فرنكنشتاين في بغداد.. فرنكنشتاين في كل البلاد
د. أحمد القاسمي
كثيرا ما نجدُّ نحن النقاد بحثا عن المواضيع الجديرة بالطرح، وقد لا نظفر بالفكرة المبتكرة الأصيلة، في حين توجد مواضيع مهملة تبحث عن كاتب يمنحها نبض الحياة. ومن هذه الأفكار وجوه تفاعلِ كلٍ من الثقافة الغربية والثقافة العربية مع الظاهرة “فرنكنشتاين”. هذا ما تبادر إلى ذهني حين كنت أُعدّ ورقة عن الاقتباس الفيلمي، فقد ضبطتُ بين دفاتري ذلك المسخ الهجين الذي صنعه “فيكتور فرنكنشتاين” من بقايا جثث الأموات، وحوّله إلى كائن غريب ذي قدرات خارقة، ثم تخلى عنه.
ضرب المسخ بعد ذلك في الأرض، فشرّق وغرّب كثيرا، وطوّف في الأرض من ألمانيا موطن نشأته إلى سويسرا إلى إنجلترا إلى إيطاليا، وطوّف كثيرا في الفنون فهاجر من الرواية إلى المسرح إلى السينما إلى التلفزيون إلى الفنون التشكيلية، وبلغ عدد اقتباساته منذ أن ابتكرته الكاتبة الإنجليزية “ماري شيلي” في عام 1818 في روايتها “فرنكنشتاين” أو “برومثيوس الجديد” أكثر من مئتي مرة.
ألهذا كان مرهقا شاحب الوجه فانيَ العصا؟ هل كان يبحث عني شخصيا لأكون لسان دفاعه فأعرض قضيته وأخبر عنه وأروي قصته للقارئ العربي؟ والحقّ، أن قصّته جديرة بأن تُحكى من جديد، ومن حق نسخته العربية أن تَذيع كما ذاعت نظيراتها الغربية، فمن الجحود أن تعيش في الظل وهي تُقتبس عندنا في اليوم ألف مرة.. وتلك حكاية أخرى.
فرنكنشتاين الغربي.. جموح العقل المبدع
مثّل رهان بين مجموعة من الأصدقاء الشباب ذات يوم شتائي من عام 1816 عمن يكتب القصة الأكثر رعبا؛ الحافز الكافي لتحبير رواية “ماري شيلي”، ففيها جعلت فيكتور فرنكنشتاين ينشأ في ظل أسرة سويسرية متحابة، ويعيش طفولة سعيدة مع هنري رفيقه وصفيّه. وقبل أن تذهب الحمّى بأمه طلبت منه وهي تحتضر الزواج من إليزابيث الفتاة اليتيمة التي تبنّتها الأسرة وأحسنت إليها.. وماذا يريد غير ذلك وهما المتحابان منذ زمن؟
وينصرف فيكتور فرنكنشتاين إلى دراسة علوم الطبيعة، ويأخذه الهوس باكتشاف خفايا الكون وأسرار الحياة. ويطمح إلى تحقيق مجد شخصي، فيرتحل من جنيف إلى ألمانيا للدراسة في جامعتها، فينضم إلى مختبر علمي، وبعد سنوات من الدراسة وليال طويلة من التجارب يتمكن فيكتور من منح الحياة لكائن جمعه من بقايا أطراف الموتى. ولأن ذلك المسخ كان قبيحا وصنيعُه كان أقبح، يشعر فيكتور بندم وتأنيب ضمير شديدين، فيهجر مختبره ويحاول أن يتناسى ما فعلت يداه، حتى يبلغه خبر موت شقيقه ويليام، فيقرر العودة إلى جنيف ليشارك عائلته محنتها. وهناك يكتشف هول ما صنع؛ فلئن استطاع هو أن ينسى تجربته تلك، فإن ذلك المسخ لم ينس محنته، فهو يعيشها كل يوم شقيا تعِسا يتألم من الجوع والبرد والوحدة في الغابة مرفوضا من عالم البشر. ولكي ينتقم من صانعه الذي بعثه إلى هذا البؤس، قام بقتل شقيقه ويليام. اتُّهمت مدبرة المنزل “جيستين” بقتله، إذ من سيصدق بأن فيكتور قد صنع مخلوقا وأن صنيعه هو من ارتكب الجريمة؟
