“جاهلية”.. فيلم يحكي أوجاع الفرد وإفرازات السلطة

قليلون هم المخرجون العرب الذين يمتلكون تجربة سينمائية مغايرة لما هو سائد، ويشتغلون على نسق إخراجي مختلف، وهشام العسري واحد من بين هؤلاء القلّة، إذ أثبت بعد كل فيلم قدّمه بأنه يمتلك وعيا سينمائيا ومرجعية فكرية يتكئ عليها، ومعايشة حقيقية لواقع مجتمعه أهّلته بأن يعرف مشاكل القاع وأحلامه.

هذا ما عكسته أفلامه: “همّ الكلاب” عام 2013، و”البحر من ورائكم” عام 2014، و”ضربة في الرأس” عام 2017، وأخيرا وليس آخرا فيلم “جاهلية” عام 2018، والذي شارك في العديد من المهرجانات الدولية أهمها اختياره في قسم “بانوراما” بمهرجان برلين السينمائي في دورته الـ68، ومشاركته في الدورة الـ40 لمهرجان القاهرة السينمائي في قسم “آفاق السينما العربية”.

وقد أثبت العسري في فيلمه الحالي بأنه لم يكن مخرج مرحلة، بل جاء إلى هذه المهنة عن طريق ضربة حظّ، والدليل ما حققته تجاربه السينمائية المذكورة التي كانت عبارة عن مرآة عاكسة لما يملكه من أدوات سينمائية مُجدية أثبتت فاعليتها، وذلك لما أفرزته من جماليات طافحة، بعد أن يُطعّمها بالواقع المجتمعي والمشاكسة السياسية و”الطابو” الذي يطرق بابه من حين لآخر.

شخصيات تنزف وتعاني.. ولكن لماذا؟

لم يخرج هشام العسري في فيلم “جاهيلة” عن المرجع السيكولوجي، لهذا نجد في هذا الفيلم العديد من الشخصيات التي تعكس أمراضا نفسية معقدة نتيجة لإفرازات مجتمعية مختلفة لم يخض المخرج/المؤلف في أسبابها، واكتفى بتقديمها للمشاهد كما هي، واختار قصة معروفة لدى المغاربة والعالم الإسلامي وجعلها كخيط رفيع يربط بين الشخصيات والأحداث، وهي حين أصدر الملك المغربي المتوفى الحسن الثاني قرارا يمنع المغاربة من ذبح أضحية العيد عام 1996 تجنبا لأزمة اقتصادية.

وانطلاقا من هذه البؤرة وزّع المخرج شخصياته التي تنزف وتعاني العديد من الأمراض النفسية، لهذا جاءت مُركبة تُصدر تصرفات متوترة وتشي بتمزقها ومرارتها.

مفهوم “الوحدة” كشعور سلبي يعمل على نخر جسد الإنسان، وجعله ينتظر خلاصه وحتى العمل على تقريب هذا الخلاص

فنحن نجد لطفي فاقدا للذاكرة بعد أن وجهت له زوجته هند ضربة قوية بمطرقة على الرأس وجعلته بلا ماض، وزوجته هي الأخرى لا يمكن أن تُترك من دون قيد في أحد قدميها، وذلك عن طريق حبل موصول بوتد داخل الحديقة، لأنها لا تتحكم في تصرفاتها أحيانا وتذهب إلى أماكن مجهولة، ووالد لطفي الرجل الثري الذي يستلذ حين يقوم بتعذيب سائقه من حين لآخر، وفي الوقت نفسه يستعد للمشاركة في مسابقة لتقشير البرتقال، والشيخ الأعمى الذي يقوم بقلي المفاتيح، وحين تسخن يقوم برميها من النافذة على المارّة، وهو شخص عنصري يرفض زواج ابنته من أبيض، لهذا اشترط أن يكون الزوج أسود البشرة حتى لا يتلوث دم العائلة، وعليه قام منير بدهن وجهه بالسواد حتى يتمكن من الزواج بمن يحب، والشاب الذي يجلس في أحد الشرفات ويسأل كل من يمر أمامه عن الوقت، وكذلك الطفل الصغير الذي بات يشاكس والده في كل مرة بالمقالب بعد أن قرر عدم شراء أضحية العيد نتيجة لقرار الملك، ناهيك عن الشابة المتشردة التي تستعمل قوارير المياه المعدنية حذاء في قدميها، بالإضافة إلى الشاب الذي يبحث على من يساعده في الانتحار بواسطة الحفّارة التي يشتغل بها.

كل هذه الشخصيات المركبة لم يكلف المخرج نفسه عناء ذكر المسببات التي جعلتها بهذا الشكل، بل ترك التأويل للمشاهد ليتعدد وتزداد الجمالية وتصبح قوة التلقي أقوى وأشمل.

أن تكون وحيدا وسط جماعة   

فتّت المخرج هشام العسري في فيلمه “جاهلية” مفهوم “الوحدة” كشعور سلبي يعمل على نخر جسد الإنسان وجعلِه ينتظر خلاصَه، والعمل على تقريب هذا الخلاص، وذلك ما حدث مع إحدى الشخصيات وهو سائق الحفّارة الذي يبحث ويسأل معارفه من أجل أن يساعدوه على الانتحار، وهذا بواسطة الحفارة التي يشتغل فيها، ولم يجد غير الشيخ الأعمى الذي تحايل عليه لتنفيذ هذه المهمة، وهذه الزاوية فيها تناص واضح مع بطل فيلم “طعم الكرز” لعباس كياروستامي.

