“مجاذيب”.. حين تكون الموسيقى ملاذا من ظلمات الواقع

صالح محمد سويسي

مخرجة العمل عملت على إبراز تفاصيل دقيقة من حياة أبطالها داخل منازلهم وبين عائلاتهم

منذ بضع سنوات أطلق صديقي الطبيب والفنان التشكيلي عبد الباسط التواتي ملتقى يهتم بالعلاج بالفن، وقتها استغرب كثيرون وتساءلوا عن جدوى هذا الملتقى وعما يمكن أن يقدّمه الفن كعلاج لبعض المرضى أمام الفتوحات اليومية في مجال الأدوية والتكنولوجيات المتعددة في مجالات الآلات والمواد الطبية.

أنا أيضاً تساءلت وطرحت أسئلة كثيرة على الطبيب الفنان الذي يؤكد في كل مرة أنّ التوجه نحو التداوي بالفن فرضته تحولات عميقة ومقلقة على المستوى الصحي والنفسي، فضلاً عن مشاكل اجتماعية ونفسية تؤدي إلى الانقطاع المبكر عن الدراسة أو الهجرة السرية وغيرها من القضايا التي تطرح نفسها بشدة، كما أن التونسي عموماً لا يؤمن إلا بالعلاج الكيميائي.

التواتي يرى أن من الضروري أن يعلم الناس أن المعالجة بالفنون ممكنة وأثبتت نجاعتها وخاصة في الجانب الوقائي لدى الأطفال والشباب.

نقاشاتي الطويلة مع صديقي الطبيب الذي يصرّ على أن الفن بوابة نحو الشفاء من أمراض كثيرة عادت إلى ذهني وبقوة حين شاهدت شريط “مجاذيب” للمخرجة والمنتجة التونسية شيراز البوزيدي لأول مرة، فقد قررت أن أعيد مشاهدته مرات أخرى، لأنني وجدتني أمام حالات متفرّدة في التماهي مع الفن عموماً والموسيقى بشكل خاص، فيما يُحيل مباشرة لتلك العلاقة العميقة أو الحبل السرّي الذي يجمع أطفالاً يعيشون ظروفاً اجتماعية ونفسية غير عادية بإيقاعات موسيقية مخصوصة دون أن يكونوا قد حصلوا على تكوين أكاديمي فيها، بل تسرّبت إليهم من خلال التواصل الشفاهي.

مجموعة من الأطفال تربطهم علاقة الجوار وعلاقة عشق الإيقاعات التي لا تمثل مجرد أصوات تصدر عن آلات الإيقاع أو أية أداة أخرى تصدر صوتاً، بل هي خطوة أخرى نحو الانجذاب في شقّيه؛ انجذاب روحي صوفي وانجذاب نحو الموسيقى، وفي الحالين تتأسس علاقة لا يمكن تحديد ملامحها ولا تفسيرها خاصة مع عمر الأطفال، ففيهم من لم يتجاوز الثالثة عشرة، لذلك يبدو الأمر غريباً نوعاً ما.

 

نعم أنا بخير

بينما تنبعث موسيقى السطمبالي بإيقاعاتها المستفزّة غير بعيد، يبدو جسدُ الشاب ممددا على ظهره فوق أريكة مُغمضَ العينين، يداه منقبضتان واحدة فوق الأخرى، كمن يتأهب لمقابلة في الملاكمة في حركات متواترة كمن يرتعش من البرد أو من الخوف، يُصدر أصواتاً تشبه التأوّهات، وتقف امرأة (قد تكون والدته) عند كتفيه وكفّها على جبينه كأنها تضغط على رأسه أو تتحسّس موطن الألم دون أي ردّ فعل واضح.

يسقط الجسد المنكمش الجامد على الأرض أشبه بِعَصاً، يتمرّغ على رخام ساحة المنزل، تزيد حدّة الإيقاعات في وتيرة تصاعدية، يتفاعل الجسد ويتحرك أكثر، ثمّ ينتفض فجأة ويستقيم واقفاً وينطلق في الرقص في حركات هستيرية منتظمة بتحريك الرأس أعلى وأسفل، وتحريك النصف الأعلى من الجسد، فيما تحاول القدمان المحافظة على حالة الوقوف بمساعدة صديق الشاب الذي يقف خلفه ممسكاً تارة به وتارة بقميصه كي يُجنّبَهُ السقوط على الأرض.. لكنه يسقط إثر إحدى الحركات ويواصل رقصه أرضاً في حركات أفعوانية متواترة لينتهي به الأمر للسقوط مرة أخرى.

إنها لحظة الانجذاب القصوى والانقطاع الكامل عن العالم المادي كما يفسّرها المختصون.

يستفيق الشاب بعد وقت، ويقول “أنا بخير الآن، أنا أفضل بكثير”، وهنا يبرز أمر هام جداً وهو ذلك الإحساس بالراحة والسكينة التي توفرت بعد “التخميرة”، أي التماهي مع الإيقاعات وصولاً لمرحلة التخمّر والانسحاب من الواقع بكل تفاصيله.