ويترصد المسخ ماسخه، وعبر التهديد يرغمه على خلق امرأة تشاركه وحدته، فيخضع ويتقدم في عمله، ولكن خوفه من خلق وحش ثان يفسد في الأرض كما الوحش الأول يجعله يقرر ألا يبعث فيه الحياة، لذلك يغضب المسخ ويقرر أن يذيقه مرارة الوحدة والعزلة كما ذاقها هو، فيقتل صديقه هنري ثم يقتل حبيبته إليزابيث، ويترك له رسالة تطلب منه إن كان جادا في الثأر أن يتبعه إلى مملكة القطب الشمالي الجليدية، وهناك يموت فيكتور بردا وألما ويبكيه المسخ بكاء مرا ثم ينتحر.
فرنكنشتاين.. تسييج العلم بالأخلاق
كانت ماري شيلي ترمي من وراء تأليف “فرنكنشتاين” أو “برومثيوس الجديد” إلى كتابة رواية رعب، وقدمتها باعتبارها “حكاية صغيرة تجمّد الدماء”. ولئن جاءت الرواية عفوية تكشف بساطةُ بنائها وسذاجتُها الفنية عن كاتبة مبتدئة لم تكتسب بعد النضج والمهارة الضروريين، فإنها اشتملت -من جهة المضمون- على عناصر مهمة جدا جعلتها عملا رائدا يعبُر الفنون المختلفة ويبعث فيها حياة جديدة باستمرار.
وتتمثل أول مستويات ريادة الرواية في بعدها الاستشرافي، فقد انطلقت من فرضية علمية كان العلماء يحلُمون بتحقيقها في مستقبل الدهر هي إمكانية نقل الأعضاء من جسد إلى آخر، وها نحن نراها اليوم تعبُر من الحلم إلى الحقيقة، لتجسد رغبة الإنسان -منذ عهود بعيدة جدا- في الحصول على إكسير الحياة وتحقيق الخلود.
أما ثاني مستويات هذه الريادة فيتمثل في موقفها الأخلاقي من عمل البحث العلمي على تجاوز القدرة البشرية وحدودها. فالرواية لا تخفي تعاطفها مع المسخ رغم ما ارتكبه من عمليات قتل، لكنها تُلمح إلى أن المجرم الحقيقي هو فيكتور فرنكنشتاين؛ فهو من تمرّد على قوانين الطبيعة، وهو المسؤول عن وجود ذلك المسخ وعزلته وشقائه. فتجعل مسار أحداثها عقابا له، وتدفعه إلى أن يعترف -وقد حاق به الشقاء وحانت ساعته- بأن حياة البشر أهم بكثير من أهداف العلماء الأنانية، ليطلب أخيرا من مرافقه أن يتعلم من أخطائه هو.
ومما زاد من قيمة الرواية؛ نبوءتُها بالجموح اللامتناهي للعلم، وتأكد ذلك في تعامل الباحثين مع الجسد، بدءا من الرغبة في تخليق نسخ مكررة من الشخص الواحد حين استنسخوا النعجة “دولي”، وصولا إلى ادعاء الطبيب الصيني “هي جيانكوي” المنتسب “للجامعة الجنوبية للعلوم والتكنولوجيا” في “شينزِن” بأنه ابتكر طفلين معدلين وراثياً، فكانت رواية “فرنكنشتاين” الصوت الأول الذي دعا إلى “تسييج” مباحث الجسد البشري بالأخلاق.
