“غزة”.. انتصار آلة الموسيقى على آلة الحرب

قيس قاسم

ينشد الوثائقي الأيرلندي “غزة” الاختلاف والتميّز عن بقية الأفلام الأجنبية التي رصدت أحوال المدينة، فغالبيتها تركّز على نقل الخراب والدمار والموت الذي خلّفته الحروب التي شهدتها، فيما أراد صانعا هذا الفيلم “جاري كين” و”أندري مكانيل” تقديم صورة عن حياتها اليومية، ونقل رغبة سكانها في أن يعيشوا كما تعيش بقية مدن العالم بسلام، دون السقوط في دعائية متعاطفة، أو تكرار صورة نمطية لها تُغيِّب وجود حياة عادية فيها، وتُصورها كأنها “مقبرة” للأحياء.

الاختلاف المنشود ليس سهلا، فنقل يوميات وتفاصيل حياة مدينة مثل غزة التي لم تغب عن جسدها الدامي والممزق آثار الحروب المتتالية؛ يتطلب الاقتراب أكثر من سكانها لرصد كل زاوية من زواياها. إنه تحدٍّ سينمائي يكمن في تجنب الخروج بمنجز سياحي لا يمتّ بصلة إلى حقيقة ما تعانيه المدينة وأهلها من مشاكل اقتصادية خانقة ومواجهات دائمة مع عدو يُحاصرهم ويواجه احتجاجاتهم بالرصاص، فكان عليه التوازن بين نقل حياتهم اليومية، وبين رصد ما يعانونه عبر الملازمة الطويلة، وخلق الثقة اللازمة بين كاميرا الفيلم وبينهم.

حرص المخرجان على تحقيق معادلة أخرى مهمة عنوانها الحفاظ على الجماليات السينمائية، فهما يعرفان جيدا أن نَصَّهم بدونها يغدو مملا تنقصه المتعة البصرية. وقد تحقق هذا الشرط بجدارة، فانعكست جودة العمل في دعوته للمشاركة في أكبر المهرجانات السينمائية، ومن بينها “مهرجان سندانس الدولي”، كما انعكست في المديح النقدي الذي قُوبل به بعد عرضه مباشرة.

 

غزة والبحر.. الحياة من عيون الأطفال

انطلق الوثائقي من البحر بوصفه المصدر الرئيس لعيش سكانها، لكنه لم يدخل مباشرة في تعقيداته، وترك ذلك يأتي في سياق زمني متسلسل، عبر أحاديث الشخصيات التي اختارها لنقل مشهد واسع من حياة مدينة لا يرضى أهلها أن يُصوَّروا للعالم وكأنهم لا يعرفون في هذه الدنيا غير الحروب والقتال. ثمّة حياة أخرى وأحلام كبيرة لعيش حياة أفضل من تلك التي يعيشونها الآن، فكان لزاما على صُناعه نقل كل تلك التفاصيل وطرق التشبث بها، وذلك لمتفرج ربما لا يعرف الكثير عن غزة وأهلها.

يُخصص فيلم “غزة” مساحة كبيرة من زمنه لأطفالها، فمن خلال هؤلاء يمكن معرفة ما ينتظر المدينة من مستقبل، حيث يُقابل صبيا في الـ14 من عمره اسمه أحمد، ويظل معه حتى النهاية، كما سيفعل الشيء نفسه مع بقية الشخصيات، يقابلهم ثم يتركهم بُرهة من الزمن إلى أن يعود إليهم مرة أخرى.

يحب الصبي الفلسطيني البحر، ويقضي معظم وقته على ساحله حيث يسبح فيه مع أصدقائه، ويحلم أن يصبح يوما ملّاحا وصيّادا محترفا يعيل أهله ويوفر وظائف على مركبه لكل أصدقائه وأقاربه.

تأسف لنظرة الآخرين إليهم من زوايتهم الخاصة، فهم يرون في سكان غزة ما يريدون هم رؤيته

 

مقبرة الأحياء.. الصورة النمطية المُروَّجة

تحب الشابة “كرمة” الموسيقى وتعزف على آلة التشيلو، وتجد في البحر مُتنفَّسها، فهو بالنسبة إليها نافذتها على العالم، كما أنه يكسر الحصار المفروض عليها وعلى مدينتها.

الطالبة الجامعية تُجيد التعبير عن مشاعرها باللغة الإنجليزية، فهي تُوصل بها غضبها الناتج عن تصوّر العالم الخارجي لهم، وكأنهم فقط يعيشون حالة حرب دائمة ولا يعرفون شيئا غيرها، وكأنهم بدون طموحات ولا أحلام ولا يفكرون بالمستقبل.

إنها تأسف لنظرة الآخرين إليهم من زوايتهم الخاصة، فهم يرون في سكان غزة ما يريدون هم رؤيته. وهو ما يحتاج -بالنسبة إليها- إلى إعادة نظر بشكل أعمق يتجاوز حالة التعاطف إلى حالة التعايش، ومعرفة حقيقة ما يطمح له الفلسطيني.

