جنبلاط.. عن المتصوف الاشتراكي الإقطاعي المتواضع

 

زكريا جابر

يمكنني وصف المخرج الوثائقي اللبناني الشهير هادي زكاك بالشخص ذي المظهر الستيني، فنادرا ما أجده مارّا أو في الصور مختلف المظهر. فشخصيته التي يمكنني أن أشبهها بسيارة المرسيدس ترافقه أينما كان، لكن لم المرسيدس؟ بسبب أناقتها ولياقتها وقوة محركها في الوقت نفسه. فهو شخص ذو طابع وثائقي بحت ولائق، يجد ما يُساعد نمطه وينطلق في التوثيق.

بكل صراحة، كنت خائفا من مشاهدة فيلم “كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة” لعدّة أسباب، أولها خوفي من أن يكون الفيلم ذا طابع تسويقي لرجل سياسي إقطاعي لبناني (أي تحويل شخصية شهيرة إلى قدوة بهدف تسويق سياستها وإظهارها بأفضل ملامحها)، أما خوفي الثاني فكان أن يتخلى المخرج زكاك عن طابعه السينمائي وأن يتوجه إلى النمط التلفزيوني الأكاديمي الذي يوثق كل ما هو مطلوب في أيّ كرّاس بدون الرعشة البصرية والسينمائية، وخوفي الأخير كان أن تتغير نظرتي إلى كمال جنبلاط إلى الأسوأ أو الأفضل. لكن هذا الفيلم متعدد الأنماط والتوجهات لدرجة أنني حين شاهدته قرأت التتر (الجنيريك) الأخير خمس مرّات.

 

كمال جنبلاط.. النشأة والعائلة

إن أهم صنّاع الأفلام لا ينجحون دائما حين لا يشكّلون صداقات وطيدة وخلاّقة مع فريق عملهم. ولا أعلم إن كان هذا جوابا إيجابيا حين نتحدث عن هادي زكاك وهذا الفيلم، لكن هذا ما يمكنني أن أكتشفه، فالفيلم متماسك جدا لدرجة أنني متأكد من أن الفريق بأكمله كان متناسقا.

يطرح المخرج فيلمه بأسلوب وثائقي يقوم على البحث الفعّال والمؤسس لنص شاعري يروي خلال مشاهدته ومتابعته فكر الزعيم الاشتراكي الدرزي اللبناني كمال جنبلاط وتاريخ نشأته منذ الولادة، وروايته العائلية التي تؤكد على فكرة أن الرجل تربى في جوّ عائلة سياسية وبيئة اشتراكية حاضنةً البذرة الأولى لما سُمي لاحقا بالحزب التقدمي الاشتراكي.

في السادس عشر من آذار/مارس 1977 اغتيل كمال جنبلاط وهو يقود سيارته

 

وليد جنبلاط.. أناقة أمريكية

كنت متأكدا أن الزعيم الدرزي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الحالي وليد جنبلاط (ابن كمال جنبلاط) سيظهر عريفا للمنزل أو صاحب الأرشيف الكامل، أو حتى مرشدا سياحيا يقود السائحين في القصر الذي يتحدث عن كامل تاريخ الأب في منطقة المختارة في لبنان.

لوليد جنبلاط طابع طريف في مسيرته الاجتماعية كسياسيّ لبنانيّ، فكان دائما -ورغم مشاركته في سفك الدماء في الحرب الأهلية اللبنانية- يظهر بأناقته الأمريكية؛ المعطف الجلدي وسروال الجينز ودراجة الهارلي دايفدسون. وكان دائما يظهر في شوارع بيروت من دون حراسة، وذلك في محاولة منه للتأثير بمجتمع بات مُخدّرا ضد أمراء الحرب، لكنه كان مستثمرا اجتماعيا، وهذه الطريقة جعلت منه سياسيا محبوبا ضمن دروز لبنان والطوائف اللبنانية.

فيلم “كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة” يختصر حقبة لبنانية بحتة

 

كمال جنبلاط.. تاريخ حقبة لبنانية

تمكن هادي زكاك بمرافقة وليد جنبلاط من الالتقاء بأشياء الأب الحميمية التي تكدست في زوايا القصر، وخلال الدخول إلى كل غرفة في القصر تُروى أقسام الفيلم وهي: كمال جنبلاط المتصوف، وعلاقته بالثقافة الهندية وزيارته وانخراطه في المجتمعات الهندية المختلفة، إضافة إلى جنبلاط المثقف والمعارض السياسي، والاشتراكي الاجتماعي التقدمي، وكمال جنبلاط تاريخيا بشكل عام.

فيلم “كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة” يختصر تاريخ رجل سياسيّ عروبيّ إقطاعيّ متعدد الصفات وأهمها التواضع. وضمن ثروته التي لا تعد ولا تحصى؛ يعرض الفيلم كمال جنبلاط بزاويته للقراءة والتصوّف، وشخصيته المتواضعة، إضافة إلى مشاركته في الحرب الأهلية، ودعمه للقضايا العربية والفلسطينية، حتى حياته الشخصية وعلاقته بجميع من لهم صور في ضيافته. هذا الفيلم يختصر حقبة لبنانية بحتة.

تقنيا؛ أجادت مديرة التصوير موريال أبو الروس جذب العين إلى ما خلفته يداها من إضاءة وتصوير. وبالإضافة إلى المشاهد الكرتونية (Animation) التي أضافت الرعشة السينمائية المبدعة، علينا ألا ننسى المونتاج المتقن والمحترف صورة وصوتا ولونا.

هذا الفيلم يحتاج إلى غرفة مجهزة بشاشة تلفزيونية أو سينمائية، وذلك للتثقف والاستمتاع بوثائقي أكاديمي محترف وخلاّق.


إعلان