“فات أوان أن نموت صغارا”.. عن صراع المراهقين مع أهاليهم

عبد الكريم قادري

 

فنّد الفيلم التشيلي “فات أوان أن نموت صغارا” (2018) فكرة المدينة الفاضلة التي رسمها الفلاسفة في أذهانهم، وأثبت أن الأفراد مهما كانت قرابتهم فإن الاختلاف هو تركيبة أساسية في أيّ مجتمع في هذا العالم.

ومن هنا تحوّل هذا الاختلاف إلى انسجام يصنع يوميات الإنسان ويُساعده على الاستمرار والتقدم، وذلك تشجيعا لفكرة “أنا لستُ ملاكا حتى لا أخطئ، وأنتَ لست شيطانا حتى تحب أخطاءك”. لأن الخطأ مهما كان فإن النقاء يمحوه، والفضيلة مهما كانت فإن شكلها غير نهائي، لأن الأشياء والأفعال كلها أمور نسبية تخضع لهوى النفس البشرية وتقلباتها.

هذه هي القيمة الفكرية والفلسفية التي لعب الفيلم على أوتارها، وهو ما جعله يقع تحت مظلة “السينما المثقفة” التي تقدم قيمة معرفية مهمة للمُتلقي، وفي الوقت نفسه تعكس صورته المتخفية ليراها متجلية أمامه عبر شخوص وأحداث هذا العمل.

يسلط الفيلم الذي ساهمت في إنتاجه مؤسسة الدوحة للفيلم؛ الضوء بشكل أساسي على فئة عمرية مهمة، وهي فترة بين المراهقة والشباب، والتي تعكسها الصبيّة صوفيا صاحبة الـ16 عاما، وقد جعلتها المخرجة كرابط أساسي في الفيلم تتواصل من خلالها مع الشخصيات الأخرى التي تقاربها سنا، سواء الأقل منها وحتى الأكبر، وكأنها عين العدسة وصانعة الأحداث الدرامية في الفيلم، وفي الوقت نفسه تنقل آهات الصبية وخلجاتهم، وأحلامهم وكوابيسهم.

 

دومينغا سوتومايور.. سجل سينمائي حافل

التشيلية دومّينغا سوتومايور هي كاتبة سيناريو هذا الفيلم ومخرجته، ويعود سبب فهمها الجيد لشخصيات فيلمها بالأساس إلى صغر سنها، فهي من مواليد عام 1985، وكأنها تعكس من خلاله أحلامها وكوابيسها، وتعبّر عنها بطريقة العارفة بخبايا هذه العمر الحرجة.

عمر المخرجة دومينغا لم يكن عائقا بأن يكون لها سجل سينمائي حافل بالإنجازات، إذ تعتبر أول امرأة تحصل على جائزة “الفهد لأفضل إخراج” في تاريخ مهرجان لوكارنو السينمائي عن الفيلم المذكور، كما سبق لها وأنجزت باكورتها الروائية “من يوم الخميس إلى يوم الأحد” عن عالم الكبار الضيّق، وذلك من وجهة نظر طفلين صغيرين، وهذا يعني أنها لم تبتعد عن عوالم هذا الفيلم، وقد حازت من خلاله على جائزة النمر الذهبي في مهرجان روتردام السينمائي، والجائزة الكبرى في مهرجان “نيوهورايزن” في بولندا، ناهيك عن مشاركات مهمة أخرى في العديد من المهرجانات الكبرى.

وقد عُرض فيلم “فات أوان أن نموت صغارا” أول مرة في العالم العربي بالدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي الذي انعقدت فعالياته من 20 وحتى 28 سبتمبر/أيلول 2018.

صوفيا تريد لبس حياة لا تتطابق معها، لهذا نجدها مُصرّة على التدخين لأنها ترى أن ممارسة هذه العادة هو شكل من أشكال النضج

 

صوفيا.. مراهِقة تدخل مستنقع الألم مبكرا

تجري أحداث الفيلم في صيف 1990، حيث تقرر مجموعة من العائلات خلق حياة جديدة في إحدى المناطق الريفية وسط الغابات، وذلك بعيدا عن ضوضاء المدن وضجيجها.

هذا الفضاء الجديد لا يحتوي على أبسط شروط الحياة الحديثة العادية وهو الكهرباء، بالإضافة إلى صعوبة الحصول على الماء، لكن قرار هذه العائلات كان نهائيا، ووجب ترتيب الأمر من أجل الاحتفال بالسنة الجديدة، ووسط كل هذا تعيش المراهقة صوفيا مع والدها؛ حياتها في قلق واضح، خاصة بعد انفصال والدتها التي تسكن المدينة مع شاب آخر، مما جعلها غير متقبلة لفترتها العمرية، فهي تريد اجتياز هذه المسافة والقفز عنها.

تريد صوفيا لبس حياة لا تتطابق معها، لهذا نجدها مُصرّة على التدخين لأنها ترى أن ممارسة هذه العادة هو شكل من أشكال النضج، ومن جهة أخرى ترفض حب “لوكاس” الذي يقاربها سنا، وفي الوقت نفسه ترسم قصة حب مع مصور يكبرها سنا. ومن خلال هذه العلاقات والأفعال الغريبة يتزايد قلقها الوجودي في ظلّ أسرة مفككة وعالم غريب عليها، وعلاقة غرامية غير متكافئة في السن، لتدخل مستنقع الألم مبكرا، حيث تتراقص العشرات من الأفكار في رأسها، لأنها باتت ترى بأن هذا العالم يخبئ الكثير من الألم واليأس والخداع، وهي انفعالات سلبية تتوالد عن طريق أفعال البشر اليومية.