فرنكنشتاين.. العبور من الأدب إلى السينما
رغم ما ذكرنا من ريادة هذه الرواية، فإن مجدها الحقيقي لم يتحقق إلاّ بعدما عبَرت من الأدب إلى عامة الفنون؛ فقد اقتبسها المسرح لعشرات المرات، وأولهم “ريتشارد برنسلي بيك” سنة 1823 بعنوان “الفرضية أو مصير فرنكنشتاين”، ثم توالت اقتباساتها بعد ذلك، فعبَرت إلى المسلسلات التلفزيونية ثم إلى الفنون التشكيلية، وأضحت موضوعا للتطارح في البرامج الثقافية والندوات العلمية الدولية في عامة أنحاء أوروبا، كان آخرها في جامعة جنيف في ديسمبر/كانون الأول 2016 في ندوة علمية دولية بعنوان “فرنكنشتاين صانع الأنوار”.
أما في السينما فكان مسار الرواية أكثر إثارة للاهتمام، فقد اقتبسها المخرج “سيرل داولي” سنة 1910 في فيلم صامت يحمل عنوانها نفسه، وظلت إلى اليوم تلهم المخرجين حتى تجاوز عدد اقتباساتها إلى الشاشة الكبيرة الـ150 فيلما، فحقّقت نجاحات رهيبة على مستوى الإيرادات المالية وحطمت باستمرار الأرقام القياسية.
ولا غرابة في ذلك، فقد حقّقت كل هذا النجاح لأن تاريخ اقتباسها يمثل تاريخ السينما نفسها. فقد التجأت إليها السينما الصامتة والناطقة وسينما الأسود والأبيض وسينما الألوان، وواكبت مختلف تطوراتها التقنية من الأشرطة الممغنطة إلى الحوامل الرقمية وشملت مختلف أنماطها، كما كانت مدار اهتمام الأفلام الروائية والوثائقية والتجريبية.
خيال الرواية وتجسيد الفيلم
ولعل عرضنا لقصة فيلم فرنكنشتاين التي أخرجها “كينيث براناه” سنة 1994 بعنوان “فرنكشتاين” ومقتبسة عن ذات رواية فرنكنشتاين لـ”ماري شيلي” والتي لعب دورَيها الرئيسيين كل من “روبرت دي نيرو” و”كينيث براناه”.. لعله يبيّن تعامل السينما مع هذه الرواية، فهي من بين أنجح نماذج الاقتباسات المتكررة التي أمكن لنا مشاهدتها.
تعمل هذه النسخة على محاكاة النسخة الأدبية من جهة وتعمل في الآن ذاته على تجاوز سذاجتها على مستوى الحبكة والبناء بالربط بين أحداثها. فيتحدث القبطان “والتون” الذي يقود حملة استكشافية نحو القطب الشمالي إلى فيكتور فرنكنشتاين حديثا يأخذنا إلى طفولة فيكتور في جنيف ونشأته في ظل عائلته مع إليزابيث. وعبر “الفلاش باك” نعلم أن موت أمه دفعه إلى تحدي الموت وقهره، فقصد جامعة “أنغلوستا” للدراسة، ليجد أن السبيل الأمثل لتحقيق مراده هو خلق الحياة نفسها. وبالفعل يجمع أعضاء من جثث مختلفة ويؤلف بينها، ولكن ما إن ينتهي من تدبر مخلوقه ويمنحه الحياة حتى يعِي هول ما فعل. وبالفعل يتحرر المسخ من المختبر ويختفي في الغابة، وفيها يتعلم القراءة والكتابة.
