة والأخوة كالنهر.. كن في الغضب كالميت.. كن في التواضع كالتراب.. كن في ستر العيوب كالليل.
أشعار افتتح بها الفيلم الوثائقي حاله على إيقاعات رقص دائري، لم تظهر منه في البداية إلا الرّجلين بحذاء أسود، والجزء السفلي من اللباس الأبيض. أشعار قيلت على إيقاعات هذا الدوران، الذي لن يكتمل (كجسد كامل) إلا في مشاهد موالية.
عميقة هي معاني هذه الأشعار/الحكم السامية التي إذا عدنا إلى كلامنا الأول عن العولمة وبُعدها المادي والحربي، نجدها تشكل خلخلة حقيقية لها، بل “سلاحا” حقيقيا لهزيمتها. كن إنسانا راقيا ومحبا للجميع، وعاشقا لقيم الخير والجمال، هو مكنون هذه المتون الصوفية القوية التي تركها مولانا جلال الدين الرومي والتي ترجمت إلى معظم لغات العالم.
لم يودعنا المخرج ولا جلال الدين الرومي إلا بأشعار/حكم أخرى ذات عمق باطني، حيث تم تأكيد ما يلي: أنا عبد القرآن ما حييت.. أنا غبار قدم محمد صلى الله عليه وسلم.. من نقل عني غير ذلك، فأنا متألم منه ومتألم من ذلك القول.
البدء بمثل هذه الأحوال والختم بها، والمرور عبر أخرى خلال مشاهد مشخصة فيلمية تخييلية دالة ومحيلة على عصره من خلال طبيعة الألبسة والأمكنة والوقائع ذات البعد العائلي والمحيطي والعلمي والديني.. كل هذا يشير إلى قيمة وثائقيات مولانا جلال الدين الرومي وحاجتنا إليها بكل لغات العالم، لعل من يملك “قوة” الأسلحة والمال و”القدرة” على الفتك بهذا العالم تسري في عروقه بصمة إنسانية ما.
ناي وقانون.. موسيقى دالة
ونحن نتابع كافة مراحل هذا الفيلم الوثائقي، نستخلص التوظيف القوي لمجموعة من الآلات الموسيقية، ومن أبرزها آلة القانون والناي. وهما آلتان بهما تم إيصال أحوال هذا العارف بالله إلى درجة جعلتنا نتمايل ونصغي لقلوبنا ونوقف كل مرجعياتنا المادية، مع أن كلام الرومي لا يمكن قراءته أو الإصغاء إليه إلا كموسيقى/حال.
الحال هنا حال عارف بالله استوجب جعل القلب موطن الرؤية والإبصار والاستمتاع والبحث عن التطهير القلبي من مآسي هذا العالم. العارف إذن مقام موسيقي روحي، قدِم بعزف موسيقي روحي آخر، مما جعلنا في حضرة الموسيقى والجمال والبحث عن السفر في حضرة الجلال.
هنا تمكن المخرج أيضا من إغناء فيلمه بمتن موسيقي آت في بعض مقاماته مما سبق ذكره، أي مقامات مرهونة بالعشق ولا شيء آخر غير العشق. وبتوظيف موسيقي متعدد ومتنوع غايته النهل من كل ما تمنح هذه الآلات الموسيقية من فرص تعبير وجداني سام، نكون أمام لحظة حلول وتماه بين حال العارف بالله وحال الموسيقى، مما جعلنا فعلا أمام عمل فني فاعل في كل من تلقاه بشكل أو بآخر.
بمثل هذه الوثائقيات الصوفية ذات العمق الإنساني من الممكن إعادة “تسويق” ديننا الحنيف للآخر الذي “نجح” في تقديمه للعالم على أساس أنه دين “عنف”، بينما هو في عمقه دين رحمة ومحبة وجمال، ولعل رمزيته الروحية المتحدَّث عنها هنا ذلك المثال الراقي المؤكد لما ذهبنا إليه.
يبدو أن كل الأعمال الفنية المبنية على قيم موسيقية روحية أو فكرة تخدم الإنسانية مثل وثائقيات الرومي، هي حاجة وضرورة من الممكن أن تساهم في إنقاذ عالمنا من كل الويلات التي يتخبط فيها، مما يجعل منها عملا متميزا وقابلا لتوظيفه في بناء التعليمات والقيم والرؤى وبناء الشخصية، لاسيما في مؤسساتنا التعليمية والتربوية والتكوينية والبحثية، سواء على المستوى العربي أو الأفريقي أو الإسلامي أو العالمي، فبمثل هذه الأعمال نواجه الذين يستثمرون في “ثقافة” الخوف والرعب لتسهيل التحكم في الناس، بل لتحويلهم إلى لقمة سهلة “الهضم” من لدن الشركات الكبرى ذات البعد الرأسمالي المبالغ فيه وقوى الشر في هذا العالم الذي يتقوى يوما بعد يوم.
رحم الله مولانا العارف بالله جلال الدين الرومي الذي ترك لنا فعلا؛ إرثا روحيا وجماليا وإنسانيا موجها للجميع.