وكان الشاب تحدث قبل مشهد الانجذاب عن اطلاعه على بعض الكتب التي جعلته يمرض ويشعر بأوجاع في يديه وقدميه ويتهيأ أمامه أشخاص يحدّثونه ويلومونه ويطلبون منه الابتعاد عن “أصحاب السوء” والتقرّب إلى الله بالصلاة والدعاء، كما يطلبون منه أن يقيم “حضرة” وهي الحفل الذي يقدمون فيه إيقاعات مخصوصة ويرقصن ويتناولون فيه “الكسكسي” التونسي بلحم الخراف.

"رَيّونَة" واسمه الحقيقي محمد العبيدي الشاب المولع بموسيقى السطمبالي (موسيقى الزنوج) والإنشاد الديني أو الموسيقى الصوفية

هل هو العلاج بالفن؟

إذاً يبدو أنّ ما حدث كان أقرب لعملية علاج عن طريق تلك الحضرة (موسيقى السطمبالي وإيقاعاتها)، فالشاب يعبّر عن سعادته ويقول أنه أفضل مما كان عليه.

تُصوّر المخرجة كل هذا بدقة متناهية، وكانت صوّرت مشهداً آخر ولكن أقلَّ حِدّة في فضاء إحدى الزوايا، وكأنها ترسم للمُتلقي خارطة طريق لما أرادت إبرازه من خلال تصوير هذا المشهد بالذات، ونقصد تلك الحالة الغريبة التي يتحرّر فيها الجسد من المادة ليصبح ذلك الكائن المتناهي الخفّة لدرجة أنّه يمكنه المرور من ثقب إبرة كما يرى بعض أصحاب الانتماءات الصوفية.

ولكن في اعتقادنا لم تُرِدْ المخرجة إبراز هذا فحسب، بل تجاوزته لتُلقي أمامنا بِحِمْلٍ ثقيل يقبع على أكتاف أبطال فيلمها من الأطفال والشباب الذين يعيشون التهميش واللامبالاة من حكومات بلادهم المتعاقبة، والتي لم توفر لهم الحدّ الأدنى من الظروف التي تحفظ كرامة الإنسان، فلا يمكن بأيّ حال أن نُلقي اللومَ كلّه عليهم أو على عائلاتهم فيما يعيشونه من فقر وخصاصة وانحراف أحيانا (التدخين وشرب الخمر).

لكن قد يكون هؤلاء محظوظون رغم كل ظروفهم المقلقة، ذلك أنّ انجذابهم نحو الموسيقى شكّل منفذاً آخر نحو عوالم أرقى وأنقى ولو على مراحل، وهو ما يلمسه المشاهد من رغبتهم في التطوّر وتحدّي الواقع المحبط نحو آفاق أكثر رحابة.

وحتى إن كان كسب المال هو الحافز الأساسي، فسوف تتشكل الرؤية الفنية والرغبة في الانعتاق من خلال الموسيقى ولو بعد حين.

تفاصيل مُحفّزة

مخرجة العمل عملت على إبراز تفاصيل دقيقة من حياة أبطالها داخل منازلهم وبين عائلاتهم، وأطنبت في التفاصيل أحياناً لتبرز حالات الفقر الذي يعيشها كل فرد منهم بما في ذلك “رَيّونَة” واسمه الحقيقي محمد العبيدي، وهو الذي يجمع الأطفال والشباب حوله ليكوّنوا تلك المجموعة الموسيقية.

فمشهد علاقة الحب بين أحد أبطال العمل والفتاة الصغيرة والذي تجاوز الإعجاب للارتباط الرسمي في سنّ مبكرة جداً لم يكن مسقطاً، بل كان تتمّة لفكرة المخرجة في تكوين فكرة ضافية شاملة عن شخصيات الفيلم في علاقاتها المباشرة مع واقعها، حيث إنها لم تعتمد على ممثلين هواة أو محترفين بل عملت على استنطاق أشخاص حقيقيين بملامحهم وأسمائهم وسيماهم دون مكياج أو رتوش أو إضافات، ودون حوار جاهز يتمّ حفظه وإعادة قوله أمام الكاميرا.

كان كل شيء تقريباً عفويّاً كما هو أو كما أرادت المخرجة إيصاله لنا كمشاهدين، حيث وجدنا أنفسنا أمام حالات إنسانية مدهشة قد نمرّ من أمام إحداها يومياً، لكنّنا لا نتفطّن لعمق الهوة بيننا كمجتمع وبينهم كأفراد في ذات المجتمع.