المُصوّر “محمود” تجربنه شديدة الدلالة، فهي توجز محاصرة إسرائيل للفنان الفلسطيني

 

مقاومة الفن.. شمس لا تغيب

الفن حاضر في مدينة يعيش على مساحتها الصغيرة أكثر من مليوني إنسان، فالفن بالنسبة لمحبيه ليس ترفا، بل وسيلة للتعبير عن معاناة الناس ومقاومتهم لعدوهم الذي لا يميز بينهم، فجميعهم بالنسبة إليه قتلة وإرهابيون.

تجربة المُصوّر “محمود” شديدة الدلالة، فهي توجز محاصرة إسرائيل للفنان الفلسطيني. انتقل محمود من الأردن إلى قطاع غزة، وعاش بين أهله وأقربائه، كما عمل مُصوّرا ونظّم دورات لهُواة التصوير، وعاش في عالم التصوير حياة طيبة لكن الحرب أوقفتها، فاستشهد له فيها أصدقاء وأصيب آخرون إصابات جسدية خطيرة، ليترك في النهاية مهنته وفنَّه بسبب الظروف التي أعقبت حرب 2014، والتي لم تعد مُناسبة لممارسة ما كان يحبُّه من فنّ.

مغني الراب الذي اقتنع بعد كتابته أغاني “راب” أدّاها بنفسه أن الكلمة بحق هي أقوى من الرصاصة

 

إيقاع “الراب”.. حين تصبح الكلمة أقوى من الرصاص

إن قصة مغني “الراب” مؤثرة، فالصبي الفلسطيني سمع يوم كان عمره عشر سنوات بوجود أغاني يُطلق عليها “الراب”، لكنه لم يفهم ماذا تعني بالضبط. وفي سن الـ16 أطلق الجنود الإسرائيليون النار عليه، فعطّلوا أجزاء من جسده، لكنه اكتشف أهمية الكلمة للتعبير عن أوجاعه، فزادت قناعته بعد كتابته أغاني “راب” أدّاها بنفسه أن الكلمة بحق هي أقوى من الرصاصة.

يُقابل الوثائقي ممثلا مسرحيا يعشق التمثيل، ويجد فيه خَلاصا لقلقه وعذابه، وأيضا وسيلة لنقل ما يُعانيه سكان قطاع غزة والشعب الفلسطيني بأكمله من آلام على خشبة المسرح. على كل جدران المدينة تقريبا يرسم الموهوبون تشكيليا رسومات تعبيرية، ويخطّون شعارات سياسية بأحرف فنية جميلة تعكس ما في داخلهم من جمال وإصرار على قول كلمتهم بكل السبل والأشكال.

الشريط يعرض حركة الناس وتجوالهم في أرجاء المدينة أو قرب سواحلها،

 

عروض الأزياء.. طيور متشبثة بالتحليق في مدينة مُحاصرة

عبر مرافقته لسائق سيارة أجرة يشرب قهوته كما اعتاد يوميا على ساحل البحر، يستكشف المُشاهِد تفاصيل المدينة التي تشبه إلى حد بعيد بقية مدن فلسطين من حيث العمارة وتصميم الشوارع والأزقة. فمظاهر مشاركة الناس أفراحهم مع أحبّتِهم في حفلات الزواج وغيرها سهلة الرصد، كما بقية جوانب التشبث بالجمال والفرح.

يقابل صانعا الفيلم سيدة تُنظم عرضا للأزياء البدوية التقليدية، فرؤيتها منذ الطفولة وإعجابها بخِياطة وتطريز ملابس جدتها ألهمها فكرة إعادة “عصرنتها” لتناسب أذواق الشابات الفلسطينيات. الإقبال على أزيائها جيد، والعروض الخارجية لتقديمها في معارض مختصة ليست قليلة، لكنها تعجز عن تلبيتها بسبب الحصار الخانق على غزة.

طيلة زمنه يعرض الشريط حركة الناس وتجوالهم في أرجاء المدينة أو قرب سواحلها، في مَشاهد عامة لحياة سوية لا تُخفي الأجزاء القاسية منها، والتي ستجرّ الوثائقي إليها وتعرض عليه حقيقة ما تعانيه المدينة المحاصرة، والتي يُراد لأهلها الموت اختناقا.

بالنسبة لصيادي غزة فلم يعد البحر مصدرا لرزقهم، ولا مكانا آمنا من شرّ عدوهم

 

بحر غزة الأبيض.. نافذة العالم المُرّة

البحر الذي قالت عنه الشابة “كرمة” في مفتتح الوثائقي بأنه نافذتها على العالم، عادت ووضحت الجانب المُرّ فيه، فهو وبسبب الحصار يُصرّ على تذكيرهم بواقعهم المرير، وبأنه -رغم انفتاح أفقه ظاهرا- مُحرّم لا يمكنهم الوصول إليه. إنه أفق مسدود يُرسم أمام مصائرهم واضعا حدّا لحريتهم.

