آثار في خطر.. كيف تُسرق ذاكرة الشعوب؟

رحمة الحداد
في فيلمه “المومياء” يتناول المخرج المصري شادي عبد السلام بشعرية شديدة العلاقة بين الهوية والتاريخ، بين الذاكرة الجمعية والآثار، وذلك على خلفية موضوع سرقة الآثار المصرية وتهريبها والتكسب منها بشكل غير شرعي.
الآثار شيء حي يتنفس ويعيش ويُغيّر نظرة البشر للحياة ولذواتهم، فعلى الرغم من جمودها وثباتها كونها من حجارة فإن هذا لا ينفي عنها صفة الحياة. إنها تذكار السابقين للاحقين، وطريقة لإثبات الوجود سواء أكان حضاريا أم احتلاليا، لكن حتى وإن كان من النوع الثاني فهو يصبح جزءا من ثقافة بلده.
في بلد مثل مصر حضارتها فرعونية بشكل أساسي، لا يتم إنكار وجود الآثار اليونانية والرومانية وتأثيرها على تاريخها وسياحتها في الإسكندرية مثلا، فالبلد كله يتشكل من تراث مثل هذا؛ فرعوني ويوناني وإسلامي وقبطي وغيرها، فمثال المومياء غرضه ربط ذلك التراث بالذاكرة وبوجود الإنسان المعاصر نفسه، وبسرقة الآثار وبيعها يُسرق جزء من ذاكرة الوطن بل والعالم والحضارة كلها.
فكرة ربط الآثار بالذاكرة تتكرر في السينما الروائية بشكل رمزي وشعري، لكنها أيضا موجودة بشكل وثائقي مثل فيلم “ذاكرة في خطر” (2018) –وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية- الذي لا يـتناول الذاكرة بشكل مباشر لكنه يتتبع بشكل بوليسي عصابات سرقة الآثار التونسية، وكيف يمكن لذلك أن يأخذ قطعة من تاريخ ذلك الشعب العريق الذي تتابعت عليه الحضارات وكل منها ترك بصمته بشكل حرفي ومعنوي.
بعد قيام أول شرارة في ثورات العالم العربي من تونس، صوّر بعض الثوار أجزاء من داخل بيوت الأسرة الحاكمة فوجدوا فيها فخاريات وتحفا منزلية وتماثيل من عصور مختلفة منها الروماني والقبطي تقبع في المنازل بهدف الكسب السريع والسهل. فتونس بلاد غنية بالآثار التاريخية والجيولوجية المتنوعة، لكن لا أحد على دراية بذلك ولا يهتم أحد بذلك أيضا، يحدث الاهتمام فقط إذا تقرر بيعها والتكسب من ورائها عن طريق عصابات منظمة تنتظر شرارات الفوضى لتستغل قيمتها المرتفعة ماديا، أو لبيعها لبلدان أكثر تقديرا لثقلها التاريخي، لكن لماذا نسمي ذلك “سرقة الذاكرة”، وكيف نربط مفهوم الذاكرة نفسه بالتراث؟
الآثار.. للماضي أم للمستقبل؟
“نعمل الآن على تحسين بيئتنا للمستقبل، نتذكر الآن ونتعلم الآن، وكأننا نعدل من أنفسنا لنكون أكثر فاعلية في المستقبل”. يُجادل المخطط العمراني كيفن لينش في المقولة السابقة في أن الهدف من استحضار الماضي يجب أن يكون من أجل خلق بيئة يسهل التعلم منها، وذلك عن طريق ربط اللحظة المُعاشة بالسياق الزمني الأوسع، لكن ليس هكذا تم حفظ المواقع الأثرية لأعوام، فليس فقط من أجل التعلم والقيم التطبيقية والعملية إنما يُمكن الجدال في أهداف أكثر تجريدا وعاطفية.(1)
بشكل عام لطالما كان حفظ الآثار ولا يزال مرتبطا بفكرة الفخر بأمجاد السابقين، وفكرة الخلود التي كانت تسيطر عليهم وجعلتهم يفكرون من الأساس في توثيق أنفسهم وحياتهم في هيئة تماثيل ورسوم ومعمار، فمثلا في القرن التاسع عشر كان من المعتاد ترميم المواقع الأثرية وإرجاعها لما يشبه حالتها الأصلية في الزمن الذي شُيّدت به، لكن مع الوقت تم تبني حركة عالمية بدأت في فرنسا تعتمد على ترك كل أثر بتأثيرات الزمن عليه دون ترميم أو تجميل صوري مصطنع، فالآثار باقية ناقصة أو كاملة، فهي تمثل دلائل على ما حدث لها على مدار العصور، وربما يكمن أكبر تأثير على تلك الحركة في كلمات الناقد الفني الشهير جون راسكين حين قال “إن الآثار لا تنتمي للأجيال الحالية، ولا يحق لأحد أن يعبث بها، ويجب حفظها تماما كما وجدت في حالتها الآنية”.
مؤخرا يتنامى الوعي بأهمية حفظ الآثار والمواقع الأثرية وفهم قيمتها كهوية محلية وإرث حضاري عالمي، فوجود آثار من ثقافات مختلفة داخل أخرى وحفظها جيدا يعزز نوعا من الرباط الإنساني بين مجموعات متنوعة من البشر في سياقات تربطها مفاهيم مثل الذاكرة التاريخية والفخر القومي.

