“الموصل بعد الحرب”.. وكأنها لم تخرج منها
قيس قاسم

مدينة الموصل العراقية كُتب عليها الشقاء، فحتى بعد تخليصها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لم يتخلص أهلها من آثارها الفظيعة.
هذا ما ينتهي إليه الوثائقي الفرنسي “الموصل بعد الحرب”، فبعد المعارك الطاحنة التي شهدتها المدينة والتي يصفها الوثائقي بأنها واحدة من أكبر “حروب المدن” التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ما زال الخوف يسكن قلوب سكانها، والخراب الذي لحق بها لم تُعمره ولم تُعد بناءه الوعود الكبيرة التي قُطعت لهم خلالها.
اليوم هناك قرابة مليوني شخص يعيشون بين أنقاض بيوتهم المهدمة، يتنفسون مع هوائها الثقيل روائح الجثث المتفسخة، يتذكرون كلما اختلوا بأنفسهم خساراتهم المريرة، فمجريات حياتهم لا تشي بانفتاح أفق، ولرصدها اقترحت صانعته الفرنسية آن بوريه معاينة مكانية تتقصّى من خلالها أحوال المدينة، ومعرفة حقيقة ما يُقال عن “إعادة التعمير” وعودة الحياة الطبيعية إليها.
بيوت مهدّمة وجثث متفسخة
زمن الوثائقي يمضي وفق التواريخ التي أعقبت نهاية المعركة، ينطلق من بداية العام الفائت، حيث مخلفات الحرب ما زالت باقية، وركام البيوت -خاصة المدينة القديمة التي اتخذ “داعش” من بيوتها ملاجئ- طُمرت تحتها جثث القتلى من مسلحين ومدنيين.
تتابع الكاميرا حركة أشخاص يبحثون بين خرائبها عن أعزّاء لهم فُقدوا نتيجة القصف لا يعرفون عنهم شيئا، هل هم ما زالوا أحياء أم تفسخت جثامينهم بين تراب وحجر يصعب الوصول إليه؟
مشكلة البحث عن المدنيين المفقودين كما تُجلي شهادات (منهم مَن قَبِل الوقوف أمام الكاميرا، وآخرون طلبوا حجب وجوههم عبر تظليلها خلال البث) تتعقد بسبب إصرار الجهات الرسمية والمجاميع المسلحة المدعومة منها على قرارها بترك جثث مقاتلي داعش في أماكنها وعدم القيام بدفنها، رغم احتمال وجود مدنيين سقطوا في المكان نفسه.
يقترب الوثائقي من رجل أخذ على عاتقه مهمة انتشال جثث المدنيين، يشير إلى “سرداب” بيت قديم يقول إنه وجد تحته عشرات الجثث وما زالت هناك بقية منها، وباقترابه من البيت يُعرّض الرجل نفسه للخطر لاحتمال وجود ألغام تحت أنقاضه، ومع ذلك يُصرّ على البحث.
أعداد غير قليلة من الموصليين أشاروا على الوثائقي الذهاب معهم لتصوير بيوتهم المهدمة، وذلك رغم وعود الحكومة والسلطات المحلية وجهات أخرى تابعة للأمم المتحدة بتأهيل وإعادة بناء ما خُرّب منها خلال مدة قصيرة.

“شبح داعش” وطفيليات إعادة الإعمار
لمعرفة أسباب التلكؤ والتأخير يتحرك الوثائقي على أكثر من جبهة، وخلال استقصائه الدقيق في كل واحدة منها يتوصل إلى وجود مخاوف حقيقية وتذمر بين الناس، لا تنحصر دوافعه بالمعاناة التي تسببها لهم إطالة زمن عودتهم إلى منازلهم فحسب، بل في خشيتهم أيضا من احتمال استغلالها لإحياء نعرات طائفية قد يستفيد منها داعش ويعود بحجتها ثانية إلى المدينة.
على “شبح داعش” ومخلفاته تنمو طفيليات تريد الاستفادة الشخصية من شعار “إعادة الإعمار”، إلى جانب بروز نزعة انتقامية عند أطراف سياسية هيمنت على المدينة وغيرت من توزيعها السكاني وقسمتها إلى جزأين؛ شرق الموصل وغربها، وعلى مساعي تأهيلها انقسمت الأطراف بين منتفعة وأخرى نزيهة.

