كورسك.. رحلة البحّارة الروس نحو مصائر مجهولة

 

عدنان حسين أحمد

يُعتَبر فيلم “كورسك” للمخرج الدانماركي توماس فينتربيرغ من أفلام “الكوارث البشرية” التي تتبرأ منها الطبيعة، لأنّ مُسبّبيها أو الذين يقفون خلفها هم بشر مثلنا، لكنهم ليسوا بالضرورة أسوياء ولا تخفق قلوبهم أمام فاجعة بشرية مؤلمة أفضت إلى موت 118 بحّارا روسيا من دون أن تهتز شعرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو لحلقته الضيّقة من المستشارين والمسؤولين الكبار الذي لا يجرؤون على تخطّي العَظَمة وتجاوز التجبّر والكبرياء الزائف.

يختلط في هذا الفيلم عنصر التشويق بالإثارة، ويتداخل فيه الترقّب بالحذر، لكنّ المُشاهِد لا يستطيع منع نفسه من الخوف والذعر وهو يرى طاقم الغواصة كورسك برمته ذاهبين صوب مصائرهم المجهولة ما لم تتحقق المعجزة. وتوافق القيادة الروسية على قبول المساعدة الأجنبية التي قدّمتها أربع دول متطورة تقنيا وهي أمريكا وفرنسا وبريطانيا والنرويج التي تعهّد خبراؤها بإنقاذ الناجين من الكارثة بعد الانفجارين الكبيرين اللذين دمرا جزءا من الغواصة، بينما ظل القسم السابع سليما مُعافى لكنّ أسطوانات الأوكسجين تنفد تباعا، والغواصة تغرق.

 

لا يقتصر الانتظار على البحّارة الروس العالقين في جوف الغوّاصة، وإنما يمتدّ إلى آبائهم وأمّهاتهم وزوجاتهم المفجوعات، والأطفال الصغار الذين شعروا بأن شبح الموت المرعب يحيط بآبائهم الذين قطعوا تذكرة الذهاب إلى الموت من دون أي أمل في العودة إلى حضن الحياة العائلية الحميمة من جديد.

كُلفة باهظة

بالرغم من انتماء المخرج توماس فينتربيرغ إلى حركة “دوغما95” التي أسسها مع زميله المخرج لارس فون تريير إضافة إلى مخرجين آخرين رفضوا الاعتماد على الميزانيات الضخمة، وتفادوا استعمال المؤثرات البصرية المكلفة جدا، فإن الكُلفة الإنتاجية لهذا الفيلم الذي يجمع بين الحركة والدراما والتاريخ بلغت 40 مليون دولار أميركي. ومع ذلك حافظ المخرج على قصة الفيلم، وراهن كثيرا على أداء الممثلين الذين ينتمون إلى بلدان عدة من بينها روسيا وفرنسا وألمانيا والنمسا والسويد والدانمارك وبلجيكا والمملكة المتحدة وجعلهم يتحدثون باللغة الإنجليزية بهدف الانتشار الأوسع للفيلم خاصة في أمريكا وإنجلترا وبقية البلدان الناطقة بالإنجليزية.

يعتمد سيناريو الفيلم الذي كتبه روبرت رودات على كتاب “وقت للموت” لروبرت مور، وهذه إشارة واضحة إلى أنّ فينتربيرغ كان يتفادى الخوض في سينما المؤلف، لكنه ظل يراهن على تجسيد رؤيته الإخراجية، وتطويع الآخرين لخدمة هذا الغرض الفكري والجمالي في آن واحد.

قصة واقعية مطعّمة بالخيال

ورغم أنّ القصة واقعية ولم تغادر ذاكرة الكثيرين فإنه طعّمها بشحنات خيالية جعلت الأحداث مستساغة، وقابلة للتصديق في بلد لم يغادر القمع، ولم يكف عن مصادرة حريات الآخرين الشخصية والعامة.

