“المليار”.. كوميديا مبكية عن العلاقات الاجتماعية المزيّفة
المصطفى الصوفي
يكاد يكون هذا المشهد مألوفا، في العديد من المدن الكبرى وضواحيها، شاب في مقتبل العمر، حكم عليه القدر بأن يعيش في كوخ حقير، يجر تلابيب أسماله المتسخة في صورة تدعو للشفقة، باتجاه مطرح كبير للقاذورات والنفايات، يبحث مثل باقي الباحثين عن كنز مفقود، يجمع أشياء لا تسمن ولا تغني من جوع، ورق مقوى، وقطع من البلاستيك، ودمية بملامح جامدة، وأدوات صدئة، ومتلاشيات.
الشاب الذي يحتقره الناس، يجر أشياءه تارة، وحين يكلّ متنه، يحملها كصخرة سيزيف، في صورة مليئة بالدلالات والآهات.
“البوعار” كلمة بالعامية المغربية تعني “المفتش” أو “الباحث” وسط كومة من النفايات أملا في إيجاد شيء نافع، هو هذا الشاب الوسيم الذي تنبعث منه روائح كريهة، متسخ الوجه والقسمات، وتلتصق به القذارة بشكل بشع للغاية، وهو ما يجعه الناظر إليه ينفر منه، لا لشيء إلا لأنه يعيش على التقاط ما تجود به القمامة من أجل كسب لقمة العيش بكرامة ومن خير مد اليد للآخرين.
“البوعار” رجل منبوذ في المنطقة التي يسكنها، الكل يتفادى الحديث معه أو التقرب منه، فقط لأن القدر اختاره أن يكون هكذا، لكن هذا الشاب الطموح يعيش مثل باقي الناس، له طموح وأحلام للعيش بكرامة وسلام مهما كان يسكن كوخا حقيرا، وأسماله تدعو للشفقة.
“البوعار” الباحث في الفضلات
تلك بعض من مشاهد حقيقية جسدها الممثل ربيع القاطي في فيلمه الجديد “المليار” (أي “مليون دولار”) لمخرجه محمد رائد المفتاحي، هذا المخرج الشاب الذي يتميز رصيده الفني بعدد من الأفلام القصيرة والوثائقية، ليكون “المليار” الرهان السينمائي الجديد الذي خلق المفاجأة منذ طرحه في القاعات السينمائية المغربية، حيث مكث فيها لأكثر من 17 أسبوعا، وهو رقم قياسي مقارنة بأفلام سابقة لم تصمد أكثر من أسبوع فقط.
فيلم” المليار” حل فريقه ضيفا على المنتدى السينمائي الشهري “أكسيون سات” في الآونة الأخيرة، والذي تحتضنه الخزانة الوسائطية التابعة للمجمع الشريف للفوسفات بمدينة خريبكة، هذه المدينة التي تستضيف كل عام أكبر مهرجان على الصعيد الأفريقي والمتخصص في السينما الأفريقية، والذي كان انطلق منذ سنة 1977، فضلا عن مهرجان كبير آخر هو المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي الذي يحتفي بالسينما الوثائقية عبر عرض أفلام وندوات وتوقيع وتقديم مطبوعات وإصدارات وتكريمات وازنة.
هكذا تزداد نظرة المجتمع لعلي ولد صفية (ربيع القاطي/البوعار) حقارة في الفيلم، هذا الشاب الذي يعيش معزولا عن العالم وعن أهل الدوّار (الكدية)، بسبب تلك النظرة الدونية باعتباره لقيطا، فلا حسَب لا نسب له، فهم لا يقدرونه جزاء العمل الذي يقوم به مهما كان حقيرا، ولا يسألون عنه، بل إن البعض يبالغ في الإساءة إليه والتبرؤ منه وعدم الاقتراب منه، ومنهم من يعامله معاملة سيئة لا لشيء إلا لأنه فقير ويعيش على القمامة ويزاول عملا -مَهما كان شريفا- يرى البعض فيه عملا حقيرا يحدد مستواه في المجتمع، وتلك هي نظرة المجتمع إلى الآخر، حيث مرتبة الإنسان لا تقاس بشرف العمل، بل بالماديات والمظاهر مهما كانت خادعة.
عالم القذارة وعالم الموضة
وفي خضم هذه النظرة المزدوجة للإنسان داخل المجتمع، والمبنية -كما أسلفنا- على المظاهر والماديات، والتي تحدد مكانة الإنسان داخل المجتمع ومدى الاحترام والتقدير الذي يحظى به، يُفاجأ أهل البادية التي يقطن بها علي ولد صفية بخبر قيام لجنة تابعة لمؤسسة دولية تُعنى بمحاربة الفقر بزيارة علي المنبوذ، وشيوع نبأ يفيد بتلقيه في المستقبل مساعدة مالية تبلغ قيمتها مليار سنتيم (أي مليون دولار)، لمساعدته على الحياة وتغيير نمط عيشه.