تلك التفاصيل من شأنها أن تشكّل حافزاً لدى المتلقّي للتماهي أكثر مع تلك الشخصيات والتعاطف معها والسعي لاستيعاب قدرتها على التواصل من خلال الموسيقى، ومن خلال نقاشاتهم نلمح إحساساً متزايداً لدى أغلبهم بأنهم أكبر من سنّهم البيولوجي، سواء في مناقشة وضعهم أو اتخاذ القرارات وخاصة قرارهم الحاسم بمقاطعة “رَيّونَة” الذي كان محور التقائهم.

يعرض الفيلم الوثائقي قصة محمد العبيدي الشاب المولع بموسيقى السطمبالي، والذي يكوّن فرقة معظم أفرادها من الأطفال والشباب، يطوفون القرى والأرياف والمدن ليقدموا عروضاً بحثاً عن بعض المال

صورة تنطق موسيقى

الفكرة التي بُنِيَ عليها الفيلم راوحت بين انجذابين كما ذكرنا، ونجحت المخرجة في تصوير الحالتين ولو أنها لم تصوّر تلك الحالات في الزوايا التي تحتضنها عادة ولها عذرها في ذلك فقد عاينت شخصياً رفض “المجاذيب” أن يتمّ تصويرهم في حالات التخمّر القصوى وهذا من حقهم طبعاً.

كما نجحت البوزيدي في تقديم صورة سينمائية رائعة بكل المقاييس باعتماد تقنيات حديثة تجعل المتفرج يقف عند فِتنة الجغرافيا هناك في تلك الأرض البعيدة عن أنظار الكثير من التونسيين أنفسهم. جمال الطبيعة بهضابها وجبالها وجمال الطرقات بالتواءاتها وتعرّجاتها، رافقها صوت الفنان معتصم الأمير ابن الجنوب التونسي صاحب الصوت الموغل في جمالية عجيبة تغرف من جمال تلك المناطق البديعة، كل ذلك حمل المشاهد نحو رحلة في الجمال تؤسس رؤية مغايرة لتلك المناظر التي تسحر الناظر، وتحفزه على زيارة الرديّف وما جاورها.

“مجاذيب”.. أو الإصرار على الوصول

يقدم الفيلم الوثائقي للمخرجة التونسية شيراز البوزيدي قصة محمد العبيدي الشاب المولع بموسيقى السطمبالي (موسيقى الزنوج) والإنشاد الديني أو الموسيقى الصوفية، والذي يكوّن فرقة معظم أفرادها من الأطفال والشباب، يطوفون القرى والأرياف والمدن ليقدموا عروضاً بحثاً عن بعض المال.

يتعرض محمد لمظلمة ويقضي شهراً في السجن يخرج بعدها يائساً من كل شيء ورافضاً لكل شيء، حتّى أنه فقد تلك الرغبة في الغناء أو العزف، لتبدأ الخلافات بينه وبين بقية أفراد المجموعة الذين يريدون المواصلة والتطوّر من خلال اقتناء آلات جديدة وملابس خاصة بالعروض، لكنهم يصطدمون برفض “رَيّونَة” أو عدم رغبته فيقرّرون القطع معه وصنع انطلاقة جديدة دونه.

وهو ما يحدث فعلاً، حيث تصوّر المخرجة في نهاية الفيلم مشهد المجموعة ومعهم علي الذي يكبر الجميع سنّاً في سيارة تنقلهم لمدينة أخرى لتقديم عرض.

تقف السيارة فجأة ويخبرهم السائق أنه لن يتمكن من مواصلة الطريق وعليه العودة لأن السيارة أصابها عطب، فتقرر المجموعة إكمال الطريق سيراً على الأقدام في مشهد فيه كثير من التحدّي والإصرار على المواصلة رغم كل شيء.

مشهد من فيلم مجاذيب يظهر جمال جبال الرديّف وطرقاتها الملتوية

ثمّ تأتي الصورة في مشهد بانورامي مدهش لجبال الرديّف وطرقاتها الملتوية، وتخرج المجموعة من أحد المنعرجات بأزيائها التقليدية الجميلة وهي تترنّم بإيقاعات السطمبالي ليُسدل الستار على الفيلم بشكر كل من ساهم فيه وخاصة الشخصيات الحقيقية وعائلاتهم وسكّان الرديّف بشكل عام.

فيلم اختارت له صاحبته عنوان “مجاذيب” وقدمت من خلاله حالات الانجذاب في بعديه الروحي/الصوفي والفنّي/الموسيقي من خلال شخصيات واقعية جسّدت نفسها بكل عفوية وبساطة وأكدت انسجامها مع الحياة بكل قسوتها ورغبتها في المضي نحو الأفضل رغم العراقيل والمطبّات الكثيرة.

فقط نذكر أنّه جاء في معاجم اللغة العربية أنّ المجذوب هو من جُذب أو انجذَبَ، وهو الاستلاب والتسليم والعشق، والمجذوب هو من جذبه الله إلى حضرته لينأى به إلى عالم الحقّ والخلود.

والرجل الانجذاب في الصوفيّة هو حالة من أحوال النفس يغيب فيها القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق ويتّصل بالعالم العلوي.


إعلان