“فتوى”.. عن الأحلام التي يُجهضها التطرف
عبد الكريم قادري

قدّم المخرج التونسي محمود بن محمود في فيلمه الأخير “فتوى” (2018) صورة مقرّبة لتونس ما بعد الثورة، وقد اختار نهاية عام 2013 ليكون زمنا ثابتا لقصة متحولة عن مفهوم وصناعة “التطرف” بعد عامين من ثورة الياسمين، نسجها بنمط سينمائي معروف وهو السينما “البوليسية” التي تعتمد مبدأ الحفر في الأحداث وتتبعها، وخلق مبدأ الإثارة في كل جزء رئيسي من الفيلم لشدّ المشاهد وتشويقه للأحداث.
لهذا تم بناء الفيلم على العناصر الكلاسيكية، مرتكزا على موضوع الإرهاب الذي أصبح الشغل الشاغل في العالم العربي، وأحد أهم المواضيع التي تطرقت لها السينما التونسية ومثيلتها العربية في السنوات الأخيرة، وذلك مسايرة للراهن وعرضا لأسباب ومسببات هذه الحالة التي انعكست بالسلب على شريحة واسعة من فئات المجتمع، وأثرت بشكل أو بآخر على أمنه وطريقة عيشه ونمط حياته.
عاد المخرج بن محمود إلى السينما بعد ست سنوات من الغياب ليدلي بدلوه فيما يحدث حاليا في تونس من خلال الصراع المحتدم بين السلفية والعلمانية، وذلك عن طريق فيلم “فتوى” الذي أخرجه وكتب له السيناريو. وقد جسّد أدوار البطولة فيه كل من أحمد الحفيان (دور الأب إبراهيم ناظور)، وغالية بن علي (الأمّ لبنى)، وسارة الحناشي (لطيفة)، ورمزي عزيز (الإمام السلفي الجهادي)، وجمال مداني (صاحب المقهى).
مروان.. هل قُتل بيد جماعته؟
تتمحور قصة الفيلم حول إبراهيم المغترب في فرنسا، والذي عاد إلى وطنه من أجل دفن ابنه مروان الذي كان يدرس في معهد الفنون الجميلة، وأثناء هذه العودة يبدأ في التحري عن سبب الوفاة، والتي كانت -حسب الشرطة- بسبب حادث مروري عادي نتج عن سقوط دراجته النارية من على جبل بالطريق الساحلي، لكن إبراهيم لم يقتنع بهذه الرواية.
بدأ إبراهيم يتتبع المحطات الأخيرة التي مرّ بها ابنه مروان، فعرف بأنه توقف عن دراسته وانخرط في جماعة سلفية يقودها الأمير زوج “لطيفة”، والأخيرة كانت على علاقة غرامية سرية بمروان، والأمير نفسه هو من أصدر “فتوى” تقضي بقتل الأم لبنى التي ألّفت كتابا عن الجماعات التكفيرية والظلامية، وهذا ما جعلهم يصدرون أمرا بإهدار دمها، مما جعل مروان يعترض على قرار الجماعة، وبالتالي جعلهم يقومون بتصفيته، وذلك بعد أن جمعهم لقاء به في بيته الريفي.
اكتشف إبراهيم كل هذه المعطيات من الحي الشعبي الذي كان يعيش فيه ابنه مروان، ومن صديقة تدرس معه في معهد الفنون الجميلة، وقد سبق وأن عنفها داخل الصف بعد أن اعترض على لباسها، ولهذا السبب تم طرده من المعهد، ليعرف إبراهيم بأن ابنه لم يمت في حادث عرضي، بل نتيجة لتصفية من جماعة سلفية انخرط فيها بعد أن غرّرت به وقدّمت له الأوهام.

