“مونوز”.. حين يُصبح العنف سجيّة
عبد الكريم قادري
من الصعب معرفة ما تقدر عليه النفس البشرية والإحاطة بتراكيب المشاعر التي تختبئ فيها، والتي تتراوح في مُجملها بين الخير والشر، فكل إنسان يحتاج إلى دافع حتى وإن كان صغيرا، لتخرج كمية المشاعر الشريرة التي كان تختبئ فيه إلى العلن، فيُسطّر بها صفحات من الدماء تُلوِّن الأهداف التي يختارها زارع هذه الأفكار، ليخدم فكرته التي يرى بأنها يجب أن تسود وتبرز، حتى وإن كان يعلم بأنها فكرة سوداء تنشر الشر والخراب، فهو لا يكترث بذلك وإنما يكتفي بالبحث عن الأيادي التي سيستعملها والقلوب التي سيبث فيها هذه السموم.
ولمن لديه القابلية كي يكون شريرا يُشكل فريقا منهم، يتعامل معهم بآلية علمية مدروسة بأفكار نفسية ودوافع حياتية، ويطلقهم بعدها في البريّة لملاحقة الطرائد وخدمة أفكار القائد أو الزعيم، وتحقيق غايته وأحلامه.
“المنظمة”.. سلاح في يد الثوّار المراهقين
وفقا لهذه المعطيات جاء الفيلم الكولومبي الأرجنتيني “مونوز” monos) 2019)، لمخرجه “ألخاندرو لاندز”، الذي عُرض في القسم الرسمي خارج المسابقة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ41 (من 20 وحتى 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019).
يروي الفيلم قصة مجموعة من الثوّار المراهقين الذين ينتمون إلى جماعة متمردة تُسمي نفسها “المنظمة”، حيث يتم تدريبهم بطريقة جيدة وبشكل احترافي من أجل مجابهة أي خطر يمكن أن يعيق المهمة التي كُلفوا بها، وهي حماية الطبيبة الأمريكية “جوليان نيكلسون” الرهينة عندهم، لكن بعد أن غاب مدربهم الذي كلّف أحد الثوار بقيادة المجموعة؛ حدث الكثير من الأشياء، مما جعل المهمة في خطر، خاصة بعد اختلاف المجموعة إثر انتحار قائدهم، والخوف من عقاب “المنظمة”، بالإضافة إلى الهجوم الحكومي الذي جعلهم يتفرقون في الغابات، وهناك تبدأ أحداث أخرى، أخطرها تمرد قائد المجموعة الجديد عن المنظمة، مما أعطى للمجموعة الحق في التصرف في الأسيرة الأمريكية.
العنف لا يُولّد إلا العنف
استطاع المخرج “أليخاندرو لاندز” أن يعكس مقدرته في كتابة السيناريو رفقة “ألكسيس دوس سانتوس”، وهذا ما صنع فكرة فلسفية قوية تم تطويعها في سيناريو غطّى 102 دقيقة في الفيلم.
هذه الفكرة يمكن اختصارها في كلمة “العنف” التي نظّر لها عمليا من خلال أحداث الفيلم وقصته، وكأن المخرج يرسم السياقات العامة التي ينمو من خلالها العنف ويتطور، وذلك في ظل استغلال كل طرف حسب مقدرته النفسية ومحطاته الحياتية، وتتجلى هذه الفكرة بشكل أشمل في المقدمة أعلاه.
تتمحور الفكرة في خلاصة أساسية تُوحي بأن “العنف لا يُولّد سوى العنف”، أو “حين يصبح العنف ظاهرة”، وهذا ما حدث بالضبط بين مجموعة المراهقين الذين تم استغلالهم لخدمة فكرة أكبر من مرجعيتهم الثقافية والحياتية أو طاقة استعابهم، فأنتجت مجموعة من المواقف والفوضى انتهت بسيل الكثير من الدماء، بسبب البحث عن الزعامة المبكرة والآنية، والخروج عن الخط العام للمنظمة وقتل القائد، وتمجيد الزعيم الجديد في المجموعة وترهيب باقي الأفراد، وعدم التفكير في مآلات الأمور ونتائجها، وتحويل العنف من وسيلة توصل لهدف معين، إلى التركيز عليه وتحويله إلى موقف وغاية.
وأكثر من هذا أراد المخرج أن يوصل فكرة شاملة مفادها أن وضع السلاح في يد مجموعة من المراهقين لا يختلف عن وضع السلاح في يد مجموعة من المجانين، فلا تدري أين سيتجه الرصاص وأي جسد سيصيب. ومن هنا تحول الأمر إلى نزوات شخصية لكل فرد، بسبب أن الجندية تلك لم تحب هذا الجندي وذهبت إلى ذاك، لذا وجب الانتقام منها، أو وشاية من زميله لسبب تافه لهذا وجب قتله، وهكذا دواليك من الأسباب، وكأن فكرة فيلم “مونوز” هي إسقاط يمكن أن يتطابق مع الكثير من المنظمات المسلحة أو حتى الجيوش، حيث يسقط الكثير من الضحايا في كل الجهات، لكن الفكرة الشاملة لا تتحقق أو لا تستحق، لكنها تظهر بشكل برّاق دائما.
