أفلام فرنسية.. عن توحّش العالم وهشاشة الفرد وعبثية الواقع

ندى الأزهري
عكست السينما الفرنسية في عدّة أفلام عُرضت هذا العام؛ الواقع الاجتماعي الصعب والوضع الاقتصادي الهشّ للأفراد والمجتمعات، وذلك في عالم مُعاصر بات مُوحّدا في أوجه عديدة يُسيطر عليه نظام اقتصادي تحكمه المصارف ويُسيّره الاستهلاك، وتبرز فيه أكثر فأكثر مشاكل اجتماعية تتعلق بالعمل وضغوطه، والبطالة وأثرها المدمّر، وقضايا اللجوء والتأقلم والاختلاف الثقافي، كما رصدت الأفلام بأسلوب معبّر هذه المخاطر التي تُهدّد استقرار الإنسان وتوازنه النفسي.
وفي موضوع اهتمت به السينما الفرنسية من قبل، لكن ليس على هذا النحو الواقعي والمأساوي؛ جاء فيلم “بِاسْم الأرض” ليرصد المشاكل الكبرى التي تعيشها فئة من أبناء المجتمع، وهو العمل الأول لمخرجه “إدوارد بيرغون”. فالفيلم قصة واقعية استوحاها المخرج من حياة والديه، وذلك عن أوضاع المزارعين وتأثير العولمة على عملهم وحياتهم.
ومعروف أن الكاتب الفرنسي الشهير “ميشيل ويلبك” يهتم في معظم قصصه بتدهور الوضع الزراعي الفرنسي، وشقاء المزارعين الفرنسيين وعجزهم أمام القوانين الاقتصادية المعولمة في نظام عالمي لا يرحم. وقد مثلت إحدى شخصياته في كتابه الأخير “سيروتونين” هذا الوضع المأساوي الذي يبدو وكأنه لا مَخرج أمامه إلا الاستسلام المُذّل أو قتل النفس، ثم جاء هذا الفيلم الفرنسي الذي مسّ قلوب الجمهور الفرنسي بإنسانيته وتعبيره الشديد عن الواقع القاتم.
“بِاسْم الأرض”.. خير هدية للوالدين
فيلم “باسم الأرض” يحكي عن “بيار” (الممثل الفرنسي غيليوم كانيه) الذي عاد إلى فرنسا من رحلة طويلة في الولايات المتحدة للاعتناء بمزرعة العائلة، فـ”بيار” يبلغ من العمر 25 عاما، حيث يتزوج من حبيبته كلير وينجبان الأولاد ويعملان بجهد كبير لتطوير المزرعة. تبدو أيامهما سعيدة وهما يبنيان لقطف الثمار فيما بعد.
عشرون سنة مضت والمزرعة نمت وكذلك العائلة، وقد حان وقت القطاف لمستقبل مشرق، لكن هذا كان بعيدا.
لقد كانت الديون تتراكم وبيار منهمك ومنهك في عمل لا يهدأ ولا ينتهي، دون حساب ليل أو نهار. وعلى الرغم من جهوده فإنه وجد نفسه عاجزا، إنه بحاجة للوقوف أمام المنافسة، ولهذا فعليه أن يتخلّى عن بعض مبادئه الزراعية، كأن يُربي الدجاج في مداجن صناعية مُخزية في شروطها، وأن يشتري أجهزة ضخمة لتطوير مزرعته.. ولم يكن من مفرّ سوى الوقوع تحت سيطرة المصارف لتتراكم عليه الديون وفوائدها.
إنه في عالم يُجبر المرء على اللحاق به دون شفقة ولا رحمة، وإلا كانت النهاية المدمرة. يغرق المزارع شيئا فشيئا على الرغم من حب زوجته وأطفاله ومساندتهم له.
هذا الفيلم نظرة إنسانية على تطور العالم الزراعي في العقود الأخيرة في فرنسا وحتى أوروبا، حيث يستعين فيه المخرج بما عاناه والده في عمل جاحد. لقد كان الفيلم أجمل تكريم يمكن أن يُقدمه ابن لوالده في روايته لقصته بأسلوب نجح تماما في أسر المشاهد، وأخذه إلى هذا العالم ومشاقه، وذلك من خلال التطور التدريجي للحدث وللشخصية في سعيها، ولن نقول طموحها، بل فقط للاستمرار ولو بأقل المداخيل. لكن كل هذا يبقى دون جدوى.

“أشخاص بالغون في الغرفة”.. توحّش ألمانيا وفرنسا في اليونان
ولا تقتصر سيطرة المصارف على حياة الأفراد، بل تنسحب على الدول كذلك، وهكذا جاءت الكارثة الاجتماعية والاقتصادية التي ضربت اليونان عام 2008، لتبرز في أدقّ وأقوى صورها في فيلم فرنسي مأخوذ عن “مفاوضات بين بالغين”، وهو كتاب أصدره وزير المالية اليوناني الأسبق “يانيس فاروفاسكي”.