السلفية والعلمانية.. مقارنة تنتصر للثانية
باتت السينما التونسية الحالية متخمة بموضوع “التطرف”، فقد أصبح هذا الموضوع يأخذ حصة الأسد من الإنتاج الحالي، ولا يخرج هذا الفيلم عن هذه الدائرة.
يخلق المخرج بن محمود في عمله “فتوى” مقارنة ضدية بين السلفيين والعلمانيين، فقد أظهر الفئة الأولى بأنها تستعمل العنف وتلجأ له كي توصل أفكارها، أما الثانية فأكثر رزانة وعقلانية من الأولى، لأنها تتناول مواضيعها وتناطحها بالفكرة.
وكدليل على هذا الطرح؛ الشجار الذي حدث في المقبرة بين عائلة مروان والأفراد السلفيين، وهذا بعد أن رافقت الأم لبنى عملية دفن ابنها مروان، وهذا ما لم يعجب السلفيين الذين قالوا إن هذا الأمر حرام، ونعتوها بأبشع النعوت وكفروها، ليدخلوا بعدها في صراع.
وبالإضافة إلى العنف الذي يستعمله الأمير ضد زوجته التي يضربها كل يوم ويترك الكدمات على وجهها، ففي الجهة الأخرى ممثلة في الأم لبنى التي ألّفت كتابا تواجه به أفكار السلفيين، وبدلا من الرد عليها من خلال “الفكرة تقابلها الفكرة” تم إهدار دمها.
فخ المباشرة.. من الفنّي إلى التلقيني
في النهاية يسقط المخرج بن محمود في فخ المباشرة التي نجدها في حوار الفئتين، وكأنه يقوم بتفريغ حوارات النشرات التلفزيونية والنقاشات التي تحدث هنا وهناك ويحولها لشخصياته، وهنا يقتل سينمائية الفيلم ويزيح عنه المقومات الفنية.
وهذا ما ذهب له الكاتب مهدي غاني حين علّق على هذه النقطة قائلا إن “إنّ الإشكال الرئيسي في الفيلم هو تلك المباشراتيّة الفجّة الّتي أفقدت الفيلم وهجه وقوّته، وأخرجته من دائرة الفنّي إلى دائرة التلقيني”، فنجد عالميْن متوازييْن لا يجمع بينهما سوى نقطة واحدة ألا وهي مقتل مروان.
ورغم أن شخصية مروان الغائبة كان بإمكانها أن تكون خلّاقة لجدل فكري وفني حاد بين هذين العالمين، فإن هذا لم يكن حاضرًا في الفيلم، فقد كانت الشخصيات مألوفة وسطحية ونمطية، ولم يتم الاشتغال على أبعادها النفسية والاجتماعية المتعددة، ولم تكن بنية العلاقات فيما بينها جدلية وإشكالية، وهو ما طبع الفيلم بنظرة “البعد الواحد”.
والأفلام بطبعها لا تحتمل التلقين عبر الشخصيات، إذ يمكن إيصال الأفكار عن طريق درامية الحدث وتكثيفه كي يكون له صدى أكثر وتأثير أعمق.
كما أن المخرج أكثر من المشاهد التي تظهر بأن تونس تحولت إلى دولة سلفية، وهي الكثرة التي تقدم صورة عكسية عن الفيلم، وتظهر المخرج بمظهر المتحامل على هذه الفئة وكمثال على هذا يقدم المخرج في أحد المشاهد المُصورة داخليا وخارجيا؛ كاميرا تبدأ حركتها من داخل البيت، الى أن تستقر في الشرفة، حيث يقدم مشهده الخارجي الذي يظهر من خلاله أرصفة الشارع التي تنتشر فيها مجموعة من الباعة يقارب عدد الثمانية، وكلهم يرتدون لباسا سلفيا ويتمركزون في مساحة صغيرة، وهذا المشهد كفيل بأن يؤثر على مصداقية الفيلم وهدف مخرجه.

رزانة الفيلم في حبكته
تنعكس قوة فيلم فتوى في البناء الدرامي والحبكة القوية التي انسابت بنعومة في مفاصل الفيلم، وسهّلت عملية التقبل وفعل المشاهدة، وقد كان السؤال الرئيسي في الفيلم “كيف مات مروان”؟ أما الأسئلة الثانوية فقد جاءت بعدة صيغ عن خلفيته الفنية والدينية، وسبب الصراع بين الأم والأب، وعلاقة إبراهيم المغترب بعائلته، وعلاقات مروان السرية والعلنية، وكيف انخرط مروان في عالم التطرف؟
لكن الخيط الأساسي جاء عن كيفية موت مروان والسبب الذي يقف خلف هذا الموت، وقد تضمنت هذه الأحداث العديد من المفاجآت غير المتوقعة في الفيلم، مثل العلاقة الغرامية بين زوجة الأمير ومروان، وأن الأمير هو من قتل مروان، وهذا ما خلق نوعا من الرضا عن صيرورة الأحداث.
الممثلون.. متفاوتون
جاء أداء الممثلين في الفيلم متفاوتا بين ممثل وآخر، فأحمد الحفيان مثلا قدّم صورة الأب المجروح إذ انعكست عليه علامات التأثر، وغالية بن علي قدمت دورا مهما انعكس في الحزن الكبير الذي عاشته جراء هذا الفقد، ناهيك عن أحاسيس الندم التي عاشتها لأنها أحسّت بأنها السبب وراء موت ابنها.
ونجد بعض الجمود في الشخصيات الأخرى، خاصة في من قاموا بأداء دور السلفيين، إذ نجد بأن هناك مبالغة واضحة في تقديم أدوارهم، لكن على العموم جاء معقولا، ويبشر بعودة جميلة للمخرج التونسي محمود بن محمود الذي قدم آخر أفلامه عام 2012 تحت عنوان “الأستاذ”.
حصد فيلم “فتوى” جائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية بالدورة الـ40 لمهرجان القاهرة السينمائي، كما فاز بجائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم روائي طويل بالدورة الـ29 لأيام قرطاج السينمائية، ناهيك عن العديد من الجوائز والترشيحات والمشاركات في مهرجانات سينمائية عدة.