لا شكّ في أنّ الفيلم يطرح أسئلة كثيرة أهمها أنّ النظام الروسي الجديد الذي تسلّمه بوتين، وهو الابن البار للمؤسسة الأمنية “السوفياتية”، ويريد المحافظة على الأسرار العسكرية بشكل عام، ومن بينها إجراء التجارب النووية في أعماق البحار والمحيطات، كما يحاول الحفاظ على ماء الوجه بعد أن خذله الأسلاف وساهموا في تفكيك وإضعاف الاتحاد السوفياتي السابق ليضعوا حدا للحرب الباردة والعداء المُستحكم بين القوتين العُظميين.

يعتمد سيناريو الفيلم الذي كتبه روبرت رودات على كتاب “وقت للموت” لروبرت مور

 

لم يشأ فينتربيرغ أن يقع في أسر المكان الواحد كما هو الحال في فيلم “المُذنب” لغوستاف مولر، أو “الحبل” لألفرد هيتشكوك، أو 127 ساعة لداني بويل، حيث تقع أحداث الفيلم الأول في دائرة شرطة، والثاني في غرفة، والثالث في وادٍ ضيّق بعد أن تقع صخرة على يد البطل وتمنع حركته لمدة 127 ساعة.

يبدأ فيلم “كورسك” بمشهد أُسَري شديد الدلالة حيث بقي الطفل ميشا غاطسا تحت الماء لمدة 57 ثانية، وقد جسّد دوره ببراعة الطفل الروسي”آرتيمي سبيريدونوف”، فيما لعب دور الأب ميخائيل أفرين الممثل البلجيكي “ماتياس سخونارتس”. أما الأم تانيا فقد أدّت دورها الفنانة الفرنسية “ليّا سيدو”، وقد رأيناها في المشهد الافتتاحي وهي تركض خلف ابنها الذي يتهرب من النوم المبكر ويحاول أن يبقى يقظا لأطول فترة ممكنة.

يُعزز المخرج هذا المشهد الأُسَري بحفل زواج يعكس التآزر الاجتماعي للبحّارة الروس رغم أنهم لم يستلموا رواتبهم التي تأخرت في موسكو، ومع ذلك يبيع الملازم ميخائيل أفرين ساعته الثمينة ليقتني عدة زجاجات فودكا ويشرب مع المحتفلين نَخب زواج صديقهم بافل من داريا، ويتمنى لهما حياة زوجية سعيدة.

هذه الفسحة المكانية مقصودة وكأنها تهيئ المتلقين للولوج إلى أسْر المكان الواحد الذي ستقع فيه الكارثة، وكلّما شعر بالاختناق ترك جوف الغواصة وعاد بنا إلى أُسَر البحّارة الذين ينتظرون عودة الرجال الذين ركبوا الأهوال، وسلّموا أرواحهم للمجهول.

أحداث تحت الماء ووقائع على اليابسة

تنطوي قصة الفيلم رغم مأساويتها على نَفَسٍ فكاهي ساخر، إذ تقوم الغواصات الروسية بنقل الفواكه واللحوم إلى إيطاليا، وإذا تعرضوا لهجوم أميركي محتمل فإنهم سيردّون عليهم برمي الخضراوات بدلا من الصواريخ النووية. لقد تضاءل عدد الغواصات إلى الثلث ولم يبق لديهم سوى عدد محدود جدًا من سفن الإنقاذ الأمر الذي يجعلهم بحاجة ماسة إلى الخبرات الأجنبية.

تنطوي قصة الفيلم رغم مأساويتها على نَفَسٍ فكاهي ساخر

 

لم تقم البحرية الروسية بتجارب نووية تحت الماء منذ عشر سنوات، كما أنها لم تطوّر معلوماتها التقنية القديمة التي انتهت صلاحيتها ولم تعد تتلاءم مع روح العصر، لذلك فهي بحاجة ماسة إلى الخبرات الأوروبية والأميركية لكنها تُكابر وتمعن في سياسة الاستعلاء على الآخرين.