ففي الفيلم الفرنسي “أشخاص بالغون في الغرفة” للمخرج الفرنسي من أصل يوناني كوستا غافرس؛ نظرة إلى الوراء، حيث يناقش الأزمة الاقتصادية اليونانية بعد أكثر من عشر سنوات على اندلاعها، وذلك للتذكير بالمسؤولين عنها من حُكّام يونانيين من اليمين واليسار الذين سمحوا -بسبب عدم كفاءتهم- بمراكمة ديون هائلة وصلت إلى 320 مليار دولار، لكن أيضا لتبيان دور فرنسا وألمانيا اللتين كانتا تبيعان “دون رحمة” -على حدّ تعبير غافرس- منتجاتهما من سيارات وأسلحة إلى بلد يعرفان أنه مدين.
الفيلم مأساة يونانية ليست من الأساطير، فالبلد كان على حافّة الهاوية مع أزمة اقتصادية يعيشها منذ سبع سنين عجاف، وسياسة تقشّف أجبرته عليها المصارف الأوروبية.
لكن الأمل بالخلاص للشعب اليوناني يتجسّد في رجلين نجحا في الانتخابات، حيث يقود الوزير يانيس معركة لا ترحم وراء الكواليس والأبواب المغلقة مع سادة الاقتصاد الأوروبي والعالمي، وذلك في مفاوضات الاتحاد الأوروبي عام 2015 لإعادة جدولة ديون اليونان، حيث لا مكان للإنسانية والرحمة، بل فقط تعسّف التقشف المفروض، وفروض أخرى وضغوط سياسية.
يرسم غافراس كل هذا بخبرة معرفية وقدرة إخراجية في موضوع مُعقّد تمكّن من توضيحه، لتخرج لوحة موجعة عمّا حصل لشعب أوروبي يمكن أن يتكرر مع شعب آخر.

“هؤلاء الذين يعملون”.. هشاشة الفرد في النظام العالمي
وأتى فيلم “هؤلاء الذين يعملون” لـ”أنطوان دروسباخ” ليُدين أيضا النظام الرأسمالي العالمي والعالم المعاصر، والآثار المؤذية لليبرالية، وذلك من خلال أجواء العمل في فرنسا.
ينطلق الفيلم بأسلوب واضح لا لبس فيه ولا غموض من الحميمي، ليقترب بشكل أفضل نحو خطاب بمستويات عدة، وذلك من خلال شخصية فرانك الذي يُعتبر ضحية هذا النظام الذي كان يظن أنه يستفيد منه.
يُظهر الفيلم عبث حياتنا المعاصر في أسلوب واضح لا لبس فيه ولا غموض. فقد تبين لفرانك وهو يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه هشاشة نجاحه، استنادا إلى حقيقة أنه مجرد بيدق قابل للرمي من عمله عند أدنى بادرة يعتبرها المسؤولون خطيئة. لقد اكتشف مع البطالة أيضا أنه لم يكن سوى مصدر مالي لجميع أفراد أسرته الذين اعتادوا الحياة المُرفهة، ولم يكن من الممكن قبول غيرها.
في هذا الفيلم نظرة فاحصة على عالم العمل وانتقاد للنظام الاستهلاكي، هذا الجهاز الهائل الذي لا يحركه إلا هدف واحد هو الربح، ولا يُغريه إلا المزيد من الربح، فيطحن كل شيء في طريقه تحت هذا المسمى.

“ألِيس والمحافظ”.. عن ضغوط العمل
ضغوط العمل تتبدى كذلك في فيلم “أليس والمحافظ” لـ”نيكولا باريزيه”، فالضغوط تُحيل الإنسان إلى آلة تُكرّر الأفعال نفسها يوميا، وتتوقف عن التفكير لتهتم فقط باليومي والطارئ. هذا ما يحصل مع “بول” محافظ مدينة “ليون” (الممثل الشهير فابريس لوكيني)، والذي يشعر بعد ثلاثين عاما من العمل بالإحباط، فالأفكار والتفكير بات نائيا عن حياته، لذلك يُقرّر الاستعانة بفيلسوفة شابة لتمدّه بها، وهنا تتكشف أمور كثيرة لهما تتعلق بالعمل وتأثيره على الشخصية.
إنه فيلم سياسي كوميدي عُرض في فرنسا قبل الانتخابات البلدية بأيام، ليناقش مدى تناسب الفكر مع الحياة السياسية، عن الحياة السياسية الفرنسية التي هي في آخر نفس، وعن غرور السلطة وشكوك أهلها.
يتمكن الفيلم من إظهار الرجل السياسي الفرنسي في حياته اليومية التي لا تهدأ، على خلاف ما يتصوره الناس في العادة، ويُعطي فكرة واضحة عن ضغوط العمل وكثرته، والاضطرار لاحترام بعض المظاهر رغم عدم جدواها.
