“مُنظّفة غرف الفندق”.. الحرية خارج “سجن الرفاهية”

قيس قاسم

السرد الحكائي مرتكز بأكمله تقريبا على المُنظّفة الشابة التي تؤدي عملها بإتقان وصبر لافتين

يوميات عمل مُنظّفة غرف في أحد الفنادق الفخمة في العاصمة مكسيكو، حولتها المخرجة ليلا أفيليس إلى نص سينمائي آسر، يؤكد من جديد خصوصية السينما المكسيكية وقدرتها على الابتكار والتنويع.

فبعد “روما” الحائز على جائزة مهرجان فينيسيا وغيره من المهرجانات السينمائية العالمية، يأتي فيلم “مُنظّفة غرف الفندق” ليُذَكر بوجود سينما مهمة في الطرف الثاني من الكرة الأرضية غير السينما الأمريكية، سينما تنفرد بأساليب سرد شديدة المحلية إنسانية المضمون، تُحيل اليومي إلى فعل مؤثر، حين يلامس بشفافية جوانب اجتماعية واقتصادية معقدة. هذا ما نلمسه في حياة المنظفة إيفا (الممثلة غابرييلا كارتول) التي تقضي ساعات طويلة في العمل وأحياناً وبسبب بُعْد مسكنها عن الفندق تضطر للمبيت خارجه فتُحرم من رؤية طفلتها.

إلى ذلك العالم، عالم الفنادق وموظفته، تأخذنا المخرجة المكسيكية الشابة في عملها الروائي الأول الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة للدورة الأخيرة لمهرجان مراكش السينمائي الدولي، ومن خلاله ستُتاح لنا فرصة تأمل حال المرأة المكسيكية وفقراء البلاد في منجز ابتعد عن التصادم ومال أكثر إلى عرض المشاعر والأحاسيس الإنسانية.

 

لا مدينة ولا موسيقى

السرد الحكائي مرتكز بأكمله تقريبا على المُنظّفة الشابة التي تؤدي عملها بإتقان وصبر لافتين، تُلَبي طلبات مسؤوليها ولا تتردد في تقديم المساعدة لزملائها حين يكونون بحاجة إليها. صلتها بطفتلها (أربع سنوات) تنحصر بمكالمات هاتفية سريعة تجريها معها، أو مع من يعتني بها في البيت.

من خصائص الفيلم خلوه من الموسيقى واعتماده بدلاً منها على الصوت، فطيلة الوقت نسمع الجُمل الآلية المُنبعثة من سماعات المصاعد التي تعلن عن توقف المصعد أو صعوده وهبوطه، وعند نزولها إلى غرف غسيل الملابس نسمع صوت آلات تجفيف الأغطية الهادر الذي يلغي بعلو نبرته الحاجة إلى إضافات موسيقية. المدينة أيضا لا نراها، فهي مُغيبة تقريبا، لأن إيفا لا تراها إلا عبر نوافذ غرف الفندق أو من خلال زجاج الباص الذي يقلها إلى البيت.

إيقاع العمل اليومي المشدود لا يُتيح لإيفا فرصة التقاط أنفاسها

تآزر أنثوي

إيقاع العمل اليومي المشدود لا يُتيح لإيفا فرصة التقاط أنفاسها، فما أن تنتهي من تنظيف غرفة حتى تطلب منها مديرتها تنظيف الثانية والثالثة وهكذا دواليك، التعب ينهك جسدها ومع ذلك لا تفقد المنظفة لطافتها وابتسامتها.

لقد جُبلت على طيبة، ومن خلالها تذهب مخرجة النص السينمائي الشاعري إلى إبراز تضامن نسائي يتجسد بتفاصيل صغيرة، فأغلب العاملين في الفندق من النساء، والتضامن جلي بينهن، ومشتركات الآلام أيضاً، فأكثرهن يعانين من مشكلات اجتماعية واقتصادية مصدرها الفقر وصعوبة تأمين لقمة الخبز، ويعرفن جيدا فداحة خسارة الواحدة منهن عملها، لهذا يهرعن إلى نجدة أي واحدة تواجه مشكلة ما.