هذا الخبر غيّر نظرة المجتمع وسكان المنطقة لعلي، وأصبح الكل يتهافت على التقرب منه وكسب وده، فالفقراء والمعوزون يطمعون في معونته، والأغنياء والميسورين يطمعون هم الآخرون في أن تكون لهم حصة الأسد من المليون دولار.
وظل الجميع يترقب عودة اللجنة، في الوقت الذي تهافت فيه الجميع على كوخ علي ولد صفية في مشاهد ساخرة للغاية، حيث تنافسوا على استضافته وتغيير ملامحه ونقله من عالم الفقر والحاجة والقذارة والقمامة إلى عالم الموضة والأناقة والجاه والجمال.
ظل الجميع ينتظر عودة اللجنة وهم يخططون ويحلمون، منهم من قدّم مصاريف مسبقة نزولا عند طلبات علي، أملا في أن يكون المستفيد الأكبر من المعونة الدسمة. لكن في النهاية وعند اقتراب حضور اللجنة، جاء ممثلها، ليفاجأ بأن علي تغير رأسا على عقب، وهو ما أغضبه، لأن اللجة تريد أن ترى علي كما هو لا كما يريد الطماعون أن يصنعوه.
وعبثا حاولوا إعادته إلى ما كان عليه بمساعدة أحد الأطباء، وحين حضرت اللجنة في اجتماع كاريكاتوري وساخر، تعلن في احتفالية أنها تبرعت على علي ولد صفية بنحو خسمين دولارا فقط لا غير، فكانت الصدمة، وانفض الناس من حوله، إلا امرأة واحدة كان يعشقها علي، وأراد أن يتزوجها في عز فقره، لكنها كانت تصده.
روح إنسانية نبيلة
الممتع في الفيلم -ومدته تسعون دقيقة- أن ربيع القاطي وباقي الممثلين والممثلات الذين جسدوا أدوار هذه الحكاية الممتعة، وخاصة منهم الكوميدي محمد عاطر وزهرة صادق وحسناء مومني وعبد الله شيشة وسانديا تاج الدين والممثلة المقتدرة زهور السلمياني، خلقوا نوعا من الفرجة السينمائية الراقية، وذلك عبر توظيف أسلوب بسيط ولغة بدوية كوميدية أحيانا تنهل من قاموس لغوي مغربي يقترب أكثر من مختلف الشرائح الاجتماعية.
وهو الأمر الذي استحسنه الجمهور، ووجد في الفيلم -الذي ركز على موضوع اجتماعي يتعلق بالطمع والعلاقات الاجتماعية التي تحكمها الماديات، دون الروح الإنسانية النبيلة- ذلك العمل السينمائي البسيط في موضوعه، والقوي في طرحه وأداء الممثلين الذين اشتغلوا فيه.
وبهذا استطاع المخرج العزف على الوتر الحساس للمتلقي، الذي تعب من الأفلام الروائية والطويلة التي تغرق في مواضيع وأفكار بعيدة كل البعد عما يريده، والرهان على مواضيع تدغدغ المشاعر، وهو ما يفطن له الجمهور وينفر منه.
مشاعر مزيّفة
مشهد أهل الدوّار وهو ينفضّون من حول علي ولد صفية عند الإعلان عن مبلغ الدعم، كان قويا للغاية، حيث بقيت امرأة واحدة إلى جانبه، وهي المرأة التي كان يتودد إليها دائما، لكنها كانت تصده بدعوى أن أمرها سيفتضح وسط البادية، لكنه كان يريد الزواج بها من غير نفاق أو رياء، ليتأكد من خلال هذا المشهد ومشاهد أخرى لعلي وهو يقترب من تلك المرأة المطلّقة، وهو يحضر لها كيسا من طعام، أو يمنحها قسطا من نقود لمساعدتها على مصاريف الحياة رفقة ابنتها، كل هذه النوايا الحسنة في الفيلم، والروح الإنسانية التي كان علي ولد صفية يخبئها لهذه السيدة النبيلة، بالرغم من مشاعر مزيفة من قبل نساء أخريات، شكلت عنصرا فنيا بارزا وجميلا، التقطه المتلقي منذ بداية الفيلم وحتى آخره، مما يؤكد أن المشاعر والأحاسيس الصادقة والحقيقية هي التي تدوم من غير ماديات ولا “مليارات”.