“فهيم”.. اللاجئون والفرنسيون
وهنا فيلم فرنسي اجتماعي يرصد أحوال المجتمع ويفرض وجوده بقوة في الصالات، حيث يستوحي القضايا الطارئة والمستجدات، وإضافة إلى ما سبق فهناك أفلام تناقش مشكلة معاصرة مثل اللجوء والهجرة غير الشرعية.
وفي فيلم تناولها على نحو مُبسّط وكوميدي، عَرَضَ فيلم “فهيم” للمخرج “بيار فرنسوا مارتان لافال” قصة عائلة اضطرت إلى مغادرة موطنها في بنغلاديش إلى الهند، وحِرصاً على مستقبل الابن “فهيم” يصطحبه الأب إلى باريس مُغادرا باقي أفراد العائلة. وعند الوصول يُشرعون في مسار مليء بالعقبات للحصول على اللجوء السياسي، مع خطر التهديد بالترحيل في أي وقت.
يلتقي فهيم بفضل هوايته بلعبة الشطرنج مع “سيلفان”، وهو أحد أفضل مدربي الشطرنج في فرنسا، فعلاقتهما في البدء تراوحت بين شدّ وجذب، إلى أن توطّدت بفضل موهبة فهيم الكبيرة.
لقد سمح الجميع للشاب بإيجاد مكانه بينهم، فمع بدء البطولة الفرنسية يُصبح تهديد الطرد عاجلاً، وليس لدى فهيم سوى فرصة واحدة فقط للخروج: أن يكون بطل فرنسا.
الفيلم مليء بالأفكار النمطية عن الاختلاف الثقافي بين أهل البلد واللاجئ، إنما دون أن يتحول ذلك إلى تفهم وتفاهم فيما بعد.
“فهيم” من الأفلام البسيطة التي لا تذهب بعيدا في طروحاتها عن عمق الاختلاف، فيكتفي بما هو على السطح، ومن خلال استخدام ممثل كبير مثل “جيرار دوبارديو” في دور المدرب؛ يُحاول إثارة اهتمام الجمهور بقضية اللاجئين، لا سيما صغار السن منهم، كما يُظهر أن المجتمع الفرنسي ليس عنصريا في العمق، بل يلزمه بعض الوقت، وهو مجتمع مساعد يهب وقته للآخرين حين يقتنع بوضعهم.
“ما الذي فعلناه بحق الإله؟”.. سخرية من النمطية
وفي نفس التوجه نجد فيلما اجتماعيا هزليا أيضا عن مشاكل الاختلاف، لكن هذه المرة بين مكونات المجتمع الفرنسي نفسه، حيث فيلم “ما الذي فعلناه أيضا بحق الإله؟” لـ”فيليب دو شوفرون”.
إنه تناول ساخر مليء بالنمطيات والأفكار المسبقة عن “الآخر”، والمُمَثَّل هنا في أربعة أزواج لأربع فتيات لعائلة فرنسية كاثوليكية محافظة، حيث اختارت كل فتاة زوجا من أصول مختلفة وديانات أخرى تُمثل فرنسيين من أصول عربية وآسيوية وأفريقية، كل مع ديانته وثقافته التي يُفترض أنها “مغايرة” لثقافة العائلة وثقافة المجتمع الفرنسي المحافظ، ليخلق هذا العديد من مواقف سوء الفهم المتبادل، دون أن يعني عدم إمكانية التعايش بالطبع.
لقي الفيلم نجاحا شعبيا هائلا في فرنسا، وذلك لبساطته وتعبيره المكثف ربما عمّا يدور في الحياة اليومية.
“البؤساء”.. ومشاكل الضواحي الفرنسية
الفيلم العميق والرائع الذي تناول مشكلة الضواحي والوضع الاجتماعي لسُكّانها وعلاقتهم بالشرطة، والتي تشغل الرأي العام الفرنسي كثيرا؛ كان “البؤساء” للمخرج “لادج لي”. إنه الفيلم الأول لهذا المخرج بعد سلسلة أفلام قصيرة عن الضواحي الفرنسية ومشاكلها والحياة فيها، ونال الفيلم “جائزة التحكيم” في مهرجان كان الأخير، كما ويُعرض الآن في فرنسا.
استُقبل الفيلم بحفاوة كبرى من قبل النُقّاد والجمهور، وذلك لتصويره بدقة وواقعية شروط الحياة اليومية في الضواحي بمتابعة فريق أمني مُكلّف بحفظ الأمن فيها، ومن خلال ذلك تبرز أسباب الثقة المفقودة بين السُكّان ورجال الشرطة، وهو ما جعل تلك الأماكن في فرنسا خارجة تماما عن السيطرة، مما يُهدّد بانفجار دائم في الأوضاع.
المخرج يسكن الضواحي، واستوحى الفيلم عن قصص ومشاهد حقيقية شهدها بنفسه، إنه فيلم إنساني وسياسي في الوقت نفسه. لكن هذه الأفلام جميعها ليست سوى عرض مُلخّص لكثير غيرها.