خارطة مصالح جديدة
رسمت نهاية معركة الموصل خارطة مصالح جديدة معقدة، كما وأفرزت أحقادا وضغائن. سريعا يمر الوثائقي على مؤتمر الكويت لإعادة بناء العراق، وينقل مقاطع لمشاركين فيه أغدقوا الوعود لحل مشكلات اقتصادية ولوجستية تعوق إعادة تأهيل المدينة المنكوبة.
فجأة تتقدم مندوبة للأمم المتحدة وتعلن صراحة لمعدة الوثائقي أن سيطرة الشرطة الاتحادية على الجانب الغربي من المدينة هشّة وضعيفة، فهي تعجز عن بسط سيطرتها بالكامل عليه، وفي المقابل تقوم المجموعات المسلحة بدلا منها بنصب حواجز طيارة على الطرقات، وتمنع السكان من المرور إلى الجهة الثانية من المدينة، مما يخلق تذمرا من وجودهم.
تحذر المندوبة الأممية بوضوح من وجود الدواعش، فكل ما فعلوه أنهم حلقوا ذقونهم ولبسوا “دشاديش” عراقية وتسربوا بين الناس، وتؤكد المندوبة وجودهم الآن في ضواحي المدينة والمناطق القريبة منها، وتُذَكر المسؤولة الأممية بأهمية إحلال الأمن ونشر الشعور بعودة المدينة إلى قديم عهدها. وهو كلام يتطابق كثيرا مع مساعي الراغبين في إعمار مدينتهم، وللتأكد منه يقوم الوثائقي بجولات بين الأحياء ويقابل أناسا منها كرروا كلام المسؤولة الأممية نفسه لكن بصياغات مختلفة.

المحرومون من عراقيتهم
في مقابلة مع امرأة موصلية ابنها كان منتميا إلى صفوف داعش، وبعد مقتله قامت بمراجعة دوائر الدولة من أجل حصول أولاده على الجنسية العراقية. الموقف المتشدد من أبناء الدواعش يحرمهم من حقوقهم المدنية وأبسطها الذهاب إلى المدارس، فمن بين طيات كلامها تتضح النسب الكبيرة من المنتمين إلى التنظيم المسلح من أبناء المدينة خلال عامين كاملين، وبالتالي فإن معاقبة أهاليهم وأطفالهم ستخلق بالضرورة عداوات، وتبطن روحا انتقامية عند الأجيال الجديدة من المحرومين من عراقيتهم.
للحفاظ على توازنه ومصداقيته يقابل الوثائقي عوائل أخرى فقدت أبناءها خلال صراعهم مع التنظيم، وهؤلاء يعانون أيضا من بيروقراطية وقلة تضامن معهم، فهم لا يحصلون رغم مراجعاتهم المتكررة ومنذ مدة ليست بالقصيرة على جواب شافٍ بشأن مصير أبنائهم.
وبذلك الوجع يتساوى مَن كان مع التنظيم أو مَن عارضه، فسكان الموصل بعد انتهاء حرب مدينتهم المغلوبة على أمرها صاروا يعيشون يومهم في حيرة وقلق لا يرحمان. كل ذلك يثبته الوثائقي بدقة ويشبعه بحثا، وبعده ينتقل إلى جانب ثانٍ له صلة بالذي سبقه.

