السينما التركية.. بين عصرين
ندى الأزهري

تتيح مشاهدة تسعة أفلام تركية حديثة عُرضت في المسابقة الرسمية للفيلم الوطني في مهرجان إسطنبول الدولي للفيلم (من 3 إلى 16 أبريل/نيسان الماضي) الاطلاع على بعض من أفضل إنتاجات السينما التركية، لكن في البدء لا بدّ من السؤال إن كانت هناك “سينما تركية”، أي صناعة سينمائية تركية، أم هي مجرد مبادرات فردية كما هو الحال في بعض بلدان العالم العربي على سبيل المثال؟
عن هذه السينما لا يصلنا الكثير، لا سيما في العالم العربي الذي وإن كان شغوفا لدرجة كبيرة من محيطه إلى خليجه بمتابعة المسلسلات التركية فإنه يقصر اهتمامه عليها، كذلك تفعل المحطات التلفزيونية العربية التي تكتفي بهذا النوع من الإنتاج السمعي البصري التركي ولا تسحبه على السينما، وإن حصل فلن يكون سوى هذه الإنتاجات السينمائية المشابهة في أسلوبها وتركيبتها لما عوّدت الجماهير عليه، أي النمط المسلسلاتي.
العصر الذهبي
تُعدُّ السينما التركية جزءا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية التركية، فتركيا كانت في الستينيات والسبعينيات مع معدل في إنتاج الأفلام وصل إلى 225 فيلما في السنة؛ خامس أكبر منتج للأفلام في العالم، وفي عام 1972 تحديدا وصل الإنتاج إلى 300 فيلم، وحينها احتلت تركيا المركز الثالث عالميا في إنتاج الأفلام.
وأطلق على الفترة من 1963 إلى 1975 “العصر الذهبي” للسينما التركية، فخلالها تجاورت السينما الشعبية أو التجارية مع ما أطلق عليه سينما “كلاسيكية”، لكن مع غلبة النوع الأول، حيث طغت الأفلام الكوميدية والعاطفية الاجتماعية على معظم إنتاجات تلك الفترة.
كان الإنتاج يتمّ في أستوديو يشيلتشام بمعنى “الصنوبر الأخضر” في إسطنبول، ثمّ بدأ انحسار السينما مع ظهور التلفزيون في تركيا عام 1974، وتزايد في نهاية ذلك العقد لعوامل سياسية، وهبط الإنتاج إلى عشرة أفلام في السنة.
ومنذ نيل فيلم “يول” ليلماز غوني السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1982، انطلقت السينما التركية بين سينما مؤلف معترف بها دوليا، وسينما تجارية شعبية ناجحة تُرى بشكل رئيسي في تركيا، وهي إلى اليوم في تطور ثابت وإن كان بطيئا.

سينما عميقة بميزانية قليلة
اليوم ومع خروج 187 فيلما تركيا للصالات عام 2018 بحسب إحصائيات أخيرة في تركيا، فإن ثمّة حركة سينمائية مهمة مع قادمين جدد يقدمون سينما ذات ميزانية قليلة بأساليب متعددة ومواضيع منوّعة وغنية تُبدي مكانة الفرد في المجتمع وتحولات المجتمع التركي المعاصر، سينما تُحرّك مشاعر عميقة وتحثّ على تأمل في الذات وفي العالم من حولنا، خلافا لتلك التجارية التي لا تُثير سوى مشاعر سطحية من ضحك سريع ودموع أسرع وأثر سرعان ما يزول.
هي سينما تلقى دعما من بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، لا سيما ألمانيا التي شاركت في إنتاج عدة أفلام العام الفائت (4 من أصل 9 المعروضة في المسابقة)، وتجد لها مكانا في المهرجانات الكبرى، لا سيما بعد حصول أفلام نوري بيلغ جيلان على عدد من الجوائز العالمية، منها الجائزة الكبرى في كان عن فيلميه “أوزاك” (2003)، و”حدث ذات مرة في الأناضول” (2011)، والسعفة الذهبية عن “سُبات شتوي” (2014).
هذا الاعتراف العالمي يعطي السينما الفنية أفضل دعاية محليا، ويمنحها فرصة لجذب جمهور أكبر، إذ ما زال مشاهدو هذه النوعية من الأفلام قليلا مقارنة بجمهور الفيلم الكوميدي.

تحولات اجتماعية وجغرافية
السينما التركية الحديثة -والحديث هنا عن بعض إنتاجات 2018 و2019 المعروضة في مهرجان إسطنبول للفيلم الأخير- متعددة المواضيع، كما أن لكل مخرج أسلوبه الخاص وخطه العام، حيث لا يمكن الحديث عن تيار سينمائي واحد يجمع بين هذه الإنتاجات.
