بين صفوف “اليَمين البديل”.. جاسوس يخترق الوكر النازي

قيس قاسم
بدخوله متنكرا بشخصية وهمية إلى صفوف المنظمة اليَمينية الأكثر تطرفاً في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، يُعرِّض المخرج السويدي باتريك هيمانسون حياته للخطر، ويجعل من مهمته التي قرر خوضها بنفسه تطوعا لكشف أسرار منظمة “اليمين البديل” عُرضَة للكشف، وبالتالي لاحتمال فشل محاولة سينمائية جريئة تطمح في توثيق أفكار قادتها بالصوت والصورة.
ومع ذلك نجح وخاض التجربة وسجّل تفاصيلها، ونقل مشاعره وخوفه خلال أشد اللحظات حرجا، مما أحاط وثائقي “جاسوس بين صفوف اليَمين البديل” بجو متوتر يُذكّر بأفلام “الإثارة والتحري”، وأعطاه طابعا شخصانيا كون الطرف الأساسي في القصة هو الرجل الذي خرق أسوار المنظمة القومية المتشددة بعد أن خدع أخطر رجالاتها؛ متسلحا بكاميرا خفية لا غير.
منظمة “اليَمين البديل” تحيطها السرية، ومع كونها حديثة العهد فإنها قدمت نفسها كبديل عن اليمين المتطرف التقليدي، وسرعان ما توسعت مساحة تحركها، ولم تبقَ في حدود جغرافية الولايات المتحدة التي انطلقت منها، بل وصلت سريعا إلى أوروبا وخاصة إلى بريطانيا، ولهذا فكّر المخرج السويدي بالذهاب إليها أولاً وخرق أوكار قادتها وتوثيق تحركاتهم متنكراً بشخصية طالب دراسات جامعية يُعدّ بحثا عن الحركات اليَمينية في أوروبا.
اختراق أسوار قلعة “اليمين البديل”
تبلورت فكرة “الاختراق” بعد مقابلة المخرج للناشط البريطاني جوي مولهول -وهو أحد مؤسسي حركة “الأمل لا الكراهية”- وبتوصية من صديقة سويدية موثوقة عَرَفت هيمانسون قبل أن يصبح مخرجا سينمائيا. فقد انشغل منذ مراهقته بسؤال الهوية والتمييز العرقي، ووضع لاحقا -بوصفه ناشطا مجتمعيا- خارطة تفصيلية للحركات النازية الغربية، وقدمها كهدية للجمعية السويدية المناهضة للفاشية عام 2016.
منذ اللحظة الأولى التي تم فيها التعارف بينهما، شرع الفيلم بأخذ طابعه المتوتر، فالمخرج السويدي لم يقدم نفسه بطلا بقدر احتفاظه بصفته إنسانا عاديا لا يتردد في التعبير عن مخاوفه من تبعات المهمة التي شجعه عليها الناشط البريطاني، وظلّ قريبا منه يتابع بقلق كل خطوة يخطوها “الطالب السويدي” باتجاه “الوكر” النازي.
البوح بمشاعره إزاء ما يسمعه من قادة التنظيم من أفكار ونقلها إلى مشاهده كما هي؛ جعل من نصه السينمائي منجزا رائعا، هذا إلى جانب عرض ما امتاز به من شجاعة ورباطة جأش أظهرهما في أشد المواقف خطورة، والتي بدورها جعلت منه مغامرا أكثر منه مخرجا سينمائيا محايدا.
استفاد المخرج السويدي كثيرا من تعرفه على الناشط البريطاني، لأن الأخير لم يكتف بتقديم معلومات مهمة له عن طبيعة عمل المنظمة اليمينية السرية الطابع والتحرك، بل زوده بمعطيات دقيقة كان يجهلها عن “منتدى لندن”؛ الفرع التمويهي الذي يُسَهل لقادة الحركة التحرك بحرية في لندن.
فالـ”منتدى” كما يُجليه الوثائقي هو ملتقى أكبر منظمتين متشددتين هما “الحزب القومي البريطاني” و”الجبهة القومية”، ويديره رجل غامض، وكانت فكرة التعرف عليه وكشف هويته من بين أولى وأخطر المهمات التي تحمّس لها مخرج الوثائقي والناشط البريطاني.

