“خلف المرآة”.. أنا المرأة العربية أقود سيارتي

أنمار حجازي
“الأشياء أقرب مما تبدو عليه في المرآة”.. هذه هي الجملة الافتتاحية لفيلم “خلف المرآة” للمخرج المصري محمد ممدوح، ومن إنتاج الجزيرة الوثائقية. يتحدث الفيلم عن أربع سائقات مصريات لعربات نقل من أعمار مختلفة، لكن السؤال المطروح؛ ما الذي نراه خلف مرآة هؤلاء السائقات، هل هي وجوههن أم تقديم صورة أقرب لحياة هؤلاء النساء؟
تبدو النساء في بداية الفيلم ككل النساء، فهن يتجملن ويلبسن ويطبخن، وبعد لحظة ينزلن إلى معترك الشارع، ويثابرن على الخلق بشكل دائم، فقد أدت مصاعب الحياة وغياب الذكر المعيل إلى الاتجاه لقيادة وسائل النقل، ما عدا أم وليد التي اختارت هذه المهنة حبا بها.
يبدو هيكل الفيلم وكأنه مقسم إلى قسمين وبينهما فاصل؛ القسم الأول يتحدث عن تحدي هؤلاء النساء في سبيل هذه المهنة، وعشقهن البذل والخلق، في الوقت الذي يعتبر فيه نادرا بل وغريبا رؤية امرأة تقود وسيلة نقل عامة.
في الفاصل تلاحق الكاميرا تفاصيل عطلة السائقات ورغبتهن في عيش حياة عادية، وخلال العطل تعود فيها الأنثى لتسترد ما سرقه الشارع من نعومة وهدوء. إلى أن يأتي القسم الثاني الذي يُعبّر عن معاناة هؤلاء النسوة من الناحية الاجتماعية، ومدى صعوبة مهنة القيادة في وسائل النقل على المستويين الشخصي والعائلي، وعلى مستوى الاستقرار أيضا.
سائقات.. وراء كل واحدة حكاية
تختلف هذه المصاعب باختلاف الشخصية والظروف والعربة التي تقودها كل من النساء الأربع اللواتي يشكلن شخصيات الفيلم، فأكبرهن “أم وليد” سائقة التاكسي التي اختارت هذه المهنة لشغفها بالسيارات، فهذه الستينية تربت في منزل يعجّ بالفتيات، وتمكنت من الحصول على دعم والدها لقيادة التاكسي، ويبدو أن التحدي كان السبب الرئيسي في قيادتها للتاكسي.
أما “أم خالد” التي اشتهرت في مصر كأول سائقة لسيارات شحن، وذلك بعد هجر زوجها لها وزواجه من غيرها؛ فهي تعبر عن نفسها بتفاؤل وإيجابية، وترى التحدي حافزها أيضا للتقدم ولبذل جهد أكبر في سبيل زيادة خبرتها ونجاحها في مهنتها.
ومن جهتها أُجبرت “أم سماح” على العمل بعد مرض زوجها، وعملت في قيادة “الميكروباص” لمدة 17 عاما، لكن الأحوال المادية أدت إلى بيع الحافلة لتزويج بناتها، ويبدو أنها تعيش أوضاعا صعبة حاليا.
داليا.. تحرش ومضايقات وخذلان
أما “داليا” الفتاة الصغيرة المحبة لأنوثتها فهي تعمل في الأحياء الشعبية، وتتعرض كل يوم للتحرش ولعشرات المضايقات في عشوائيات القاهرة، فهي تشعر بالخذلان وبفقدان الأمل من المجتمع، ومن قدرتها على قبول أحدهم بالزواج منها.
يختلف الانجذاب إلى الشخصيات بين القسمين الأول والثاني، فخلال قسم الإعجاب تتمكن هؤلاء النسوة من النجاح في مهن تعد شبه مستحيلة على المرأة الشرقية، ويتركز الانجذاب على القسم الفاعل حاليا في الشارع، وعلى القسم الأقوى والأكثر خبرة، إضافة إلى التركيز على رغبتهن الجامحة في القيادة، وتظهر أيضا كيفية تعاملهن مع الآلة بكل حبّ وأناقة واهتمام، في حين أن القسم الثاني من الفيلم يركز على معاناة النساء كجزء من المجتمع المصري الخانق للمرأة.
وتبدو الموسيقى الحزينة مرافقة لداليا بشكل دائم، مما يولد إحساسا بالعجز يماثل الإحساس الذي يتولد عندما بدأت أم سماح بالبكاء خلال تحدثها عن وضعها الحالي. ويقوم الجزء الثاني بسرقة أضواء الدهشة من هؤلاء النسوة السائقات؛ ليجعلنا نحسّ مرة أخرى بالشفقة على المرأة التي تمكنت من خوض غمار المنافسة مع الرجل في أصعب الظروف، وتمكنت أيضا من رعاية منزلها وزوجها وأطفالها في الوقت ذاته.

في مجتمع ضاغط
يحاول الفيلم إظهار الوحدة الشديدة التي يعشنها، فمعظم اللقطات يأخذنها وحيدات إما في منازلهن أو في عملهن أو خلال أحاديثهن، فوجودهن مع العائلة أو الأصدقاء خلال فترات العُطَلْ لا يغير من هذه الوحدة، فلا نسمع ولا نرى أيّ لقطة تأخذ هؤلاء الأشخاص بعين الاعتبار. إنها وحدة لا يمكن تفسيرها، هل هي لانعدام وجود زميلات من النسوة، أم بسبب تحملهن أعباء الحياة وحيدات؟
وجهة النظر هذه تؤكد محاولة الفيلم سرد حياة هؤلاء الشخصيات بتركيز الشفقة عليهن، فيلم لا تقدم الكوادر النظيفة فيه ولا الموسيقى الحزينة أو الموسيقى الشعبية أي قيمة مضافة لهؤلاء السائقات ليظهرهن كبطلات في مجتمع ضاغط.
لكن المخرج استقى في بعض المشاهد من الذاكرة البصرية المصرية، ويبدو تأثره واضحا في طريقة تصويره لشخصية أم وليد سائقة التاكسي التي تقود في شوارع القاهرة بسيارتها البيضاء والسوداء، وترافقها أغنية لكوكب الشرق “أم كلثوم”.
طريقة أظهرت أم وليد القوية جزءا من التراث المصري الحديث، على العكس من داليا التي بدت دائما كفتاة تريد إظهار جمالها وشبابها، لكن الصدمة من مجتمعها وخجلها من عملها ظهرا واضحين في الموسيقى المرافقة لها، وفي اللقطات القريبة جدا من وجهها المكتنز.
أما أم خالد وأم سماح فقد شكلتا متن الفيلم، وذلك لوضوح علاقتيهما مع زوجيهما ومع عائلتيهما في حديثهما، وفي اللقطات التي تظهرهما مع أفراد العائلة أو دونها، فالأولى تظهر بكل قوتها وقدرتها واستقرارها في شاحنتها المنسقة، أما الثانية فتُظهر كل وحدتها وتعبها وهي تمشي على جسر إمبابة في نهاية الفيلم.
وينتهي الفيلم مع غروب يدلّ على نهاية يوم طويل لنسوة تمكنّ من تحدي مجتمع لا يتقبلهن بسهولة، ومع وحدة جافة تعايشن معها، لأنها أخفّ من وطأة الواقع الذي حاولت كل منهن مداورته بطريقة أنثوية كي يتمكنّ من الخلق مرة جديدة.