“كوما”.. الحرب السورية من غير دماء

زكريا جابر

أجيال نسائية ثلاثة في فيلم "كوما" لسارة فتاحي؛ الجدّة والأم والحفيدة تُقدَّم بتفاصيلها الحميمية

أعشق السينما الصامتة، وتبهرني قدرة الصورة على التعبير عن آلاف الكلمات خصوصا في السينما، وذلك بأن يضع المخرج كاميرته في مكان واحد لساعات طويلة ليلتقط أجواء ما يبصره إن كان أفقيا أو عموديا، بارتجاج يديه أو حتى بإطار يعكس ما يراه المخرج رأسا على عقب.

القليل من الكلام مع الكثير من البصريات التي تدل على فكرة الفيلم الرئيسية؛ تضع المشاهد في معظم الأحيان في موقع المستمتع بما يراه على الشاشة، وذلك من دون أن يتابع هذا الأخير راوياً يتحدث عن أي شيء.

أجيال نسائية ثلاثة في فيلم “كوما” لسارة فتاحي؛ الجدّة والأم والحفيدة تُقدَّم بتفاصيلها الحميمية، وتنتقل القصص المروية بين الماضي والحاضر، ومَن لم يزل على قيد الحياة ومَن مات ومن سيعيش، ويغوص الفيلم أيضا في تفاصيل حياتهن المتداخلة ضمن منزل واحد، حيث يتعايشن بعذاب الحياة وبأفضل الأحوال، ويتحدثن عن الألم وقسوة الحرب وأزواجهن وأحلامهن.

 

فيديو جمالي.. لكن الفكرة لم تصل

لا شكّ في أن هذا الفيلم التسجيلي يحتوي نمطا تصويريا وهندسة إضائية وتقنية تصويرية رائعة. شخصيا؛ ما أبهرني هو الألوان الحامية التي تعطي راحة نظرية للمشاهد أثناء جلسته أمام الشاشة منتظرا بداية الفيلم، بالإضافة إلى اللقطات البسيطة التي تمرّ لوجوه الشخصيات وأطراف المنزل الذي يسكنونه.

لكن أن يكون التصوير رائعا بلا وضوح في النص فإن ذلك يأتي في إطار ما يسمى فن الفيديو الجمالي  (Video Art) وليس في إطار التوثيق، حيث إن الفيلم يبدأ بمشاهد داخل منزل المخرجة التي تركز في إطارها الإخراجي على شخصية والدتها وجدتها وحياتهن التقليدية، وذلك منذ صلاة الفجر وفنجان القهوة التركية، والأحاديث بين الأجيال ويوميات النساء السوريات خلال الحرب.

لكن المخرجة لم تعط الفكرة حقها بأن تصل إلى المشاهد، فهي تركتني أستمتع بالبصريات؛ ضامنة لي نصف ساعة من الملل وأنا أنتظر حدثا ما، كلمة ما ترشدني إلى سيناريو ما ابتكرته الأخيرة لفيلمها التسجيلي.

لا شكّ في أن هذا الفيلم التسجيلي يحتوي نمطا تصويريا وهندسة إضائية وتقنية تصويرية رائعة

جودة التصوير وتشتت النص

من حيث التصوير أجاد فريق عمل الفيلم إعداد الهندسة الإضائية لهذا العمل، فالفيلم ذو طابع شخصي جدا، ويحكي سيرة عائلية بين المخرجة ووالدتها وجدتها، وذلك الأمر يحتاج إلى بعض الحرارة في التصوير والإضاءة والتنظيم البصري، لكن الكثير من الأخطاء التصويرية وقعت في هذه الوثيقة التسجيلية.

من حيث المونتاج؛ لم تنجح المخرجة بالهروب من كليشيهات الإخراج البصري، وما زالت بصريات “التشويش التلفزيوني” للانتقال من مشهد إلى آخر موجودة، ولم تكن المخرجة مبدعة بما فيه الكفاية كي تصل إلى المشاهد وتريح حبل أفكاره الذي يُشيَّد أثناء مشاهدة الفيلم. وبالنسبة لي أحسستُ بأنه تم خداعي كي أكمل مشاهدة الفيلم حتى المشهد الأخير.

أما من حيث النص؛ فإن المضمون تائه والضياع الموجود في الفيلم واضح جدا، فقد وصلتُ إلى ساعته الأولى ولم أتمكن من فرز أي فكرة ترشدني إلى ما تريد أن توصله المخرجة لي كمشاهد.

هناك مشهد للنساء يتحدثن، ومشهد آخر للجدة التي تُحضّر القهوة، ومشهد لصلاة أحد أفراد تلك المجموعة النسائية، ومشهد للمخرجة محدثة جدتها التي تقرأ القرآن مبينة الاختلاف الفكري بين الجيلين؛ الأكبر المؤمن والتقيّ، والمعاصر اللامبالي. تشتت واضح يظهر على نص المخرجة التي أخذت الفيلم إلى منحى شخصي جدا، لدرجة أنه من المرجح أن تكون هي بنفسها من الأقلاّء الذين فهموا فكرة الفيلم.

ما قامت به سارة فتاحي كان مخاطرة، وذلك بأن يكون فيلمها الأول تجريبيا بتلك الطريقة غير المدروسة

فيلم سوريّ بلا دماء

لعل فيلم “كوما” من الأفلام السورية الأكثر بُعدا عن العنف والمشاهد القاسية من الثورة والصراع الدائر في المنطقة منذ بداية الأزمة بسوريا، حيث لا دماء ولا ضحايا ولا مشاهد تعذيب أو قصف مباشر، أو مزيج بين جنود النظام والنصرة وداعش، بل محاولة توثيق لبساطة شخصيات طريفة، وتناقض ثلاثة أجيال من النساء اللواتي يعشن الحرب والأزمة السورية.

يدور فِكري تلقائيا إلى الدمار حين أعلم بإنتاج بصري وثائقي سوري عام 2015، وهذه الحقيقة نابعة من تجربتي مع السينما التوثيقية التسجيلية السورية خلال الأعوام الماضية. فعلى سبيل المثال كانت معظم الأفلام الوثائقية التي أنتجت في خضمّ الظروف السورية دموية أو تحمل طابعا ثوريا وعفويا، وليس بالضرورة أن يكون التوثيق للجثث، بل لشخصيات بسيطة تتأمل بمستقبل أفضل، مثل لاعب كرة قدم في الدمار، أو والدة أحدهم تخبر الكاميرا عن ذكرياتها.

لكن وللأسف الفكرة الوحيدة التي استنتجتها حين شاهدت فيلم “كوما”؛ كان أن المخرجة سارة فتاحي لم تخرج بالكامل عن التجريب والتشخيص والذاتية في فيلمها، وأعطت الفيلم طابعا يشبه السيرة الذاتية الشخصية جدا، وغير المفهومة لمُشاهِد مثلي ومثل الكثيرين الذين خرجوا من صالة متروبوليس السينمائية في بيروت خلال عرضها الأخير قبل أن تغادر المدينة.

ما قامت به سارة كان مخاطرة، وذلك بأن يكون فيلمها الأول تجريبيا بتلك الطريقة غير المدروسة، لكن سأبقى أشاهد أفلامها المقبلة في السنوات المقبلة بغية دعم السينما الحديثة؛ متأملا ألا أعاني مرة أخرى كالتجربة الأولى.


إعلان