دعوة للكراهية ونبذ الجنس الآخر
قبل الشروع في “الاختراق” يقدّم الوثائقي السويدي البريطاني المشترك “جاسوس داخل اليَمين البديل” لمُشاهده نبذة عن أفكار قادة المنظمة وأيدولوجيتهم التي يؤمنون بها، فقد اجتزأ قسما منها من تسجيلاته السرية من أجل إحاطة جمهوره علما بطبيعة المهمة التي يخوضها، وأهميتها النابعة من رغبته في كشف الأفكار البغيضة التي تمجّد العنف وتدعو لكراهية الآخر، وإلى تغليب العرق الأبيض على غيره، والادعاء بتعرضه لخطر الزوال على يد المهاجرين والمسلمين.
أفكار صرحوا بها دون علمهم بتسجيلها، وهي من قبيل إعادة كل المهاجرين إلى أوطانهم، وإذا تطلب الأمر رميهم في البحر بدلاً من إنقاذهم من الغرق، والدعوة إلى وضع إستراتيجية لمواجهة “حرب الأعراق” المقبلة، والتي يشيعون اقتراب موعدها وضرورة أن يخرجوا منها منتصرين.
ومن بين أكثر أفكارهم مبعثاً للاستغراب كراهيتهم للمرأة، وتكريسهم للذكورية تطبيقا وتنظيرا، فالخوف من المرأة عند البديل المتطرف نابع من توهمه بفكرة مفادها أن المرأة سهلة الوقوع في حبائل المسلمين، كما يقدمون في دعايتهم مثالاً افتراضياً “تصوروا لو أن امرأة غربية أحبت رجلا مسلما أو تزوجت من أسود، ماذا ستكون النتيجة؟”.. ستكون كارثية بالنسبة لهم، وستشكل العلاقة وما ينتج عنها خطرا على مستقبل الجنس الأبيض برمته.

العرق الآري النقي.. النظرية النازية
ستتضح أفكارهم أكثر كلما اقترب “الجاسوس” من المركز، وكلما زادت الثقة به من قبل قادة التنظيم الذين انطلت عليهم حيلته بسبب قناعتهم العنصرية التي تفترض مسبقا عنصرية الأوروبي الشمالي واستعداده الكامل لقبول دعوتهم.
لقد استغل المغامر السينمائي مواصفاته “الشمالية” ليقنع العنصريين بصحة ادعائه بأنه طالب متحمس لدراسة حركتهم أكاديميا وتعريف الناس بها، لكنه في الوقت نفسه كان يواجه في كل لحظة اختبارا حقيقيا بمدى تماسكه وقدرته على مواصلة التخفي.
سويديته سهلت عليه إقناع ستيد ستيدمان -أحد أقطاب الحركة والرجل المتنفذ في “منتدى لندن”- بصفته طالبا في جامعة كولج، وما سهل عليه الأمر أكثر هي الخطوات الاحترازية التي قام بها، فقد غير اسمه من على كافة وسائل التواصل الاجتماعي، وزوّر هويته الحقيقية إلى جانب وجود عامل شخصي آخر، فالقائد العنصري كان معجباً بحركة النازيين الجدد السويدية، وخرج بعد حضوره اجتماعا لها في العاصمة أستوكهولم بانطباع إيجابي عنهم، وبأنهم مختلفون عن بقية عنصريي أوروبا بمستوى تعليمهم العالي، وبظهورهم أمام الناس بشكل مقبول عبر ملبسهم الأنيق وقدرتهم المدهشة على خرق المؤسسات الرسمية السويدية بيُسر ودون مشاكل.
كان ستيدمان مقتنع حتى النخاع بأن أصل العرق “الآري” النقي كما تزعم النظرية النازية؛ هو شمالي أوروبي لدرجة شجعته على تعلم السويدية، ودفعته لدعوة المخرج الوثائقي إلى أن يكون معاونه في لندن على تقويتها، مما سهل على هيمانسون حضور جلسات “المنتدى” واجتماعات قادته، مزودا على الدوام بكاميرا مخفيّة تحت قميصه.