فساد ونزاهة وخيبة أمل
يخصص “الموصل بعد الحرب” جزءا طويلا من زمنه لعرض الفساد المستشري في الدوائر المحلية، مقابل وجود مساع نزيهة لا تجد استجابة لمطالبها عند الحكومة العراقية. وبين صورتين يتحرك الوثائقي، الأولى تتعلق باللجنة الاستشارية الخاصة المعتمدة رسميا من مجلس الوزراء والمتعاونة مع منظمات الأمم المتحدة، وبين مُحافِظ متهم بالفساد طُرد قبل أشهر قليلة بسببه من وظيفته لكنه أُعيد إليها ثانية.
الأخير لا يريد إعادة إعمار المدينة القديمة ويتعامل مع إرثها الحضاري والثقافي على أنه حجر لا قيمة له، فهو يعمل دون مراجعة اللجنة للحصول على المساعدات الدولية ومخصصات الدولة ليتقاسمها بينه وبين المقربين منه، وفي المقابل يسعى مسؤول اللجنة الاستشارية وهو من الشخصيات الأكاديمية والعلمية المعروفة بنزاهتها إلى إعادة الحياة إليها.
وبينهما يظهر تناقض مواقف موظفي الأمم المتحدة، فعلى الرغم من اللقاءات والاجتماعات المخصصة لدراسة مشاريع التأهيل، لم يخرج المشاركون فيها بنتيجة عملية، فيما مضى المحافظ بخطته وقرر إزالة ركام المواقع الأثرية وجرفها دون مراعاة لأهميتها الحضارية ورمزيتها بالنسبة لسكان الموصل.
خيبة أمل اللجنة الاستشارية تشبه خيبة آمال موظفين أمميين كانوا متحمسين لاستعادة المدينة الجميلة بعض ما فقدته، وبما يساعد على إشاعة روح إيجابية ومتفائلة بين سكانها.

أكاذيب ووعود وشعارات
لتبرير ما سجله الوثائقي من انطباعات عن الطرف السلبي من المعادلة، راح يوثق تفاصيل كثيرة تتعلق بمواقف المحافظ عبر الاقتراب كثيرا منه. التقطت كاميراته حوارات مهموسة له مع مساعديه تكشف أكاذيب حملات التبرع المزعومة لرؤساء عشائر ووجهاء مدينة مقربين من السلطة.
رافقته مخرجته في زيارات له سادها الضجيج والإعلانات الهادرة عن تبرع بعضهم من ماله الخاص للمساعدة في بناء عشرات البيوت الجديدة وإصلاح بعض المهدمة. وعود لم تُطبّق، فهي مثل وعود الجهات الحكومية لا تتعدى أن تكون شعارات عالية النبرة، وهي لا تختلف عن تلك “الهوسات” التي يطلقها موظفو البلديات والدوائر المحلية كلما زار مسؤولوهم منطقة سكنية متضررة، وخرجوا منها بتعهدات يعرفون هم قبل غيرهم خواءها.
في المقابل وعلى الأرض لاحظ الوثائقي وثبّت مظاهر التوتر الطائفي عبر رفع المجموعات المسلحة المساهمة في تحرير المدينة شعارات وصور تستفز أهالي المدينة، وتزيد من أحزانهم على كثرة ما فقدوه.

مصارحة وثائقية
الوثائقي ربما هو الأندر من ناحية لغته الصريحة، فهو يُسمّي الأشياء بأسمائها، يستقصي الحقائق وبعد التوصل إليها لا يتردد بتثبيتها كما هي. فمن هذه الناحية ربما يقترب من الريبورتاج التلفزيوني، لكنه أكثر اشتغالا على الملازمة الطويلة لشخوصه، حيث يُتيح لهم فرصة التعبير عن آرائهم ومشاعرهم دون خوف.
يقدم الوثائقي كل ما جرى بتأنِ لافت، فبعد عرضه للفساد المستشري في بلديات نينوى، يرجع إلى سكانها ويصور خيبة أملهم وعدم ثقتهم بممثلي الحكومة، وكنتيجة لها راحوا يعملون على بناء بيوتهم بأنفسهم.
مشاهد فضحت هشاشة البنية التحتية للمدينة وعدم اكتراث الحكومة والبلدية حتى في الكشف عن مصير من وقفوا مع الشرطة والجيش في مقارعتهم لـ”داعش”.

فضح المستور
بعد زخة مطر قوية ظهر فجأة ما هو موجود تحت تلال الركام، حيث برزت بقايا أجساد شباب تم تصفيتهم على يد “داعش”، وبانت أيضا ملامح قبور بسيطة دُفن فيها رجال يصعب التعرف على هوياتهم.
ظهور مؤلم فتّح جروح أهالي المفقودين وأعاد الحزن إليهم، حيث ظهر أيضا أطفال فقراء ومشردون من بين جدران المدينة جاؤوا للبحث عما ينفع نبشه من بين الأنقاض.
مشاهد ختامية مؤلمة تحيل إلى أسئلة ملحاحة حول مستقبل مدينة نينوى، ومدى احتمال عودة العنف إليها ثانية.