كل مُنَظف يريد الصعود إلى الطوابق الخاصة والتخلص من كثرة العمل ومن تنظيف غرف غالبا ما يتركها أصحابها في حالات مزرية

الطابق “42”

الصمت، عنوان ثانوني تشتغل عليه المخرجة المكسيكية وتستثمره لنقل أكبر قدر من التعابير والأحاسيس عبر الكاميرا، هذا لأن منجزها مُقتصِد في حواراته، صامت مثل بطلته، لا ينقطع صمتها إلا للحظات قصيرة حين تجتمع أثناء فترة الغداء مع زملائها، ومن خلال أحاديثهن تظهر جوانب من حياة البلد وحياة فقرائه وعمّاله، هاجسهم جميعا هو توفير لقمة العيش والتشبث بالعمل خوفاً من البطالة.

لا تميل المخرجة إلى جعل فيلمها ميلودراما بكائية، لهذا كانت متجهة نحو التكثيف، فكل مشهد من فيلمها فيه من قوة التعبير ما يغني عن الثرثرة واللغو، طموح بطلتها مثلاً أن لا تظهر بشكل نافر بل بسلاسة متقاربة مع طبيعتها، فإيفا تريد أن يتحسن حالها في الفندق ويخف عملها وتريد إثبات قدراتها وجديتها للوصول إلى الطابق رقم “42”؛ الطابق الخاص بالنزلاء الأثرياء وأصحاب الامتيازات “في آي بي”.

كل مُنَظف يريد الصعود إلى الطوابق الخاصة والتخلص من كثرة العمل ومن تنظيف غرف غالبا ما يتركها أصحابها في حالات مزرية، تقع مسؤولية إعادتها نظيفة إلى حالتها الأولى على عاتق بسطاء المُنظّفين.

وعدُ مديرة إيفا بنقلها يتكرر، وأملها بالحصول على ما تريد يدفعها لبذل مزيد من العمل والتفاني في إنجازه. لا ينحصر الطموح بالعمل بل في الدراسة أيضا، فالعاملة الطموحة تواظب على حضور الدروس الخارجية التي تقدمها نقابات العمال مجاناً لأعضائها وتتفوق فيها.

إلى عالم الفنادق وموظفته، تأخذنا المخرجة المكسيكية الشابة ليلا أفيليس

الفندق المرآة

لا شيء يكدر حياة إيفا العملية سوى انتظار قرار نقلها إلى الطابق “42”، أما بقية التفاصيل فتقوم بتنفيذها دون كلل، تَقبل أن تكون مربية طفلِ سيدة أرجنتينية غنية لوقت إضافي مقابل مبلغ بسيط.

برشاقة لافتة تقدم مخرجة “مُنظّفة غرف الفندق” وكاتبة السيناريو المشاركة مع زميلها “خوان كاروس ماركويز” عينات من المجتمع المكسيكي تعبر عن صراعاته ومشاكله. رجال يقضون لياليهم في غرف هربا من زوجاتهم وحياتهم الأُسرية، برجوازيون لا يهتمون إلا بالشكليات والمظاهر، نساء يبحثن عن الثراء عبر عرض أجسادهن، وحتى الفقراء مثل المُنظفين الذين يستغلون أبسط الفرص لتحسين أوضاعهم.

أغلب من تعمل معهم إيفا يأتون بأشياء بسيطة من خارج الفندق، يعرضونها للبيع على زملائهم، سلوك يسمح مع غيره من السلوكيات المجهولة للمُشاهد عرض جوانب من الحياة الخفيّة لعمال الفنادق.

لا شيء يكدر حياة إيفا العملية سوى انتظار قرار نقلها إلى الطابق "42"

سجن الرفاهية

تفاصيل العمل في الفنادق لا تعرضها دفعة واحدة، بل تعمل صانعته على تقديمها بالأقساط بجرعات صغيرة، لتُبقي على حيّوية النص وتركيزه على موظفة “سجن الرفاهية”.