يحدث الانفجار الأول في الدقيقة الرابعة والعشرين من الفيلم، ليضعنا المخرج في الانعطافة التراجيدية الأولى، ويزجّنا في العُقدة الرئيسية التي تتفاقم مع الانفجار الثاني، ونظل نترقّب على مدى 80 دقيقة محاولات الطاقم المستميتة للبقاء على قيد الحياة، لكن الوقت كان يمضي بسرعة، وأسطوانات الأوكسجين تنفد واحدة تلو الأخرى.

تتميّز البنية المعمارية للفيلم بمستويين عميقين يشدّان انتباه المتلقي، الأول أن أحداثه تجري تحت الماء، والثاني أن وقائعه تدور على اليابسة.

فمثلما يقاوم البحّارة الانفجارات وشحّ الأوكسجين والاختناق، تتحدى النساء بيروقراطية الجنرالات الكبار الذين يحرّفون الأخبار الواردة إليهم ولا يقولون الحقيقة كاملة، ويتشدقون بفكرة الدفاع عن الوطن، والتضحية بالغالي والنفيس لأجله.

إنقاذ الطاقم أم حماية الأسرار؟

تتضاعف درجة التشويق والإثارة في الفيلم حينما تعلن البحرية الروسية أن هناك ناجين وعددهم 23 بحّارًا، الأمر الذي يدفع كبار الضباط لعقد اجتماعات مفتوحة لا تحيط العوائل بأي معلومة مفيدة، وأهمها قبول المساعدة الأجنبية التي عرضتها الدول الأربع، وكان الجانب الإنجليزي قد وصل إلى مكان قريب جدا من موقع الحدث، وحينما حاول التدخل لإنقاذ الناجين أخبره الجنرال فلاديمير بيترنكو بأنّ فريق الإنقاذ الروسي يعمل بشكل جيد وأن قرار التدخل الأجنبي سيُتخذ غدا.

تتضاعف درجة التشويق والإثارة في الفيلم حينما تعلن البحرية الروسية أن هناك ناجين وعددهم 23 بحّارًا

 

وعلى الرغم من الإغراءات والوعود الجدية التي قطعها العميد البحري البريطاني ديفد راسل بأنه سيُخرج العالقين في غضون ساعات قليلة، فإن الطرف الروسي كان متشدّدا بحجة حماية أسرارهم البحرية، ومحاولة تفادي الإهانة الدولية التي تجرح العقلية العلمية الروسية.

في أعماق بحر بارنس كان الملازم ميخائيل يسأل رفاقه عن الوقت المتبقي فيخبرونه بأنّ أمامه دقيقتين لا غير، وهي مدة ضئيلة جدا لكنها كافية للإعراب عن فخره بالعمل مع هذا الطاقم الشجاع الذي لم يفقد رباطة جأشه إلا باستثناءات محدودة.

ولعله كان يسترجع شريط حياته مع زوجته التي أحبها من الأعماق، ومع ابنه الذي كان يقارع سطوة البقاء تحت الماء طويلا في هذه السن المبكرة، وربما كان يفكر في شكل المولود الجديد الذي ينتظر قدومه على أحرّ من الجمر في هذه اللحظات العصيبة التي تفوق طاقته على الاحتمال.

الابن الذي رفض مصافحة الجنرال

رغم أن “كورسك” فيلم كوارث بامتياز، فإنه فيلم اجتماعي أيضا يقول أشياء كثيرة عن الحُب والعاطفة والتربية المنزلية. فتانيا لم تكن زوجة عابرة تمرّ مرور الكرام، فهي الجريئة والمتحدية التي تريد أن تعرف كل شيء عن مصير البحّارة في غواصة كورسك ومن ضمنهم زوجها.

 كانت تانيا تُقاطع الجنرالات، وتتدخل بذكاء لمعرفة مصائرهم وإمكانية إنقاذهم من عدمها، وعندما عرفت بالخبر الصادم، قالت في حفل التأبين إنها تريد أن تنجب له المزيد من الأولاد لأنها تحبه للأبد مثلما هو يحبها حبا جما لا نظير له.