ومما يحسب للفيلم إيجاده صلات بين الأحداث افتقدت إليها الرواية؛ فمن خلال مذكرات كان فيكتور قد كتبها وتركها في معطفه، يتعرف المسخ إلى كيفية صنعه، فيغضب ويعمل على الثأر من صانعه. وفي الأثناء يعود فيكتور إلى جنيف للزواج من إليزابيث، وتنطلق المرحلة الأولى من الانتقام فيقتل شقيقه ويليام ويتسبب في سَجن جيستين، ثم يحاول إرغامه على أن يصنع له زوجة من قطع من جسد جيستين. وحين يرفض فيكتور الخضوع تبدأ المرحلة الثانية من الانتقام؛ ففي ليلة زفافه يدخل غرفته ويُجْهز على إليزابيث وينتزع قلبها في مشهد فظيع، فيحاول فيكتور إعادة الحياة إليها بقطع من جسد جيستين، وتكون النتيجة جسدا مشوها يراه المسخ فيقع في غرامه ويريده لنفسه فيقتتل مع فيكتور لأجله، لكن إليزابيث تدرك أنها تحولت إلى وحش فتقرر أن تنتحر حرقا.
ثم تعود بنا الأحداث إلى الحاضر، فنعلم أن فيكتور المريض كان بصدد البحث عن المسخ، لكنه يلقى حتفه، ويبكيه المسخ، فهو صانعه وأبوه في نهاية المطاف، ثم ينتحر حرقا هو بدوره. وأمام هذا الهول يتراجع والتن عن مغامرته المزعومة إلى القطب الشمالي حماية لنفسه ولرجاله.
الوحش.. الإنسان وليس فرنكنشتاين
وتمثل هذه النسخة نموذجا من تعامل السينما مع هذه الرواية، ويعزى نجاحها -في تقديرنا- لسببين؛ جمالي ومضموني. فقد اشتملت على “كوكتيل منكّهات” يتطلع إليها المتفرّج قلّما تجتمع في أثر آخر؛ ففيها الحبكة المحكمة والحكاية العجيبة أو “الفانتازيا السينمائية”، وفيها المشهدية الآسرة الناتجة عن اعتماد المؤثرات السينمائية، وفيها المَكياج المبتكر والأداء التمثيلي المميز.
ولم يكن الجمالي فيها بمعزل عن المحتوى المضموني، فقد كانت تدعو إلى توظيف العلم للرقي بالجسد البشري وإلى الرفع من شأنه واكتشاف أسراره، وفي الآن نفسه تتخذ موقفا مناهضا لرغبة العلماء في التطفل على الخلق وعملهم على التدخل في تشكيل الجسد البشري تدخلا يغيّر من قدَره. ومن ثم كانت تبدي تفهّما للمسخ وتتعاطف معه، وتعتبر أنّ الوحش الحقيقي هو مُبدعه فرنكنشتاين.. أي الإنسان في النهاية.
فرنكنشتاين العربي في بغداد.. انتكاسة الجسد المقيّد
لا شك في أن في الأدب العربي أصداء للرغبة في الخلود وقهر الموت كما في “ملحمة غلغامش” أو مسرحية توفيق الحكيم “بغماليون”. ولكن هذا الهاجس ظلّ في حيّز الأشكال التقليدية ولم يتخذ شكل الخيال العلمي.
أما “ظاهرة فرنكنشتاين” فلا نكاد نجد لها حضورا في الثقافة العربية إلا في رواية العراقي أحمد السعداوي “فرنكنشتاين في بغداد” الحائزة على جائزة البوكر لسنة 2015، فقد زرع الروائي هذا “المسخ” في بيئة عراقية وأكسبه سماتها.
فبعد تفجير انتحاري يسعى “هادي العتّاك” لأخذ جثة الحارس “حسيب محمد جعفر” من المشرحة، فيجد بأن أجساد القتلى قد تشظّت وتداخلت. ولحل هذا الإشكال يطلب منه المسؤولون أن يختار ما يشاء من الأشلاء، فيفعل ويجمع بعضها إلى بعض، كما لو أنه طبيبٌ جراح، فيصنع منها مسخا.