مجموع التفاصيل الصغيرة تمهد المُشاهد شيئا فشيئا لقبول وصف الفندق الفخم بـ”سجن الرفاهية”، فعُماله وموظفوه أسرى فيه، لا تُتيح لهم شدة العمل وطول ساعاته حرية الخروج منه متى ما انتهوا من عملهم، فهو سجنهم غير المعلن الذي يحرمهم من مقابلة أطفالهم وأهلهم، يأسرهم أصحابه بقوة التخويف من الطرد وخسارة راتب زهيد يُعيلون به أفواها جائعة تسكن في مناطق فقيرة بعيدة عنه. لا يتسع خيال سكان هذه المناطق الفقيرة لتصور أسلوب عيش الناس داخل تلك الأبنية الرائعة التصميم والبناء.

بعض ما يجري في السجن ينقله مشهد سريع: نرى فيه عاملة تقف داخل مصعد متجه نحو الأسفل بيدها كتاب، ودون أن ترفع رأسها تخبر زميلتها كيف نقلوها من خدمة الغرف إلى قسم تنظيف الملابس والشراشف بعد تعرضها لحادث عمل أصابها بعاهة. لم تُصرف لها تعويضات بل اكتفى صاحب الفندق العملاق بنقلها من قسم إلى آخر، أما جسدها المعطوب فلا أحد يسأل عنه. التصعيد الدرامي للفيلم نفسه يأتي دون تسرع.

مجموع التفاصيل الصغيرة تمهد المُشاهد شيئا فشيئا لقبول وصف الفندق الفخم بـ"سجن الرفاهية"

الصدمة

سؤالها الدائم عن موعد نقلها وتأكيد مسؤولتها على تنفيذ وعدها تكرر بإيقاعات مختلفة خلال مسار الفيلم مرات ومرات. في كل مقابلة يتعزز الإحساس لديها بقرب تحقيق طموحها، ولشدة ثقتها بمديرتها خاطت لنفسها “صدرية حمراء” وهي خاصة بعمال الطابق “42”.

أما النهاية فجاءت عكس توقعها، فقد حصل زميل لها على الترقية وذهبت كل أحلامها أدراج الرياح. خيبة أمل مؤلمة هزت كيان العاملة البسيطة وفتحت عينيها على حقيقة جديدة تعلمتها من عملها وهي: أن الإخلاص والتفاني لا يكفيان لنيل العامل ما يستحقة، ثمة أشياء أخرى تقرر مصيرها.

الصدمة ولشدتها عليها ستدفعها لإعلان غضبها واتحاذها قرار حاسماً؛ ستترك العمل ولكن ليس قبل أن تزور غرفة في طابق ذوي الامتيازات، ففي مشهد رائع يُكرَّس لتجوال المُنظّفة في أرجاء غرفة واسعة فيها حوض سباحة، تطل على المدينة التي تراها لأول مرة بهذا الاتساع من خلال نوافذها المُشرعة على مشهد رائع. وبخروجها من بوابة الفندق أعلنت العاملة تحررها من “سجن الرفاهية” الذي تعلمت منه درساً بليغاً، ربما سيُعينها على مواصلة حياتها المقبلة بأقل الصدمات.

“مُنَظفة غرف الفندق” فيلم صادم بهدوئه وجمالياته، وخاصة كاميرا المصور البارع كارلوس روسيني المشترك مع مهندس الصوت غويدو بيرنبلوم في تحقيق معادلة بصرية تعوض عن الحوار وتُحيل الفيلم بأكمله إلى تحفة بصرية مشحونة بالعواطف الإنسانية العاكسة لتناقضات مجتمع وصراعات الطبقات، بأسلوب شاعري يضعه بين أجمل الأفلام المكسيكية المنجزة خلال العقد الأخير.


إعلان