أما بالنسبة لصيادي غزة فلم يعد البحر مصدرا لرزقهم، ولا مكانا آمنا من شرّ عدوهم، وهو الأمر الذي يتطرق له الوثائقي عبر الغوص بالتدريج إلى أعماقه، لينقل حقائق للعالم تكشف عن حجم الحصار المفروض على المدينة. يشرح أحد الصيادين كيف أن السلطات الإسرائيلية حدّدت مساحة ضيّقة من البحر لا تتجاوز ثلاثة أميال بحرية يمكن للصيادين الفلسطينيين الإبحار فيها، ومن يتجاوزها يتعرض للسجن والتوقيف.

أحاديث الصيادين توضح حقيقة أن كمية الأسماك في المنطقة الضيقة قلّت مع الوقت، وما عاد البحر كما كان مصدرا للرزق منذ آلاف السنين، بل أصبحت مياهه -شأنها شأن اليابسة- خطيرة على حياتهم، إذ قد يؤدي أي إبحار عن طريق الخطأ إلى موتهم، فدوريات خفر السواحل الإسرائيلية لا تتردد بإطلاق النار على التائهين من الصيادين أو الغافلين عن نقاط الحدود “الوهمية”.

خيّاط يحاول تدبير أمور معيشته من آلة خياطة بسيطة، فأكبر همومه متمثلة في طول ساعات انقطاع التيار الكهربائي عن محله

 

أمل في فتح المعابر.. مهن على وشك الانقراض

على اليابسة ومن خلال سائق سيارة أجرة يتعرف مُشاهِد الوثائقي الأيرلندي على مدينة فلسطينية، يتمثل الاختلاف الأكبر بينها وبين بقية مدن العالم في كون سكانها محاصرين، فإغلاق المعابر التي تربطهم ببقية العالم من بين أكبر مشاكلهم. وبعد أن أُغلق البحر أمامهم ضاقت مساحات تحركهم وقلّت مصادر رزقهم على الأرض.

يرافق صانعا الفيلم خيّاطا يحاول تدبير أمور معيشته من آلة خياطة بسيطة، فيخبرهم بهمومه المتمثلة في طول ساعات انقطاع التيار الكهربائي عن محله، وشُحّ المال عند أهل غزة، والذي غدت الخياطة بسببه مهنة منقرضة تقريبا.

نعود إلى الماضي الجميل يوم كان بمستطاع الغزاويين شراء ملابس جديدة، أما اليوم فبالكاد يتبدر سكانها معيشتهم، وكلهم أمل في فتح المعابر وفك الحصار.

وجود الوثائقي في 2018 تصادف مع اندلاع أكبر مواجهات مع الجنود الإسرائيليين منذ حرب الخمسين يوما عام 2014

 

فيلم “غزة”.. مأساة مدينة ترفض الموت

يوازن الوثائقي بدقة بين عرضه الواقعي لرغبة أهالي غزة في مواصلة حياتهم العادية، وبين كشفه الذكي عن مشاكلهم المتفاقمة لأسباب كثيرة، من بينها الخلافات السياسية الفلسطينية، وارتفاع نسب البطالة بين شبابها على وجه الخصوص. السبب الأخير يدفع الشباب للاحتجاج رفضا لواقع غير عادل يخنقهم دون رحمة، فيخرجون لإعلان رفضهم لسياسة مَنْ يتعمّد تجويعهم، ويريد إركاعهم بأساليب خبيثة، من بينها قطع مصادر عيشهم، لكن احتجاجاتهم ضد الإسرائيليين معركة غير متكافئة، فحين يرمونهم بالحجارة يردّ عليهم الجنود بالنار.

تصادف وجود الوثائقي في 2018 مع اندلاع أكبر مواجهات مع الجنود الإسرائيليين منذ حرب الخمسين يوما عام 2014، التي شهدت مجازر وحشية ضد المدنيين، أدت إلى استشهاد أكثر من 2000 شخص منهم، بينهم 500 طفل.

يوثّق فيلم “غزة” آلام أهالي الضحايا والشهداء بصحبة خلفية موسيقى حزينة لآلة التشيلو، ليذكر مُشاهِده بالفرق بين مَنْ يطمح لعيش حياة عادية وآخر يريد إنهائها. يُسجِّل الفيلم في فصله الأخير آراء مدنيين منها يؤكدون خيارهم السلمي، وإصرارهم على البقاء أحياء في مدينة ترفض أن تموت أو تتحول إلى مقبرة.

إن فيلم “غزة” هو منجز سينمائي باهر ينحاز للجانب المشرق من حياتها، ويوثق ما فيها من جماليات بصورة غاية في الجمال والروعة.


إعلان