رغم أن “كورسك” فيلم كوارث بامتياز، فإنه فيلم اجتماعي أيضا يقول أشياء كثيرة عن الحُب والعاطفة والتربية المنزلية

 

 أما الطفل ميشا الذي كان يغوص في حوض السباحة، فقد كان شجاعا هو الآخر حينما رفض أن يصافح الجنرال بيترنكو في الكنيسة، لأنه يشعر بأن هذا الجنرال كان سببا في منع المساعدة الدولية لإنقاذ الناجين، إذا ما اعتبرنا بأن هذا الجنرال الكبير هو المعادل الموضوعي للرئيس بوتين مع اختلاف المنصب الذي يعرفه المُشاهِد سلفا.

يُختتم الفيلم بمشهد معبّر حينما يتبع ضابطان تانيا وابنها، فيشيد به أحدهما عندما يسلّمه ساعة والده التي باعها بغية تأمين حفل زواج صديقه بافل، ويخبره بأنه يقدِّر موقفه الشجاع في الكنيسة بعد رفضه مصافحة الجنرال الذي كان السبب في وفاة الطاقم برمته، ومن ضمنهم والده العزيز الذي رحل تاركا إياه مجرّدا من حنان الأبوة الذي يفتقده في كل لحظة.

 وقبل أن نطوي صفحة الفيلم نقرأ على الشاشة جملة مؤلمة مفادها أن رجال “كورسك” خلّفوا وراءهم 71 طفلا فُجعوا بآبائهم، وستتردد ذكرياتهم أمام أعينهم الحزينة مدى الحياة.

براعة الصوت والصورة

بالرغم من حِرَفية السيناريست، وتمكّن المخرج من أدواته الفنية، وبراعة الممثلين في تجسيد أدوارهم، فإن الفيلم لا يكتمل بعيدا عن التصوير والموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية، إضافة إلى المونتاج.

 ويكفي أن نشير إلى دور المصوّر البريطاني المبدع أنتوني دود مانتل الذي أبهرنا بالصور والمَشاهد المدهشة التي التقطها تحت الماء وعلى اليابسة، وكان كل مشهد بمثابة خطاب بصري له دلالته الكبيرة على المتلقي.

 وقد سبق له أن فاز بجائزتي الأوسكار والبافتا عن تصويره المذهل لفيلم “المليونير المتشرّد”، فلا غرابة أن نرى هذا الكم الكبير من اللقطات التعبيرية التي لا تغادر ذاكرة المشاهدين بسهولة.

بالرغم من براعة الممثلين في تجسيد أدوارهم، فإن الفيلم لا يكتمل بعيدا عن التصوير والموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية

 

 وفي السياق ذاته، فإن الموسيقى المتناغمة مع سياق الأحداث لم تأتِ من فراغ لأن مبدعها هو الموسيقي الفرنسي المعروف ألكساندر ديسبلا الذي حصل هو الآخر على جائزتي أوسكار عن مساهمته الموسيقية المتفردة في فيلمي “فندق بودابست الكبير” و”شكل الماء”. ولعل أي مُشاهد يمتلك أذنا موسيقية مرهفة يتلمّس الحجم الإبداعي الذي تنطوي عليه موسيقى الفيلمين المذكورين.

 أما المونتيرة الآيسلندية فالديس أوسكاديتير، فحصدت العديد من الجوائز العالمية عن الأفلام التي منْتَجتها وأبرزها فيلم “إشراقة أبدية لعقل نظيف”.

لم يجتمع هؤلاء المبدعون الثلاثة إضافة إلى كاتب السيناريو وطاقم التمثيل المنوّع جرّاء مصادفة ما، وإنما جاء نتيجة لدراسة عميقة متفحصة أنجزت هذه التحفة الفنية، وإن كانت ثيمتها مأساوية شديدة الوقع على محبّي الفن السابع.


إعلان