تطرح تلك الأفلام مواضيع متعددة غنية ولا تهتم بشكل أساسي بالجانب الاجتماعي فقط على غرار السينما الإيرانية مثلا، بل تتناول كذلك التحولات الاجتماعية والجغرافية في المدن الكبرى، وتتسع لتشمل تأثير قدوم الغريب على أهل البلد، كما تهتم بوضع المرأة والبيئة، وتطرح مشاكل من نوع الاستئثار بالسلطة أو الصراع عليها، وتقدم قضايا من نوع الاعتقال السياسي.
صاف.. عن علاقة الفرد بمحيطه
فيلم “صاف” لعلي وطن سفير هو فيلم من إنتاج تركي ألماني روماني يتمحور حول “التحوّل” بجانبه الإنساني والمديني، ويطرح سؤالا شائكا إزاء إمكانية بقاء الفرد صافيا أو بريئا عندما يُحاط بالكراهية والضغوط ومشاق الحياة اليومية، كما يتناول هذه العلاقة المتبادلة بين الفرد ومحيطه، فمن يؤثر أكثر في الآخر؟
ويختار لهذا الطرح منطقة مليئة بالأحياء العشوائية في إسطنبول تشهد تحولا ضخما بسبب التوسع العمراني، فهو فيلم يصوّر مأساة اجتماعية يشهدها أهل هذا النوع من المناطق مع دخول عامل جديد إلى الحياة التركية وهو إحدى اللاجئين السوريين.
يحاول الفيلم التطرق لمدى تأثير وجودهم على حياة الفقراء الأتراك وعلى فرصهم في العمل، دون أن يعني ذلك أي شكل من أشكال العنصرية. كما ينجح الفيلم في تناوله لمساهمة العناصر التي تغيّر المشهد الحضري في تدمير رجل عادي نقي.
“حكاية شقيقات ثلاث” و“الإخوة”
كما يبرز موضوع المرأة في فيلم “حكاية شقيقات ثلاث“ لأمين ألبر، والذي يسرد حكاية اجتماعية قاسية عن ثلاث شقيقات هن ريحان ونورهان وحوّاء، واللواتي يكافحن لتغيير مصائرهن في قرية جبلية معزولة تماما عن العالم.
يعرض الفيلم تقليدا متبعا في تركيا تتبنى فيه عائلة غنية فتاة فقيرة لتنقذها من العوز، حيث تعيش في كنفها وتُعامَل “كابنة” و”خادمة” في الوقت ذاته، وهو يُبرِز بأسلوب مبتكر يعتمد الحكاية والأجواء الأسطورية سعي الشقيقات الثلاث لتغيير مصائرهن المرهونة في العادة بالرجال وبتقاليد المجتمع.
وليست المرأة وحدها هي الضحية في المجتمع، فالرجل لا ينجو من التقاليد هو الآخر، فالاثنان يقعان تحت نيرها وظلمها كما يبين فيلم المخرج عمر عطاي في “الإخوة” الذي يثير قضية جرائم الشرف، حيث يقرر أشقاء قتل الشقيقة لأنها تزوجت وهربت دون موافقتهم، وسلّمتْ الأسرة للشرطة يوسف الأخ الأصغر لأنه كان قاصرا وقت القتل، وسيحصل على عقوبة مخففة، إلا أن يوسف ندم على ما فعله، لقد أطاع قرار شيوخ الأسرة بحمل وزر الجريمة وبخداع أخته كي تكتشف الأسرة مكانها.
فيلم قاس ومتشائم أساء إليه التطويل وإقحام بعض الحوادث غير المقنعة، كظهور مفاجئ لفتاة تدخل حياة الأخوين، كان هذا مؤسفا لفيلم بدأ مميزا ومقنعا وعميقا بطروحاته.
“يوفا” و”الخيول الميتة” و”سارقو الحمام”
لا تنسى السينما التركية المرور على البيئة والطبيعة، ففي فيلم “يوفا” لا يمرّ “يكسان يلجأ فرد” هربا من حياة المدن الصاخبة وربما من أهلها الطامعين كذلك ليعتزل وحيدا في كوخ في الغابة، وليكتشف ما تحمله الأرض من أسرار وخيرات، لكن حياته الانفرادية البرية الساحرة هناك تتعطل مع تزايد خطر الإخلاء الوشيك بسبب شراء الأرض من مستثمرين لاستغلال الطبيعة لأهداف تجارية جشعة.
