فيلم “طفيلي”.. إني نذير لكم بين يدي ثورة طبقية

خالد عبد العزيز

قبو مُظلم لا تُضيئه سوى إنارة خافتة، ينبثق أحد الأصوات قائلاً “كيف تعيش في مكان كهذا؟” فيجيب الصوت الآخر “الكثير من الناس يعيشون تحت الأرض.. خصوصاً إذا أخذتَ السراديب في الاعتبار أيضاً”.

بهذا الحوار التلقائي يؤسس المخرج الكوري الجنوبي “بونغ جون هو” عالم فيلمه الأخير “طفيلي” (Parasite) (2019) الذي حصد جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ72، ليبدو مضمون الفيلم مهموما بالتعبير عن التغيرات الاقتصادية العالمية وفي كوريا الجنوبية تحديداً، وملامح هذا التطور المذهل على الأفراد وتحديداً الفقراء منهم، مُعبراً بذلك عن حقيقة قد لا تبثها شاشات التلفزيون أو حتى التقارير الاقتصادية عن آثار هذا المنحى الاستهلاكي الضاغط على الفقراء، حتى يكاد يدهسهم ويأسرهم في أسفل قاع المجتمع، في مقابل صعود طبقات أخرى تكتسب المزيد من الثروة، وذلك في إدانة واضحة لسياسات عالمية لا تعنيها إلا مصلحة الأثرياء، وبشكل كاشف لخبايا مجتمع مُغلق نوعاً ما كالمجتمع الكوري.

يستكمل المخرج “بونغ جون هو” في هذا الفيلم ما بدأه في فيلمه السابق أوكجا (Okja) (2017) الذي عرض في مهرجان كان أيضاً، حيث يُقدم تشريحاً للمجتمع الكوري الجنوبي، ويثير سياسات ما بعد الحداثة وكيف انقسم العالم إلى شقين؛ الأول لا يعتد إلا باكتناز الثروة، والآخر لا يعمل إلا من أجل زيادة قوة وثراء الطرف الأول.

في “طفيلي” نرى ملمحاً مشابهاً ولكن بإطار مختلف، حيث يُقدم الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء في قالب درامي لا يخلو من طرافة وخفة دم، من خلال قصة الفيلم التي تدور حول “كي وو” (الممثل تشوي هو شيك) الشاب العاطل عن العمل، حينما تسنح له فرصة تدريس اللغة الإنجليزية لابنة إحدى الأسر الثرية، ليبدأ بعدها في ممارسة الاحتيال، حتى يتمكن من إلحاق باقي أسرته بالعمل لديهم.

 

أسفل سافلين.. عالمان متضادان

يبدأ الفيلم بمشهد تأسيسي، تُركز فيه الكاميرا لثوانٍ على النافذة العلوية لمنزل عائلة “كيم كي تيك”، تلك النافذة التي يصل حدها العلوي لمستوى أرضية الشارع، ثم تبدأ الكاميرا في الهبوط تدريحياً نحو الأسفل لنرى الابن “كي وو” وهو يبحث بهاتفه المحمول عن إشارة إنترنت جارتهم العلوية التي فقدها للتو، بعد أن قامت السيدة بتغيير رمز الدخول، لنجد أن هذا المشهد ما هو إلا استهلال ومدخل لعالم الفيلم. عائلة فقيرة تُعاني من البطالة ولا يعمل أحد منها، تعيش في قبو أحد المنازل.

اختار السيناريو أن يكون مكان الأسرة في الأسفل، في إشارة واضحة لوضعهم الاجتماعي الذي لا يخلو من مأساوية واضحة، يُمارسون حياتهم على الكفاف وفي حده الأدنى، نلمح إشارات سابقة لتاريخ قديم عن العائلة التي يبدو وضعها سابقاً في حدود أفضل نوعاً ما، ففي أحد المشاهد تلتقط الكاميرا إحدى ميداليات التكريم الرياضية التي حصلت عليها الأم كلاعبة رياضية سابقة لألعاب قوى.

 

عِلية القوم.. الحاجة الأبدية للفقراء

في مقابل العالم الأول خلق السيناريو عالما آخر يتضاد مع هذا العالم، وهو الأثرياء أو عائلة “دونغ إيك”، تلك العائلة الثرية التي تعيش في أحد القصور الفاخرة، فقد جعل السيناريو مكان القصر في مكان ما على ربوة عالية بشكل تصاعدي، ففي أحد المشاهد نرى ابن العائلة الفقيرة “كي وو” وهو يصعد الشارع المرتفع إلى حد ما حتى يصل إلى القصر، وحينما يصل إلى المنزل يتملكه الذهول بسبب المساحة الشاسعة التي يقطنها هؤلاء على عكس القبو الذي يقبع فيه مع أسرته، في تضادٍّ واضح بين منزله ومنزل الأثرياء.