لكن المسخ يكتشف صورته في المرآة حين لاحظ انعكاس وجهه على زجاجتها، وتفاجأ لأنها المرة الأولى التي يتعرف بها على نفسه؛ يتحسس غُرَزا على وجهه ورقبته، كان يبدو قبيحا جدا، ويقرر الانتقام، فيرتكب من الجرائم ما لا يُصدَّق، ويغتال شخصيات أمنية أمريكية وعراقية. وينشر تحقيقا حوله يجره إلى متاعب قضائية غير متوقعة.
على هذا النحو يتحول هاجس “ظاهرة فرنكنشتاين” من البحث في علاقة العلم بالأخلاق في الثقافة الغربية إلى طرح علاقة السياسة بالأخلاق حين يؤكد أحمد السعداوي -كاتب الرواية- في تصريحه لإذاعة مونتي كارلو الدولية يوم 29 حزيران/يونيو 2016 هذا المنحى، فيروي حادثتين أثّرتا فيه وألهمتاه كتابة الرواية:
الأولى إقدام عناصر من تنظيم القاعدة على قتل رجل وتقطيع أوصاله في مدينة بعقوبة الواقعة شمال شرق بغداد لجعل كل السكان يرون أشلاء الجثة في وقت واحد.
والثانية حدثت في أحد مستشفيات العراق في أحد الأيام أوان ذروة التصفيات المذهبية، يقول: جاء أحدهم يبحث عن أخيه فلان، فقيل له: إن جميع الجثث سُلمت إلى ذويها ما عدا هذه القطع. وبما أن جميع الأشلاء كانت متشابهة، لذا طلب منه أن يجمع منها جثة رجل ويأخذها.
ووجه التشابه في هذه الرواية مع مَنبتها الغربي أنها قامت على فكرة تشكيل الإنسان للجسد البشري والتحكم فيه، ولكنها للأسف اتخذت اتجاها آخر مفارقا، فلم تكن تمثّل أية استجابة لتطلعات أو بحوث علمية، ولم تنطلق من أية فرضيات تنتسب حتى إلى الخيال العلمي، ولم تعكس أزمة الضمير أمام جموح العلم كما هو الحال في الغرب، بل على النقيض شكلت نموذجا لواقع مأزوم يستهان فيه بإنسانية الإنسان في الوطن العربي الذي تُنتهك حرمة جسده من أجل إخضاعه والتحكّم فيه، وكثيرا ما يصل الأمر حدّ الاعتداء على حقه في الحياة أيضا.
فرنكنشتاين العربي.. مسخ تصنعه الأنظمة والسياسيون
ولمَ الخيال العلمي؟ فالواقع العربي أشد غرابة من الخيال نفسه؛ ألم يستعمل العلم أمصالا تذيب جثة المُعارض المغربي “مهدي بن بركة”؟ فوفق رواية شهيرة لعميل المخابرات المغربية السابق “أحمد بخاري” نُقلت جثة بن بركة فعلا صوب الرباط، حيث رُميت في حوض من أسِيد داخل أحد مقرات المخابرات السرية المغربية، فاختفى فيه إلى الأبد”.
وهل يختلف هذا المصير كثيرا عن مصير “جمال خاشقجي” الصحفي السعودي الذي أشرف خبير الطب الشرعي في بلده على تقطيع جسده؟
لعل الاختلاف الوحيد بين الدافعيْن أن فرنكنشتاين العربي ليس رجل علم، إنما رجل سياسة يستبد به عشق الكرسي فيحوّله إلى وحش مثير للرعب فيجعل الواقع أكثر غرابة من الخيال العلمي نفسه.
بهذا الفهم لتشكيل الجسد لن تكون رواية أحمد السعداوي صيغة يتيمة من فرنكنشتاين. فكثيرة هي الأعمال الفنية التي عرضت لنا الجسد العربي مشكلا بطريقة تخالف وجوده الأصلي حتى يفقد تقديره لنفسه فتسهل السيطرة عليه ويسهل تطويعه، فيظهر معذَّبا في السجون أو ممتَهنا فيها أو مغتَصبا.