الدعاية والإثارة والتوجه إلى العامّة
من خلال حضوره اجتماعات “منتدى لندن” توصّل صانع الوثائقي إلى حقائق مهمة من بينها؛ سرية عقد اجتماعات قادته وإحاطة تحركاتهم بمزيد من الحذر والترقب، وعلى مستوى نشر الدعاية اعتمدوا على وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل خاص على إنتاج أفلام دعائية قصيرة تُنشر مباشرة على يوتيوب.
ومن بين ما سمعه من توجيهات لنشطائهم ضرورة تجنب المساءلة القانونية، وذلك عبر تجنب الوقوع في هفوات يمكن للمحامين الولوج عبرها لإدانتهم، مع التركيز المستمر على جانب “الإثارة”. ومن بين تلك المسائل المثيرة للانتباه التشكيك بأعداد ضحايا الهولوكست، ومبالغة اليهود في وصف ما تعرضوا إليه إبان الحرب العالمية الثانية.
المراد بهذه الطروحات ليس مناقشة حقيقة تلك الأرقام والادعاءات بقدر التخطيط لجذب انتباه وسائل الإعلام إلى مثيريها، ودون وقوعهم في مشاكل قانونية. كان يهمهم ظهور بعض عناصرهم النشيطة في وسائل الإعلام، والتوجه عبرهم إلى العامة بخطاب شعبوي يدغدغ مشاعرهم ويثير حفيظتهم ضد المهاجرين وبقية الأجناس عدا البيض.

ترامب.. ملهم اليمين البديل
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أحد ملهمي قادة “اليَمين البديل”.. تلك الحقيقة المثيرة يتوصل إليها الوثائقي عبر أحاديث زعماء التنظيم، ومن خلال إجاباتهم على سؤال طرحه “الطالب”: لماذا لم تظهر حركتكم إلا في السنوات الأخيرة؟!
السبب كما أكدوا يعود إلى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، فبعد وصوله أصبحت أفكارهم أكثر قبولا، وانتابهم شعور بعد انتخابه أن الريح أضحت تجري وفق مزاج سفنهم، فهم رأوا فيه مثالا، وفي خطبه وسياساته توافقا مع ما ظلوا يضمرونه سرا، لم يخفوا فرحتهم به، وأحالوا صعودهم السريع إلى خطاباته الشعبوية.
اتخذوا من رسومات التحريك “الضفدع بيبي” المقلدة لشخصية ترامب معبرا لنقل أفكارهم إلى الناس، وذلك تحت ذريعة الفكاهة، لكنهم أخفوا تحتها أفكارهم الحقيقية وثبتوا وجهات نظرهم، وفي لحظة الاحتجاج عليها كانوا جاهزين للإنكار والادعاء بأنهم استخدموها على صفحاتهم الترويجية على سبيل المزاح لا أكثر.
لم يكتفوا بفرحتهم بفوز ترامب بل بالغوا وادعوا أنهم هم من أوصلوه إلى السلطة، وظلوا يرددون أمام الطالب الجامعي عبارة “لقد انتخبناه”، وذلك في إشارة إلى أفضالهم عليه في الوصول إلى دفّة الحكم. لقد سقطت الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية في فخهم وراحت تردد: وصول الرئيس جاء بفضل “قوة اليَمين البديل”.

عرّاب المنظمة.. أوروبا وأمريكا للبيض فقط
ينجح “الجاسوس” السينمائي في الوصول إلى عرّاب المنظمة ورأسها المفكر، ففي إحدى اللقاءات التي حضرها في لندن عرّفه القائد الإنجليزي الشمالي الهوى ستيدمان على غريغ جونسون، والذي سيتَبيَّن لاحقاً أنه العقل المفكر للتنظيم، والذي ظل بعيداً عن الأضواء يخطط وينشر الأفكار عبر مساعدين له.
سيُقنع “الطالب” الزعيم السري الذي ظلت صورته مجهولة بإجراء مقابلة خاصة معه، حيث اقترح أن يكون مكان عقدها في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عقر دار المنظمة التي تتحرك هناك بحرية تامة ودون خوف.
انتقاله من لندن إلى كاليفورنيا أثار الخوف في نفسه، فهذه هي المرة الأولى التي يشعر أنه معزول عن النشطاء البريطانيين، وأنه في حضرة مجموعة مسلحة يمكنهم قتله ورمي جثته في الغابة دون علم أحد، والذي زاد من مخاوفه أن قوانين الولاية تمنع تصوير الأفراد سرا، لهذا نصحه صديقه البريطاني بالتخلّي عن الكاميرا عند مقابلة غريغ، فأخذ بنصيحة صديقه لكنه احتفظ بحقه في تصوير المناطق الخارجية المحيطة بمقر المنظمة بواسطة كاميرا الهاتف المحمول.
وكان أخطر ما ذكره العرّاب إيمانه بقومية البيض، وحق تقسيم الدول وفق انتمائها العرقي. فأوروبا هي بالنسبة إليه للأوربيين البيض فقط ولا مكان لغيرهم فيها، والحال نفسه بالنسبة لأمريكا، إذ لا مكان فيها للسود واليهود والمسلمين.