أقسى مشاهد الفيلم هو الذي جمع العديد من شخصيات الفيلم المتفرقة في لقطة واحدة في مركز الشرطة

عمل المخرج على توفير العديد من المعطيات التقنية والنفسية والبصرية في الفيلم لإدخال المُشاهِد في حلقة هذا الشعور، وذلك كي يشعر به وفي الوقت نفسه يدخل في عمقه وتفاصيله وأهدافه، وكأنه وبطريقة ما عكس المخرج مهمة الطبيب النفسي الذي يعمل على توفير ظروف ومخيال مُعين للمريض لينوّمه مغناطسيا، وذلك كي يسبر أغواره ويعرف ماضيه، ونتيجة لهذه المعرفة يقف على العلّة ويوفر لها العلاج المناسب.

في فيلم “جاهلية” توفرت هذه المعطيات من خلال تكرار الصور العبثية المُوحية بالوحدة والقهر الذي يعيشه الفرد نتيجة تراكمات حياتية عدة أفرزتها قرارات سياسية خاطئة، وذلك مثل ما حدث مع قرار الملك الحسن الثاني الذي منع ذبح الأضحية، وهذا ما انعكس سلبا على العديد من الأشخاص، من بينهم الوالد الذي قتل ابنه في الفيلم بعد أن ألحّ عليه في الكثير من المرات لذبح الشاة، حيث قال له في إحدى المرات إنه والد “جبان يخاف من الملك”.

علب طماطم مثقوبة.. لوحات تشكيلية

لم يكتف المخرج هشام العسري بالحفر عميقا في النفسية البشرية، ولا بتقديم قصة غير واضحة لا تقوم على عناصر القصص الكلاسيكية، بل ذهب أبعد من ذلك وصنع العشرات من اللوحات التشكيلية عن طريق “كادرات” الكاميرا، إذ يمكن وبسهولة تامة توقيف واحدة منها وطبعها في صورة وتعليقها في أحد الجدران كلوحة تشكيلية، ومن بين هذه اللقطات التي تعكس حداثة المخرج وذكاءه الكبير في عملية القبض على الجمال؛ هو المشهد الذي تم تصويره بجانب المسبح، ويجمع حوارا بين لطفي وزوجته هند وهما يجلسان على كرسيين، حيث انعكست صورتهما على ماء المسبح، وكان بمقدور المخرج أن يتوقف عند هذه اللقطة ومفارقتها الجمالية، لكنه ذهب أبعد من ذلك بكثير، وضاعف من جرعتها الفنية فقلب الصورة، وأصبح الانعكاس هو المتن، والأصل هو الانعكاس.

فيلم “جاهلية” غلب على جميع صوره اللون الرمادي، لينقل إحساس الكآبة التي تتخبط فيها شخصيات الفيلم

وقد حفل الفيلم بالعديد من “الكادرات” التي صُنعت بالشاكلة المذكورة، وهو لعب فني يجيد هشام العسري استخدامه، مثل علب الطماطم المثقوبة التي كان يرتديها الطفل كنظارة، إذ استعملها المخرج في العديد من المشاهد بشكل جمالي كبير، مثل جعل عين الكاميرا ترى من خلال أحد ثقوبها، أو تصوير هذه النظارة المثقوبة وهي ملطخة بالدماء، وهو إحالة على أن الطفل قتل عن طريق والده، وهذا دون أن يتم تصوير لقطة فعل القتل، بالإضافة إلى العديد من المشاهد الأخرى التي تعكس هذا الخلق الجمالي.

أما عن أكثر المشاهد قسوة في الفيلم، وهو المشهد الوحيد تقريبا الذي جمع العديد من شخصيات الفيلم المتفرقة في لقطة واحدة؛ فهو في مركز الشرطة، حين بدأ الشرطي يستجوب والد الطفل عن سبب إصراره على ذبح الأضحية، فقد صفعه العديد من المرات، كما أسقطه أرضا ووضع حذاءه العسكري على وجهه، وهو مشهد يعكس التسلط على المواطن، وكأن هشام العسري يقول بلسانه “بأن هذه الأفعال والتصرفات هي ما يصنع الفرد المجرم، لأن العنف لا يولد سوى العنف”، بالإضافة إلى أنه يمكن إسقاط هذا التأويل على باقي الشخصيات الأخرى، وجعل أيقونة العنف أحد المسببات الرئيسية في عللها ومرضها النفسي.

كآبة اللون الرمادي.. المعاناة والوحدة

فيلم “جاهلية” غلب على جميع صوره اللون الرمادي الكئيب، لينقل إحساس الوحدة والمعاناة التي تتخبط فيها شخصيات الفيلم.

وقد قام المخرج بتقديم قصة لا تسير وفق منطق معين، وكأنه يستأنس بأصحاب الحداثة السينمائية، ومن بينهم مثلا المخرج الفرنسي السويسري جان لوك جودار الذي سألته صحفية في إحدى المقابلات “لم لا نرى في أفلامك قصة وعرضا وخاتمة؟”، فجاء رده “بأن هذه الأمور موجودة، لكن ليس بالترتيب الذي ذكرته”.

وهذا ما حدث في أفلام العسري، حيث توجد قصة لكنها ليست بالترتيب الذي نعرفه، ليأتي على العموم فيلم “جاهلية” قريبا من الاكتمال الفني، ويُبشر بمخرج عربي كبير.


إعلان