يتداخل العالمان معاً ويتقاطعان، فالفقراء والأثرياء كل منهما يحتاج للآخر، وإن تفاوتت درجة الاحتياج، الأسرة الثرية تحتاج للشاب “كي وو” الفقير لتدريس اللغة الإنجليزية لابنتهم، والأسرة الفقيرة في حاجة للعمل لدى الأسرة الثرية، فكل عالم قائم على أكتاف الآخر، بشكل يجعل الفكاك من أسْر كل منهما للآخر يكاد يبدو مستحيلاً، وكأن الفيلم يُقدم رؤية مصغرة للعالم بوضعه القائم وفي صورته الرأسمالية الحديثة.

السيد بارك الثري يُهامس زوجته ويخبرها بأن من يستقلون الأنفاق لديهم رائحة تختلف عن رائحتهم

 

نهب الحقوق.. مخلفات النظرة الدونية

تتفق السيدة “بارك” الثرية (الممثلة شو يو يونغ) مع الشاب “كي وو” على القيام بالتدريس لابنتها بأجر أكبر من أجر المعلم السابق، بحجة زيادة نسبة التضخم الاقتصادي، لكننا نراها في أحد المشاهد وهي تقتطع جزءاً من المبلغ، لنكتشف أنها تخدعه ولا تعطيه حقه المتفق عليه، في إشارة لما يفعله الأثرياء حيال الفقراء من نهبٍ لحقوقهم.

لقد جعل السيناريو الأثرياء ينظرون للفقراء بنظرة دونية نوعاً ما، وكأنهم ليست لهم أي حقوق، أو كأنهم يتمنون زوالهم حتى تستقيم حياتهم. ففي أحد المشاهد نرى السيد “بارك” الثري (الممثل لي سن كيون) وهو يُخبر زوجته بأن من يستقلون مترو الأنفاق تصبح لديهم رائحة تختلف عن رائحتهم، وكلما تصاعد السرد كلما اتضحت تلك النغمة الاستعلائية حتى تصل لقمتها مع نهاية الفيلم.

الأسرة الفقيرة بعد هروبها من منزل الأسرة الثرية والأمطار تتساقط عليهم

 

جماعة من البلهاء السذج.. استغلال الثقة

في مقابل خداع الثرية “بارك” نجد الشاب “كي وو” يحتال ليجلب شقيقته “كي جونغ” للعمل لدى الأسرة الثرية، فنجده يقترحها للعمل كمعلمة فنون لابن السيدة “بارك”؛ يُقدمها وكأنها زميلة صديقه، وتستمر سلسلة الاحتيالات التي لا تنتهي حينما تقترح شقيقته تبديل سائق السيد “بارك” بوالدها، وبالطبع هي لا تبدي أنها تعرفه أيضاً، وهكذا حتى نصل للذروة مع اقتراح الأم للعمل بدلا عن مدبرة المنزل.

كل هذه الاحتيالات تأتي بعد ترتيب وتخطيط من الأسرة الفقيرة، لتبدو نظرتهم للأسرة الثرية وكأنهم جماعة من البلهاء يُصدقون كل ما يُقال لهم دون لحظة تفكير واحدة، ففي أحد المشاهد نرى الأب الفقير يصف الأغنياء وكأنهم سُذج لا يفقهون شيئاً.

وعلى الناحية الأخرى نجد السيدة “بارك” تُخبر المعلمة “كي جونغ” بأن الاقتراحات الأخيرة لتغيير طاقم العمل هي الأنسب لأنها نابعة من الثقة الشديدة، فكل أسرة تنظر للأخرى نظرة مُغايرة للواقع والحقيقة، بشكل يدفع الأحداث للأمام، ويطور القصة بشكل تصاعدي نحو عقدة السرد، فكلما ازدادت ثقة الأسرة الثرية تمادى الطرف الآخر في الاحتيال، وتعقد الوضع أكثر.