وتنتشر هذه الآثار شرقا وغربا، من رواية “نيغاتيف” لـ”روزا ياسين حسن” التي تسلط الضوء على معاناة السجينات السياسيات في المعتقلات السورية، إلى “تلك العتمة الباهرة” للمغربي الطاهر بن جلون التي تعرض مأساة “عزيز بنبين” أحد المتورطين في انقلاب الصخيرات ضد الملك المغربي الحسن الثاني، وحتى “شرق المتوسط” لـ”عبد الرحمن منيف”.
ولعل هذا المقتطف من الرواية الأخيرة أن يكشف حجم الأذى الذي يتعرّض له الجسد العربي؛ ففيه يقول السجين “رجب”: “مدّدوني على الطاولة، كنت عاريا تماما، وجهي باتجاه الأرض، ورأسي يترنّح في الضربات، لا أعرف أي عدد من السجائر أطفؤوا في ظهري، على رقبتي، داخل أذنيّ وبين إليَتيّ، كانوا يضحكون أوّل الأمر وأنا أحاول الدفاع عن نفسي بساقي الطليقتين؛ رفست مرتين أو ثلاث مرات، ولما حاولت في المرة الرابعة حزموا رجليّ بقوة، وبدؤوا يصرخون: اعترف.. اعترف يا ابن الزنى”.
ولهذا الجسد أن يحضر مدمرا معلقا في حبال المشانق أو ممزقا بفعل سيوف الجلادين. فيعرض مصطفى خليفة في رواية “القوقعة” بعضا من مشاهده. فقد كانوا يثبتون الحبل حول الرقبة جيدا ثم يسحبون المشنقة من الخلف ليرتفع المحكوم عليه وتتدلى رجلاه في الهواء، وبعد أن يلفظ الروح ينزلونه إلى الأرض.. البعض كانت ترتخي لديه مصرتا البول والبراز، والشرطة في هذه الحالة ينزعجون كثيرا فالرائحة لا تطاق، فيشتمون ويضربون الشخص الذي عملها.
ولأن السينما فنّ مشهدي أساسا بدت فيها وحشية فرنكنشتاين العربي أكثر بروزا. ولنا أن نذكر منها فيلم “وراء الشمس” للمخرج محمد راضي أو “صفائح ذهب” للتونسي النوري بوزيد أو “درب مولاي الشريف” لحسن بنجلون أو “جوهرة بنت الحبس” لسعد الشرايبي.
ولعلّ فيلم “الكرنك” المقتبس عن رواية نجيب محفوظ يكون أبرز هذه الأفلام وأكثرها تأثيرا في المتفرّج. فقد أمعن مخرجه علي بدر خان في فضح ممارسات جهاز المخابرات والأجهزة الأمنية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ضد المعارضين السياسيين كتلفيق الاتهامات والقضايا للطلبة والمثقفين، والإمعان في تعذيب المعارضين جلدا بالسياط وصعقا بالكهرباء واقتلاعا للأظافر وهتكا للأعراض، وبعد أن يضمنوا تدمير اعتدادهم بأنفسهم، يجبرونهم على التجسس على رفاقهم وكتابة تقارير عن أنشطتهم، كشأن زينب التي تحولت بعد اغتصابها من طالبة ثورية إلى مومس وجاسوسة تسترق السمع في مقهى الكرنك لتشي برفاقها، فكانت تُصعّر لهم خدّها وتتسلى بكتابة اسمها ثم تشطبه، وكانت الكاميرا تلتقط حينها وعْيها الباطن بكونها تدمّر هُويتها وتتقمص ذاتاً أخرى غريبة عنها.
ثم ظهرت موجة باتت تعرف بـ”الكرنكة” تفيد السير على نهج فيلم الكرنك في عرض الجسد المهان المعذّب؛ فقد وَجدت السينما في مشاهد التعذيب من الفظاعة ما غذّى تطلعها المستمر للمشهدية واستجابة لانتظارات المتفرج المتشوّق لمعرفة ما يجري في زنزانات حُكّامه.
