غجر مصر.. معجزة البقاء في صحراء التيه واللعنة الأبدية
د. أمــل الجمل

نساؤهن يشتهرن بالجمال الأخّاذ الساحر، حتى إن الشعراء استلهموا منهن القصائد، وكذلك الرجال منهم كتبت عنهم الشاعرات النساء مثلما كتبت الشاعرة السويسرية كودينا نيل قصيدة بعنوان “حالة سُكْر”. لكن الصورة الذهنية النمطية التي طُبعت وترسخت عنهم جعلتهم يعيشون في خوف دائم، حيث قيل إنهم يتورطون في السرقات، غير أن بعض المؤرخين يصفونهم بالقوم المسالمين العاشقين للحياة ومباهجها، لا يسعون للتورط في المعارك والصراعات، فإذا دقت طبول الحرب في دولة ما تركوها وانتقلوا للحياة في دولة أخرى، فهم يبحثون عن الأقوى ليعيشوا في كنفه.
النساء هنّ مصدر الدخل الأساسي، فمن هنا لا بد أن يتمتعن بالدهاء لمواجهة الطامعين والناهبين والعاشقين، لذلك أيضا عندما تلد المرأة فتاة يعمّ الفرح والبهجة على الأسرة، لأن مولد الأنثى يعني رزقا جديدا وموردا إضافيا لدخل العائلة مستقبلا.
نتحدث عن “النَّوَر” و”الحلب” و”المساليب” و”الهنجرانية”، وجميعها مسميات لعشائر وفصائل تنتمي للغجر الذين قوبلوا بالرفض والاحتقار والاضطهاد كجماعة عرقية في معظم دول أوروبا، بل في الدول العربية أيضا ومن بينهم مصر، حيث تُلاحقهم اتهامات بالسرقة والنشل والقيام بأفعال دونية، وتورط النساء في أفعال مشينة في ظلّ صمت وقبول رجال العائلة، فهل تلك الصورة النمطية صادقة، وإلى أي حد؟
نعثر على تفسيرات وإجابات لما سبق ضمن الفيلم الوثائقي “غجر مصر.. معجزة البقاء” للمخرجَين هبة الحسيني وحسن صالح وني، والذي كان عرضه الأول بمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة في دورته الـ21. فالفيلم ثري بالمعلومات والآراء واللقاءات، وهو مُقسّم إلى فصول يحمل كل منها عنوانا يبدأ بـ”غجر مصر بين التاريخ والأسطورة”، ويتناول الروايات الأربع عن أصل الغجر وموطن عوائلهم الأوائل، ثم تتوالى الفصول “اللي يضرب على الطار أصله مسلوب”، ثم “ظهر حمارتي أوسع من الفيلا”، و”الغجرية ست جيرانها”.
ضمن تلك الفصول يتم مناقشة مفهوم المثل ومحتواه وما وراءه من دلالات، إضافة إلى العادات والتقاليد والعرف أو القانون الذي يحكم الغجر، والمهن التي يعملون بها، كذلك نظرة المجتمع إليهم وما بها من تناقض، والفوارق الطبقية الاجتماعية والأخلاقية، والسمات الشخصية بين الفئات الأربع -النور والهنغراية والحلب والمساليب- من وجهة نظر علماء الاجتماع والباحثين، كذلك من وجهة نظر مجموعة من الغجر أنفسهم، إذ بدا أحدهم وكأنه يحكم على بعضهم، في حين يتردد البعض الآخر مكتفيا بمقولة دبلوماسية “زي كل شيء، فينا الكويس واللي مش كويس”.
غجر مصر.. أساطير تطاردهم
من حولهم تطايرت الأساطير، بعضها عن الاضطهاد وعن الطرد من بلاد الفرس والهند، ولن يكون آخرها ما حدث في عهد هتلر الذي قِيل إنه قتل منهم 15 ألفا، كما اختُرعت أساطير أخرى مضادة مستمدة من التوراة عن لعنة تلاحقهم بسبب ما فعلوه مع المسيح، إذ شاركوا في دقّ المسامير بالصليب، وقتلِهم أطفال بيت لحم، ومن ثم كُتب عليهم التيه في الأرض كلعنة أبدية، لكنها أساطير؛ الصادق منها قليل.
غالبا ما يستقرون في خيام على أطراف القرى أو على الحدود، ولعقود طويلة كان أغلبهم لا يعرف الأسِرَّة ولا البيوت، حتى مَنْ امتلك منهم بيتا في مرحلة ما من حياته يحرص على الخروج للصحراء والإقامة في الخيام، إنهم أصحاب المثل الشهير “ظهر حمارتي أوسع من الفيلا”، وهو مثل يُعبّر عن رحابة عالمهم ومجتمعهم مثلما يُعبّر عن كثرة تنقلاتهم وعدم استقرارهم، فالترحال من مكان إلى آخر هو عقيدتهم بحثا عن لقمة عيش، لكنهم في مصر الآن ووفقا لعلماء الاجتماع بدؤوا في الاندماج مع فئات المجتمع، وتُشير التقديرات المعلنة بالفيلم إلى أنهم يقتربون من المليون نسمة، ويتفرقون بين الدلتا وشمال مصر وصعيدها.