 

لعبة القط والفأر.. الوقوع في المصيدة

جعل السيناريو الصراع الدرامي يسير بشكل دائري، صراع طبقي بين الأثرياء والفقراء، لكنه هنا ليس بصورته التقليدية، فالحبكة تقوم على الطرافة، عبر تقديم أسرة تحتال على أخرى لضمان أبسط سُبل العيش. قدّم السرد هذا الاحتيال بشكل تصاعدي، فكل حيلة تقود إلى أخرى، وكل شخص يجذب إلى آخر وهكذا، الابن “كي وو” يبدأ هذه السلسلة، ثم يُمررها لشقيقته التي تلتقط طرف الخيط، وتدفع به نحو الأب الذي بدوره يُنهي الدائرة عند زوجته، وبذلك تقع العائلة الثرية في شباك هذه الأسرة المحتالة.

احتوى السيناريو على العديد من نقاط الحبكة التي تدفع الأحداث بأسلوب تصاعدي نحو مزيد من الصراع الذي يجذب المتفرج بشكل يجعله يلهث وراء الأحداث، وبشكل يجعل الفيلم فريداً وشديد الجاذبية، خاصة مع معالجته الدرامية الخارجة عن المألوف ومضمونه الهام.

تُقرر الأسرة الثرية السفر في رحلة إلى الريف ليصبح المنزل فارغاً، وهنا تنتقل الأسرة الفقيرة للعيش مؤقتاً في القصر، لتأخذ الأحداث منحى آخر، خاصة مع الزيارة المفاجئة لمدبرة المنزل السابقة، لنجد أن السيناريو يستمر في كشفه شيئاً فشيئاً عن رؤيته للعلاقة بين الأثرياء والفقراء، ونظرتهم لبعضهم البعض، ففي أحد المشاهد نرى مدبرة المنزل القديمة وهي تفتح باباً سرياً يقود نحو قبو في الأسفل لا يدري عنه أحد شيئاً، ويختبئ بداخله زوجها الهارب من الديون، فالجميع يستغل سذاجة هذه الأسرة، وكلهم يستغلون بعضهم البعض.

الأسرة الثرية بعد عودتهم من رحلتهم يجلسون ويتحدثون عن امتعاضهم من الفقراء

 

صراعات الفقراء.. القتال على جبهتين

مع عودة الأسرة الثرية المفاجئة للمنزل يأخذ السرد طابعاً يميل نحو المغامرة أكثر فأكثر، ليصبح الصراع على جبهتين؛ الجبهة الأولى تتمثل في الصراع الأساسي التقليدي بين الأثرياء والفقراء، وخشية أن يُكتشف أمر الأسرة المحتالة، والجبهة الأخرى هي الصراع بين الفقراء أنفسهم؛ صراع بين مدبرة المنزل القديمة التي تُهدد وجودهم خاصة بعد اكتشافها لاحتيالهم، وبين الأسرة الفقيرة من جهة أخرى.

لكل طرف من الفريقين مُبرراته التي تجعله يُمارس الكذب والاحتيال على الأسرة الفقيرة مدبرة المنزل السابقة التي تُخفي زوجها في القبو هرباً من الديون بعد خسارة متجره وتعرضه لأزمات مالية، والأسرة الفقيرة التي لا تجد عملاً، فكلهم في الهم سواء.

قد يبدو الفيلم وكأنه يُقدم مُبررات لأفعال شخصياته المُحتالة، وهذا صحيح نوعاً ما، مع الأخذ في الاعتبار أنه يخلق نوعاً من التعاطف معهم، لكن هذه التبريرات تحوي بداخلها نظرة كاشفة لوضع قائم لا يعتد إلا بالأثرياء على حساب الفقراء.

“كي وو” وشقيقته يبحثان عن شارة الإنترنت في القبو الذي يعيشان فيه

 

“كي وو”.. المبتدأ والمنتهى

يبدأ الفيلم باكتشاف “كي وو” فقدان إشارة الإنترنت، فقد اختار السيناريو أن يتخذه الشخصية الرئيسية التي ينطلق السرد منها وينتهي عندها، فعلى الرغم من أن الفيلم يقوم على البطولة الجماعية لممثليه، لكن التغير والتحول المفاجئ للعائلة يأتي من خلاله هو.

قد يبدو “كي وو” وكأنه مفعول به، والسبب في ذلك وضعه الاجتماعي، لكنه فاعل أيضاً، فبداية التبدل والتطور للشخصيات تنبع عبر شخصيته، بحيث يُمثل هو القوة الدافعة للأحداث، وبالتالي فقد اعتنى السيناريو برسم شخصيته وملامحها بشكل مُتقن ووافٍ، على خلاف باقي الشخصيات التي بدت -رغم بنائها الجيد- في مستوى لا يماثل مستوى بناء شخصية “كي وو”، فدوافعه واضحة ومُبررة، وكذلك أفعاله وردودها.