اليمين والبيت الأبيض.. مساع للتنسيق
بعد الانتهاء من المقابلة تعرّف “الطالب” على مؤدلِج الحركة العنصري الكرواتي الأصل تومسلاف سونسيك، وهو الأديب والدبلوماسي المعروف بدعمه المنظمات والحركات النازية الأمريكية. لقد كان أكثر صراحة ووضوحاً من “العرّاب”، فقد طالب بطرد اليهود الأمريكيين إلى إسرائيل، ووصف الجامعات الأمريكية بأنه “ماخور اليساريين”، وأنكر وجود حرية حقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية لتقييدها حرية تحرك المنظمات اليَمينية المتطرفة، لهذا دعا الطالبَ لحضور حشد لمؤيديه ينعقد في مدينة واشنطن افتتح فيها مركزا جديدا للمنظمة أطلقوا عليه اسم “منتدى الشمال الغربي”، ويضم العدد الأكبر من أعضاء المنظمة وغالبيتهم من الشباب.
ومن هناك انتقل لمقابلة جاسون جورجاني في نيويورك، والذي يصفه الوثائقي بـ”الإستراتيجي الجديد للمنظمة”، ومن أهدافه فتح خط بين المنظمة وبين إدارة البيت الأبيض، وضرورة الضغط المستمر على قادته للخضوع لإرادتهم وتحقيق مطالبهم استغلالاً لحسن علاقة المنظمة بالرئيس ترامب. أما طريقة الوصول إلى ذلك فبرأيه يأتي عن طريق تعيين مستشاريين للرئيس من قادة الحركة العنصرية ينصحونه بما عليه فعله للحفاظ على “نقاوة” بياض الأمة الأمريكية.

مشهد ختامي.. وحشية اليمين
يسجل المخرج بكاميرته وأثناء وجوده في التجمع الذي دُعي إليه؛ الاستعدادات المسبقة والتخطيط المتعمد لتصعيد المواجهة مع المناهضين السلميين لهم، فينقل إثارتهم الشغب وتهييج الخصوم لإحداث تصادم مفتعل يُظهرون من خلاله قوتهم وسيطرتهم. وسيبقى مشهد دعس أحد أعضائهم عدداً من المناهضين لهم بسيارته وموت شابة تحت عجلاتها؛ علامة على وحشية التنظيم، وعلى حسن علاقته بالرئيس ترامب عندما ظهر الأخير في مؤتمر صحفي عاجل ندد فيه بالمتظاهريين السلميين وبرأ ساحة المتطرفين.
مشهد ختامي مؤلم يُنهي زمن فيلم وثائقي مثير ربما يُعد الأول في كشفه وجوه قادة تنظيم سري ظلت مجهولة وبفضله عرفها العالم، وبفضل ما سجله سيُحاكم بعض قادته بالسجن، فيما سينتقل عدد منهم إلى النشاط السري “تحت الأرض” ثانية بعد أن ظهروا إلى العلن، وبعد المجاهرة بأفكارهم العنصرية عقب وصول ترامب مباشرة إلى البيت الأبيض.
لم ينته التنظيم بعد كشف “الجاسوس” جزءاً كبيراً من خباياه وتعرية مرجعياته الفكرية وأنه امتداد طبيعي لمنظمات عنصرية ويَمينية ازداد نشاطها بشكل كبير منذ هيمنة الشعبوية على المشهد السياسي الأمريكي والغربي.