الكوميديا ملح السينما
وعن هذه التجربة الجديدة أكد المخرج محمد رائد المفتاحي في حديث خاص للجزيرة الوثائقية أن الفيلم حاول أن يدرج نفسه ضمن الأفلام الكوميدية العائلية، علما بأن السينما المغربية تشكو من ندرة هذا النوع من الأفلام وقلة المشتغلين بها، بل إن بعض المخرجين يتأففون من هذا النوع للخوض فيه بحثا عن مواضيع أخرى، موضحا أن الوصفة التي صالح بها الفيلم الجمهور من صالات العرض وهو يقدم لأكثر من 17 أسبوعا، تكمن في قوة وتميز السيناريو الجميل والمحكم الذي كتبه توفيق حماني، بالمعنى الاحترافي للكلمة، وأيضا من حيث الفكرة والبناء الدرامي، وتصاعد الأحداث وانفراجها.
وأضاف أن من مميزات هذه التجربة السينمائية التي عالجت موضوع النفاق الاجتماعي وقدرة الناس وإن كانوا في الأرياف والوسط القروي على تغيير أفكارهم بسرعة كلما تغيرت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لشخص ما، أن المنتج هو والد المخرج، وهي تجربة فريدة في المشهد السينمائي المغربي، فهذا المنتج الآتي إلى عالم السينما من باب الكتابة الأدبية والإعلامية قبل التفرغ للإنتاج؛ يؤمن بأن المنتج من الضروري أن يكون صاحب مشروع إبداعي ورؤية فنية وإمكانات فنية وتقنية تساعد في إنجاح العمل، دون إغفال مقومات النجاح الأخرى والمتمثلة في الانخراط الجماعي لفريق العمل من أجل إنجاح الفيلم.
كما لفت إلى أنه من بين الدعامات الأخرى لتحقيق أفق انتظار الملتقي في الفيلم الذي أنتجه عبد السلام المفتاحي؛ اختيار ممثلين بارزين مشهود لهم في الساحة السينمائية والتلفزيونية، وفي مقدمتهم الممثل ربيع القاطي، ونخبة من الممثلين الآخرين الذين نجحوا في خطف الابتسامة من المُشاهد رغم السياقات السردية الدرامية للفيلم، مؤكدا أن الفيلم بالرغم من طابعه الأكاديمي، فإنه يُروى بمسحة لا تخلو من دراما، فيها بكاء وحزن وآلم، ورقص وإنصات، لتبقى الكوميديا هي ملح السينما، والدراما هي القادرة على تبليغ الرسالة والأفكار، دون حرج وإخلال بالحياة العامة.
بُعد فني وجمالي
وأشار رائد المفتاحي الذي اشتغل في بداية مشواره على بعض الأفلام القصيرة والوثائقية، وأوصل فيلم “المليار” إلى العديد من القرى والمناطق النائية التي لا توجد بها قاعات سينمائية بهدف تقريب الثقافة السينمائية، إلى أن الواقع والانشغال بعين المكان ولقاء الناس والاحتكاك بهم يبقى أكبر تكوين ومدرسة حقيقية، وهو ما تأتّى له من خلال فيلم “المليار” حيث الجلوس مع الناس بعين بلال بمحافظة سطات، والإنصات لهم وتقاسم الكثير من الأفكار معهم، موضحا في هذا الإطار قيمة الفيلم الوثائقي والقادر بكل سحر إبداعي على الاشتغال على الذاكرة والحضارة والمستقبل والثقافة، وعلى جميع الإبداعات والقضايا الأخرى.
كما أعرب عن اعتزازه الكبير للتجاوب الذي لقيه الفيلم أثناء عرضه بالمنطقة التي صُور فيها بحضور أكثر من ألفي متفرج في الهواء الطلق، وخلال إحدى المواسم والاحتفالات الصيفية بتلك المنطقة، وكذا بعدد من المهرجانات، ومناطق تنعدم فيها صالات العرض، كنوع من إعادة الروح والتواصل بين الجماهير والإنتاج السينمائي المغربي، ليبقى فيلم “المليار” للناس ومع الناس، ونموذجا للسينما التي تعالج قضايا المجتمع بملح الكوميديا.
هكذا استطاع فيلم “الميار” الذي أنتجته شركة ندى كوم ديزاين، أن يستوفي في بُعده الجمالي والفني جانبا مهما من التعبير السينمائي الصادق والمشوق، وذلك بأسلوب بسيط ومعبر من غير إغراق المشاهد في دوامة الإبهار التقني المجاني في غياب الحضور القوي للمعنى.
إن سحر النسق الفيلمي هنا يتمظهر عبر قوة السيناريو الذي لامس الكثير من السلوكيات المشينة التي يجب معالجتها في المجتمع، وبالتالي تكون هذه الدراما الكوميدية الحزينة والمضحكة في الوقت نفسه وسيلة لتمرير الكثير من الرسائل، مما يوضح أهمية التجارب السينمائية الشبابية التي يُعوّل عليها من أجل تغيير أوضاع السينما المغربية، خاصة على المستوى الفرجوي والموضوعاتي.