فيلم آخر يستوحي علاقة الإنسان مع الطبيعة، وهو ينتمي إلى هذه السينما الفنية المبتكرة التي تبحث عن شكل جديد، والتي تنفر من السرد التقليدي القائم على حكاية تتتابع من البداية وحتى النهاية حسب التسلسل الزمني لأحداثها، فلا تكفّ عن التنقل من الحاضر إلى الماضي بأسلوب لا يعتمد “الفلاش باك”، بل على تداخل الأزمنة بنحو يُضيّع أحيانا المشاهد، كأن يُثير الحدث بعينه لدى الشخصية ذكريات قديمة توقظ الذاكرة وتقودها في رحلات مؤقتة نحو البعيد تعاوده كلما طرأ ما يستدعيها.
في “الخيول الميتة نبولا” لطارق أكتاش (عُرض في مهرجان لوكارنو) بصمات من الماضي مستقرة في قاع الباطن، سنوات بعدها تطفو إلى السطح، كهذا الشاب الذي أعاده جرح وسيلان دماء كان سببه التضحية بخروف العيد في طقس ديني معروف؛ إلى صورة من طفولته حين اكتشف حصانا ميتا مرميا وقام والده بمعاونة أصدقائه بالتخلص من الجثة.
والعلاقة مع الطبيعة تعني أيضا هذا الرابط مع الكائنات الأخرى، وهو ما يجسده بوضوح الفيلمين السابقين، لكن ما يكرس له فيلم “سارقو الحمام” لعثمان نائل دوغان كل الفيلم، وهو يبين على نحو رائع هذه العلاقة العجيبة التي تربط شابا بطيور الحمام، علاقة سحرية لا تعبأ بأعراف اجتماعية، إذ يحكمها عرفها الخاص الذي يبرر لها كل سلوك أمام زوج من الحمام لا مفرّ من تملكه. ليس هذا فقط لكسب المال من بيعه، بل هو ارتباط حميمي وصداقة لا شبيه لها.
لقد كان للشاب سيد نظام يلماز الذي قام بالدور الرئيسي وتجسيد هذه العلاقة المعقدة والإقناع بها أكبر الأثر في إغناء الفيلم لما تميز به من أداء ساحر.

“عدن” و”مَرّ على الرقابة”.. مثيرة ولكن
تسحرنا السينما التركية بغنى مواضيعها وإن لم تفعل دائما في أسلوب معالجتها وتشكيلها بصريا، وهكذا فهناك أفلام كان يمكن لها أن تقدّم الكثير لكنها تاهت أحيانا في الطرح، فجاء الفيلم إما بطيئا أو مكررا أو غير مقنع بقصته أو مسرحيا.
إنما في كل فيلم ثمّة ما يشدّ ويمنح بريقا، كأداء البطلة فوندا إيريغيت مثلا في فيلم “عدن” لأُنُور أورهان الذي يتناول الاستيطان والحضارات التي تقوم وتلك التي تندثر، وكذلك الصراع على السلطة والحرب والدمار من خلال قصة زوجين يهربان من الحرب والمجاعة، ويتخذان من بيت أخوين يتصارعان على السلطة ملجأ لهما.
كذلك تأتي الفكرة في “مَرّ على الرقابة” لسرحات كارا أصلان، والذي يبين هذا الانغماس والتطفل على حياة الآخرين عبر قصة حارس في السجن مهمته مراقبة مراسلات المساجين للتأكد من خلوها من معلومات أو تحريض، أو على العكس وجود معلومات فيها.
وفي دروس عن الكتابة يتابعها في أوقات فراغه يطلب منهم المُدّرس الكتابة عن صورة ما، فيقع يوما في عمله على صورة زوجين في رسالة، وهنا تبدأ مغامراته حين يتعلق بالزوجة الجميلة الممثلة التركية المعروفة سعادت أكوسي التي يرى فيها بطلة لقصته.
“المُطّلع”.. سياسة غير مباشرة
أما السياسة فهي ليست غائبة تماما لكنها ليست مباشرة، ففي “المُطّلع” لحسين قرباي سجين غير معروف أسباب سجنه، وإن خمّن المشاهد من خلال أسلوب التحقيق والحوار أنه اعتقال سياسي، يسمحون له بمقابلة زوجته على انفراد على الرغم من أن القوانين لا تسمح بذلك، لكنها تجربة يقودها المحقق لهدف ما، ويخوضها السجين بهدف دراسة شخصيته وردود أفعاله أمام الطارئ من الحياة.
السينما التركية المستقلة تتابع تطورها ويزداد عدد المهرجانات الدولية التي تقدمها مع مخرجين جدد سنويا، والسنوات القادمة كفيلة بتقديم فكرة أكثر وضوحا وأكثر اكتمالا عنها.