رسم السيناريو شخصية “كي وو” -رغم معاناتها وعدم إكمالها لتعليمها- شخصية تحمل بداخلها حلماً بالصعود والترقي الاجتماعي، ففي أحد المشاهد نرى “كي وو” وهو يُخبر والده بأنه سيدرس العام القادم في جامعة أكسفورد، فقدرته على الاحتيال ما هي إلا وضع مؤقت، كما أن ضميره يبعث إليه بتساؤلات مستمرة عن جدوى أفعاله.

لنراه في مشهد آخر -بعد تعقد الأحداث وهروبهم من منزل الأسرة الثرية خشية انكشاف أمرهم- يعتذر لوالده، فهو يرى نفسه المسؤول عن مصيرهم المُتّجهين نحوه لا محالة، إذ أنه هو الذي بدأ بالاحتيال على الأسرة الثرية لتوظيف باقي أفراد أسرته، حتى نصل إلى النهاية التي تنتهي أيضاً عند “كي وو” وهو يكتب خطابا طويلا لوالده مُعتذراً عما آلت إليه حياتهم، لينتهي الفيلم من زاويته هو الكاشفة لما جرى.

 

قاذفة صواريخ.. لمسات الحداثة في الفيلم

كان الفيلم حافلا بالكثير من دلالات العصر الحديث أو عصر ما بعد الحداثة، مثل المجمعات السكنية أو الأماكن السكنية المنعزلة حيث يقع قصر الأسرة الثرية، لكن أفضل ما تم التعبير عنه من ملامح هذا العصر هو القوة الهائلة للتكنولوجيا والإنترنت، وكيف يُمكن أن تصبح سلاحاً يواجَه به.

فعندما تكتشف مدبرة المنزل السابقة حقيقة الأسرة الفقيرة المحتالة، تُمسك بهاتفها المحمول، وتصور الأسرة معاً، وتُهددهم أنهم إذا لم يستجيبوا لمطالبها بالسماح لها بالوصول إلى القبو حيث يرقد زوجها بالأسفل، فإنها سُترسل الفيديو المصور إلى الأسرة الثرية، لنجد زوج مدبرة المنزل وهو يُمسك بهاتفه المحمول في وضع التصويب وكأنه قاذفة صواريخ.

أما على مستوى الصورة فقد تم التمييز بين الأسرة الثرية والفقيرة، فنرى الإضاءة التي تُضيء قبو الأسرة الفقيرة تبدو أكثر بريقاً وفاتحة نوعاً ما في أغلب مشاهدها، في مقابل القصر ذي الإضاءة القاتمة الخافتة، بالإضافة إلى الرمز المكاني للقبو ومن فوقه القصر، في إشارة للوضع الطبقي بين الأثرياء والفقراء، وكأن الأثرياء يرقدون ويجثمون على أجساد الفقراء.

 

ميلودراما الثورة الكامنة.. هل من مجيب؟

تم التعبير في الفيلم أيضا عن حالة الحصار التي تعيشها الأسرة الفقيرة عبر وضعهم في تكوين محصور بين إطاري النافذة، ففي مشهد الشجار بين مدبرة المنزل القديمة وزوجها من جهة، والأسرة الفقيرة من جهة أخرى تبتعد الكاميرا تدريجياً إلى الخلف، ليتسع الكادر ونراه من بين إطاري النافذة، فالجميع يُعاني لدرجة الاقتتال فيما بينهم بشكل مأساوي، في إشارة رمزية لصراع الطبقات الأدنى فيما بينها على الحياة، في ظل وضع اقتصادي لا يرحم.

ومع تطور الأحداث يأخذ الفيلم طابعا مغايرا عن أسلوبه الطريف، فيتحول إلى الميلودراما دون أن يفقد السيناريو تماسكه، خاصة بعد مقتل السيد “بارك” على يد رب الأسرة الفقيرة، وكأن هذه الحادثة تُشير إلى ثورة مُستترة ضد الأثرياء الذين لا يعنيهم سوى أنفسهم.

وبذلك يصبح الفيلم وثيقة شديدة اللهجة ضد نظام عالمي جديد ضاغط وخانق، يكبت الفقراء في مقابل مجال مُتسع الأجواء لمزيد من الثراء لطبقات محددة.. فهل من مُجيب؟


إعلان