الآثار والذاكرة.. بشاعة النسيان
“بعد أعوام عدة من الآن، عندما أنساك وأنسى قصص حب أخرى مثل تلك التي تحدث لمجرد العادة، سأتذكرك كمثال لنسيان الحب، تلك العلاقة ستذكرني ببشاعة النسيان”. جاء ذلك الاقتباس على لسان البطلة غير المسماة في فيلم “هيروشيما حُبي” للمخرج الفرنسي آلان رينيه، ويروي الفيلم قصة حب دقيقة ورقيقة بين شاب ياباني وفتاة فرنسية، ويتعامل الفيلم مع تلك القصة الرومانسية بتشبيهها بالقنبلة التي تسببت في دمار بلدة هيروشيما، وكيف ذهب للنسيان أناس ووجوه وعائلات وقصص حب صغيرة، كل ذلك التاريخ تم محوه في لحظات بسبب ارتباطه بالمكان، فهنا يجعل رينيه الذاكرة الشخصية ذاكرة مدينة وحضارة متمثلة في هيروشيما المنكوبة، لكن من نجى سيتذكر المكان بآثاره وتفاصيله الدقيقة، لكن لا يضمن له شيء أن يتذكر إلى الأبد، كالناجي من قصة حب عنيفة وملتهبة يتصور أنها تستعصي على النسيان.
ترى المعمارية دولوريس هايدن أن الأماكن مسؤولة عن جعل الذكريات تتلاحم بطرق معقدة، وأن مفهوم الذاكرة بطبيعته مرتبط بالمكان، لهذا عادة ما تستدعي الأماكن ذاكرة بصرية، وهو ما يمكن استخدامه بشكل مجتمعي على نطاق أوسع مثل التاريخ العام، مما يمد المجتمعات بسلطة ما لتفهم ذاكرة تاريخها الجمعي وتتوحد معه.
يميل الناس لتوثيق الأحداث المهمة في حياتهم، وعادة ما يتم ربط ذلك تلقائيا بأماكن حدوثها، الأماكن التي ولدوا فيها والشوارع التي نشؤوا فيها أو المدارس التي آوت مراحل تعليهم المختلفة. ترتبط الأحداث التاريخية كذلك بشكل مباشر أو غير مباشر بمكان معين حسب أهمية الحدث، فبعض الأماكن تمثل تذكارات لفتراتها التاريخية، لذلك تملك الأماكن القوة لترشد مجتمعاتها، تفسر تلك الفكرة رغبة أي مستعمر في أن يحول مظهر المباني لتشبه ثقافته التي جاء منها، ويطمس الثقافة التي حلّ عليها مهما كانت عراقتها، وذلك كنوع من السيطرة وفرض أساسات جديدة وارتباطات شَرطية متعلقة في نيته بصبغ المكان بخلفيته التاريخية هو، وجعله مرجعية للقادمين، فالإسكندرية مرتبطة بشكل شرطي بالعمدان اليونانية وتيجانها المزخرفة والمسرح الروماني الدائري، مما يجعلها في الثقافة والذاكرة الجمعية جزءا من مصر، لكن في يوم من الأيام مرت عليها ثقافة أخرى لا يمكن محو تأثيرها إلا بإحلاله بالهدم المباشر.

تونس.. بقايا قرطاج
إذا ذكرنا ما يحدث في تونس كمثال لسرقة الذاكرة، فإننا سنتطرق لأمور أكثر تعقيدا، فالآثار نفسها يمحو بعضها بعضا لفرض الهوية. على سبيل المثال محا الرومان أجزاء من قرطاج القديمة كي يسيطروا مكانيا وثقافيا ويتوسعوا في البلاد، وبقت تلك الآثار الرومانية حتى الآن، لكنها في حد ذاتها ورغم تاريخها الاستعماري جزء من الهوية والذاكرة المتراكمة، قطع صغيرة من التاريخ تروي ما حدث كما كان.
وُجدت قطع من الآثار الرومانية في منزل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وقد علاها الإهمال وعدم الاكتراث، تنتظر فقط مصيرها في أن تُهرب لكسب أموال طائلة، وربما توضع في متاحف وتُنسب لبلاد أخرى، أو يتم تداولها من يد ليد كقطعة أنتيكة عادية فقط ثمنها غال قليلا.
فكرة الحفاظ على الهوية ليست مقتصرة على الحضارات الأساسية للبلاد مثل الفرعونية في مصر أو الرومانية في إيطاليا، لكنها متعلقة بمفهوم حفظ الذاكرة، واحترام ما تركته الأيام لنا من تذكارات تتكون منها ثقافة وهيئة البلدان، وكون تلك التذكارات تُباع بكل تلك المبالغ عن طريق عصابات منظمة، ألا يعني ذلك أنها ثمينة فعلا؟(2)
المصادر:
1what time is this place?, kevim a. lynch, 1972
2WHAT TO CONSERVE? Heritage, Memory, and Management of
Meanings, Kamel Ahmed, Ehab
http://clok.uclan.ac.uk/11743/1/__lha-012_pers-I_0006E52B_My%20Documents_My%20RESEARCH_My%20Journal%20papers_IJAR_WHAT%20TO%20CONSERVE_%20Published.pdf