علاقة غرامية غير متكافئة في السن تجمع صوفيا بالمصوّر الذي يكبرها عمرا

 

دكتاتورية.. تصنع أمراض الشعوب

اختارت المخرجة دومينغا سوتومايور فترة زمنية مهمة وفاصلة في تاريخ تشيلي في عام 1990، وهو التاريخ الذي غادر فيه الرئيس الدكتاتوري أوغستو بينوشيه الرئاسة بعد 17 سنة قضاها في الحكم، وجاء من خلالها إلى الحكم على ظهر دبابة، بعد أن قتل سابقه الرئيس الشرعي سلفادور اللندي بدعم واضح من الولايات المتحدة التي كانت تعاديه بسبب خياره الاشتراكي.

وقد اتُهم بينوشيه بارتكابه العديد من الجرائم بحق مواطنيه، كما عُرف عنه بأنه العدو الأول لكل كُتّاب ومفكري أمريكا اللاتينية. وبشكل مدروس أرادت المخرجة خلق موازنة بين هذه الحياة الواقعية التي عرفتها بلادها، وبين خلق حياة جديدة في مكان ما وسط الغابات، وقد كان لا بدّ لنا ذكر هذه المقدمة التاريخية لأنها هي أساس الفيلم ومنطلقه.

ولأن المخرجة وضعت التاريخ المذكور لخلق مقارنة بينهما، بمعنى أن اختيار المكان المنعزل ليكون فضاء عيش للعديد من العائلات هو قطيعة مع الماضي بالنسبة للفيلم، وفي الوقت نفسه خلق حياة جديدة كانت تكون بدايتها من سنة 1990، لتكون الأسئلة المحورية في الفيلم: هل يمكن أن يُمحى هذا الماضي بشكل بسيط؟ هل ستكون هذه الحياة بلا مشاكل ولا كوابيس؟ وهل تصلح لتكون منطلقا لأحلام الأطفال وكوابيسهم؟

ومن هنا كان الجواب الصادم بأن هذه الحياة الجديدة لا تخلو من الصدامات، لأن مشاكل الماضي هي سلسلة مربوطة بالحاضر والمستقبل، ولا يمكن التنصل منها أبدا مهما كان سواد هذا الماضي وإشراق الحاضر والمستقبل.

والدليل هو الارتباط الواضح بين الأطفال ومشاكل أسرهم، إذ ارتبطت بهم بشكل جيني سواء الأب الموسيقي وابنته صوفيا، أو الفنانة التشكيلة التي تبحث عن علاقة لتستمر من خلالها، أو المصور الذي سمح لنفسه أن يتلاعب بمراهقة، وغيرها من الشخصيات الأخرى. والنتيجة هي أن الجيل الذي عاش في عهد الدكتاتور أوغستو بينوشيه يحمل الكثير من الأمراض النفسية والمشاكل الجوهرية، والتي ستبقى معه إلى أي مكان يلجأ له، وأكثر من هذا سيُورّثها لأجيال أخرى، والدليل هو الحريق الكبير الذي أتى على الغابة، حيث أتى على أحلامهم، وخرّب أماني العزلة.

صورة بانورامية للغابة البعيدة الآهلة بالسكان والأطفال، وهو تفسير بصري لثنائية العزلة والفوضى في الفيلم

 

سينما الكثرة أو سينما العدد

سينما الكثرة أو سينما العدد، هو مصطلح يمكن أن نطلقه على الأفلام التي توظف عددا كبيرا من الشخصيات، ويمكن أن نُدخل هذا الفيلم في هذه الخانة، حيث استطاعت المخرجة الشابة دومينغا سوتومايور أن تتحكم بأكثر من 30 شخصية في الفيلم من فئات عمرية مختلفة سيّرتها كما ينبغي، وأدّى من خلالها كل ممثل دوره كما ينبغي، وعاش انفعالات الدور وتقلباته.

وهذا ما لاحظناه مثلا في شخصية صوفيا المراهقة (هيرنانديز ديمان) التي عكست دور المراهقة المنطوية على نفسها، وخائبة الظن التي تبحث عن دور لها في الحياة، بالإضافة إلى الفنانة التشكيلية “إلينا” التي لعبت الدور الممثلة المعروفة “أنطونيا زيغرز”، إضافة إلى المصور إيغناسيو صاحب الدراجة النارية، ناهيك عن العديد من الأطفال والمراهقين الآخرين الذين شكلوا تجربة تمثيلية مقنعة جدا، وتشي بمستقبل كبير للكثير منهم.

من جهة أخرى وُفقت المخرجة في اختيار فضاء التصوير، حيث كانت المناظر الخارجية التي التقطها المصور “إنتي بريونيز” فارقة في الفيلم، وخلقت العديد من الجماليات البصرية، خاصة من جانب اختيار الوقت المناسب لتأثيثها بالإضاءة المواتية، وهذا ما حدث مثلا في صورة الوادي حين ركن الأطفال دراجتهم وتجمعوا بجانب جذع الشجرة اليابسة.

كما كان للصور البانورامية نصيب، من بينها تلك التي تُظهر الغابة والمدينة البعيدة الآهلة بالسكان، وهو تفسير بصري لثنائية العزلة والفوضى. أما من ناحية البناء فقد كان متقنا لدرجة كبيرة، رغم صعوبة توزيع الحوار على هذا العدد الكبير من الممثلين، لكنه احترم هرمية السرد، ومن خلاله جاء المونتاج “كاتالينا مارتين” سلسا ومقنعا، وخلقت من خلاله لغة موازية، ما يثبت بأنها تملك دراية كبيرة بفنون المونتاج وفلسفته.


إعلان