ظاهرة فرنكنشتاين.. الوجه والقفا
لـ”ظاهرة فرنكنشتاين” وجه وقفا؛ فالوجه يتمثل في أنها موضوع بحث جمالي يجعلنا نتساءل عن مأْتى السحر في حكاية المسخ التي ظلّت تَشد قُراء الرواية الغربيين لأكثر من مئتي سنة، وعَبرت بعد ذلك إلى السينما والتلفزيون والمسرح العالمي لتشغل المتفرّجين، لكنها لم تكد تعبر إلى الساحة الفنية العربية لخصوصية الطرح الذي ميّز رواية “فرنكنشتاين في بغداد”، مما يدفعنا إلى التساؤل عن سبب العزوف العربي عن هذه الرواية.
وأما القفا منها فيتمثل في بحث حضاري يدفعنا إلى المقارنة بين نزعتَي الثقافة الغربية والثقافة العربية إلى إعادة تشكيل الجسد، وهنا يكمن وجه المفارقة. فالنزعة الأولى تتوق إلى كماله وتريد له القدرات الخارقة التي تتجاوز الحدود البشرية، وتبحث عن الإجابة العلمية لفكرتَي الخلود وإكسير الحياة اللتين لازمتا الإنسان منذ أن أغوى إبليسُ آدم وحواء بالأكل من الشجرة المحرّمة، ونجمت مشاكل هذه النزعة من الاختلاف في كيفية بناء هذا الإكسير. ورغم تجاوزات العلماء وجموح أبحاثهم، ظلت القيم تتدارك الأمر وتحاصر مختلف مظاهر مُروق العقل، فكانت تجعل من فيكتور فرنكنشتاين -صانع البشر- وحشا آدميا.
وأما النزعة الثانية فتعمل بدورها على إعادة تشكيل الجسد تشكيلا يخالف صيغته الأصلية في الطبيعة وفي الكون. ولكن المشكّل لم يكن إنسانا عالِما، وإنما صاحب السلطة. فليس هدفه الارتقاء بمنزلة الجسد، بل العمل على خنق نفَسه التحرري، لذا كان يسعى دائما إلى قهره والعمل على الحد من قدراته. والسياسي هو الوحش الحقيقي الذي يجمع بين مسخ فرنكنشتاين وصورة “دراكولا” مصاص الدماء، فكل مشاكل الحضارة العربية من تبعات وحشيته.
ولم يكن واقع الأوطان يختلف كثيرا عن واقع الأفراد، فالحضارة الغربية تنصرف إلى البناء والتعمير، أما أغلب الدول العربية فتنخرط في حروب أهلية مدمرة كما في اليمن وسوريا والعراق والصومال وليبيا اليوم.
ليذهب فرنكنشتاين.. ولْيأت الحصار
ماذا يمكنني أن أفعل وقد تسلل ذلك المسخ إلى مكتبي ليسألني أن أكلم القارئ العربي باسمه وأن أقف موقف ماري شيلي وأن أصوّره ضحية لتوحش الساسة هنا بعد أن كان ضحية العلماء هناك.
الساسة؟ وما هميّ أنا فيما يفعله الساسة؟
ولأتخلص من هذه الورطة أجبته شعرا صغته محاكاة ساخرة من قصيدة محمود درويش “أحمد الزعتر”، فقلت:
حين يناديك الحاكم ككل يوم:
“أنا فرنكنشتاين العربي فليأت الحصار”
فلا تُشح بوجهك ولا تطأطئ الرأس.. أجِبه:
جسدي هو الأسوار فليأت الحصار..
وأنا حدود النار فليأت الحصار..
وأنا أحاصركم..
أحاصركم..
وصدري بابُ كلّ الناس..
فليأت الحصار.