الغابات.. حيث تُنسى المدن والصخب
استغل المخرج “أليخاندور لاندز” الجبال التي يُغطيها الضباب والغابات المُغرَقة في الخضرة ليصنع لوحات فنية غاية في الدقة والجمال، وذلك عن طريق المصور البارع “جاسبر وولف” الذي أحسن استغلال هذا المورد الطبيعي، من خلال ضبط وتنويع زوايا التصوير، وقنص لحظات حاسمة في الفيلم ولّدت جمالا بصريا رهيبا، عن طريق التركيز على فضائين مُهمين.
الفضاء الأول من خلال قمة الجبل، حيث الضباب يُغطي المكان بشكل متدرج مع تساقط الأمطار من حين لآخر، وقد خُلقت من هذا الفضاءات العديد من المشاهد التي تجعل النفس تُحلّق وتتوحد معه، أهمها تساقط الأمطار، وملامسة أقدام المجموعة للطين، والدفء الذي يخلقه الاختباء في أحد الملاجئ القديمة مع مشاهدة منظر تساقط المطر على التلة، ولَهو المراهقين في هذا الفضاء وتلاعبهم بالرصاص.
أما الفضاء الثاني فقد جاء بعد الأوامر بمغادرة هذا المكان والتوجه إلى الغابات عندما تغيّر الجو العام نسبيا، من هنا ابتدأت مرحلة ثانية من التصوير عكستها الأحراش والأشجار الاستوائية والأنهار والشلالات والانهيارات الطينية والبحيرات، حيث تسللت خيوط الضوء بين أغصان الأشجار.
من هنا جاء استغلال المصور جاسبر وولف لهذا الفضاء الثاني، وخلق منه لوحات فنية ساعدت بشكل كبير في موازنة الفكرة وخلق امتداد بصري جمالي على طول الفيلم.
عندما تسقط تسمية الأمكنة والأزمنة
أسقط المخرج ثنائية مهمة في الفيلم، وهي عدم تسمية المكان الذي تجري فيه أحداث الفيلم، أو تحديد الزمان، حيث لم يحدد أمكنة أو أزمنة معينة يمكن أن يحصر فيهما فكرة فيلمه، وكأنه عصِيٌّ على هاتين الثنائيتين، أي أنه يريد لفكرته أن تُحلّق في العديد من الدول التي تملك فضاءات تشبه الفضاءات المحددة في الفيلم، أو يريد لفكرته أن تُحلّق بعيدا، لأن المشكلة المطروحة في الفيلم لا تستهدف جهة أو زمانا محددين، بل تتشارك فيها فئات واسعة من المجتمعات، لهذا وجب إسقاط العنصرين.
ذهب المخرج أكثر من ذلك في الفيلم، فلم يُجب على الكثير من الأسئلة التي تركها مُعلّقة عن قصد، وكأنه غير مُلزم بتبريرها، إذ لم يُظهر الأسباب التي دفعت بالمراهقين للانخراط في المنظمة، فهل تم اختطافهم، وهل تم جلبهم من الشارع، وهل هم أبناء ملاجئ، هل تم شرائهم من جهة معينة؟ وما هي الأسباب التي دفعت بالمنظمة لاختطاف الطبيبة الأمريكية، ولماذا ركّز المخرج على الغابة دون غيرها؟ وما هي دوافعه لإظهار بيت وحيد في الغابة راح أصحابه ضحايا لعنف المجموعة؟
هي أسئلة وأخرى أبقاها المخرج مُعلّقة، وترك تأويلها للمتلقي، لأنه كلما كثر التأويل ازدادت الجمالية وتنوعت الرسالة حسب فهم المعنى.
تعددت الأسباب والعنف واحد
فيلم “مونوز” صُنع بعناية فائقة، فالمخرج احترم فيه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفيلم الجيد، بداية من السيناريو الشامل، ومرورا بالتقنية واختيار الفضاءات الساحرة، إضافة إلى “الكاستينغ” (تجارب الأداء) الذي أظهر عملا جماعيا مُتناسقا، حيث دافع كل فرد فيه عن دوره بشكل كبير رغم صعوبة العمل على الانفعالات الجسدية والنفسية، لكن يبدوا أنهم عملوا جيدا على النص وتفاصيله.
الأكثر من هذا كله هو نجاح المخرج في إظهار خطورة فكرة “التطرف” وغسيل الدماغ الذي يمكن أن يحدث لأي شاب أو مراهق، وذلك نتيجة لاستغلال شيء ما في حياة الفرد، والذي يمكن أن يكون ظلما أو فقرا أو تهميشا، ومهما تعددت الأسباب فإن “العنف” واحد.
من هنا يكون فيلم “مونوز” صرخة مُدوّية في وجه الاستغلال بكل أشكاله، وتحذيرا قويّ اللهجة لكل أسرة أو مجتمع أو حكومة من الأخطار التي تحيط بالأولاد في كل زمان ومكان.
المخرج “أليخاندور لاندز” بدأ مشواره السينمائي من خلال الفيلم الوثائقي “كوكاليرو” (2007)، ثم تلاه الروائي “بورفيريو” (2011) الذي حصل من خلاله على جائزة أفضل مخرج في مهرجان قرطاجنة السينمائي، ليكون فيلمه “مونوز” الثالث في مشواره، والذي حصل من خلاله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان صندانس السينمائي، كما تُوّج في العديد من المهرجانات العالمية.