الغجر في السينما
فيلم “معجزة البقاء” ليس الأول ولن يكون الأخير، فما أكثر الأفلام التي تناولت عوالم الغجر واتخذت منهم مادة خصبة مثيرة وجاذبة للجماهير، حيث كان الغجر وما زالوا حاضرين ولو بشكل هامشي في السينما المصرية، لكنهم أفضل حالا من نظيرتها العالمية بأنواعها وأجناسها، فهم موجودون في أعمال طابعها الدراما الرومانسية أحيانا والتشويق والجريمة أحياناً أخرى، أو أفلام مستمدة من السير الذاتية لأشهر هؤلاء الغجر سواء في الروائي أو الوثائقي أو حتى التقارير التلفزيونية.
قدمتهم السينما المصرية على سبيل المثال في “تمر حنة” و”البوسطجي” و”أمريكا شيكا بيكا”، ومن المسلسلات الشهيرة “الليل وآخره”، أما في السينما العالمية سنجد عشرات الأعمال منها “شوكولاته” و”المنفى”، وفي مقدمتها شخصية كارمن الغجرية المتمردة العاشقة للحرية التي تُثير الجميع بسحرها ويقع العشاق تحت أقدامها، وتنتهي نهاية مفجعة.
صنع العديد من المخرجين العظماء أفلاما عن عوالمهم مثل أمير كوستاريتشا الذي قدّم العديد من الأعمال المستمدة من حياة وشخصيات الغجر، وبعضها نال جوائز كبرى مثل “زمن الغجر” كأفضل إخراج من مهرجان كان السينمائي عام 1989.
“أبناء الريح” و”غوازي”
من بين وثائقيات السينما العربية هناك فيلم عن غجر السودان، وهو من توقيع مخرج الوثائقيات السوداني محمد الفاضل المقيم بالولايات المتحدة، ثم فيلم آخر بالغ الأهمية -منسوج بلغة سينمائية وعمق إنساني مرهف- عن غجر الأردن ولبنان وفلسطين، وبه إشارات عابرة عن غجر مصر يحمل عنوان “الغجر.. أبناء الريح”، وهو من توقيع المخرج درويش البوطي ومن إنتاج الجزيرة الوثائقية، حيث يأتي ضمن سلسلة وثائقيات بعنوان “نسيج وطن”، ويتناول بتعمق كبير حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم ونظرة المجتمع إليهم، ومحاولات البعض منهم الإفلات من تلك النظرة الدونية، حتى إن بعضهم نال قسطا وافرا من التعليم الجامعي، وأصبح لديه وظيفة لائقة اجتماعيا، لكنه لا يزال يعاني من نظرة المجتمع للنوري أو الغجري.
يتطرق الفيلم أيضا للجانب الاقتصادي الاستثماري في البنات، ولماذا يفرض الأهل على العريس مهورا شاقة غالية، فمع زواج الفتاة تنضب موارد الأسرة ويتوقف الدخل، ومن هنا لا بدّ من تأمين مستقبلهم بمهر مرتفع يعيشون منه، وإن كان ذلك في نظر بعض المحللين يعتبر استغلالا سيئا وبيعا للفتيات.
اللافت في هذا الفيلم أيضا تنوع فئات وفصائل الغجر، إذ نجح في التصوير مع مستويات متباينة من طبقات مختلفة، كما قدّم نموذجا لغجري كان يعمل في تلميع الأحذية، ثم بمساعدة شخص يعمل في مجال الفن والحفلات تحوّل ماسح الأحذية إلى مطرب ناجح ذائع الصيت.
أما غجر مصر فتناولتهم إحدى الأفلام الوثائقية الأجنبية في أوائل الثمانينيات، ففيلم “غوازي.. أثر الغجر” أُنتج عام 1982، وهو فيلم وثائقي من إخراج جيرمي ماري، وخصّص فصلا شديد الجرأة عن بنات مازن، وقبائل الغجر الذين تفرقوا في جنوب مصر، ومنهم السعداوي الذي كان يُنشد الموّال على الرّبابة، وتخصص في أداء السيرة الهلالية وإن لم يكن مشهورا كما هو الحال مع الريّس مثقال الذي خدمه الحظ عندما استدعاه البعض إلى القاهرة ليُحيي حفلات السمر هناك للسياح، فجابت شهرته الآفاق وسافر دولا أجنبية في مقدمتها فرنسا.

أشعار وأمثال غجرية
الفيلم الأحدث “معجزة البقاء” رغم أنه شريط وثائقي من إنتاج قناة تلفزيونية، فإنه يمزج بين اللقطات الأرشيفية وتلك المواد المُصورة خصيصا للفيلم، ويعتمد أساساً على التنقل السريع بين اللقاءات الحوارية للضيوف ولقطات تبدو سينمائية لشخصيات من الغجر الحاليين، إضافة إلى توظيف الغرافيك واللقطات الأرشيفية من برامج وأفلام قديمة وفيديوهات وبرامج تلفزيونية لفنون المدّاحين والمنشدين والغوازي، من دون أن يفقد لغته السينمائية والإيقاع اللاهث لمشاهده ومفاصله.
واحدة من مزايا الفيلم الكبرى أنه يستعرض عددا من الأغاني والفنون والأشعار والأمثال الشعبية، وكذلك العادات والتقاليد المصرية التي تعود أصولها للغجر، فنكتشف مثلا أن أحمد بن عروس شاعر غجري الأصل، وأنه أول مَنْ ابتكر الرباعيات قبل صلاح جاهين واللاحقين، وأن بعض الأشعار المنسوبة لآخرين نكتشف أنها من إبداع ابن عروس، فمثلا من تتر مسلسل ذئاب الجبل نستدعي:
ولا بدّ عن يوم محتوم تترد فيه المظالم
أبيض على كل مظلوم وأسود على كل ظالم
الأبيات السابقة التي نُسبت إلى عبد الرحمن الأبنودي وغناهها علي الحجار ما هي إلا أشعار أحمد بن عروس -الغجري الأصل- وفقاً لشهادة المخرج والباحث محمد حسان عاشور، وكذلك “يا حلوة جمالك هبشني/ والهبشة جت في العباية”.

نجوم الطرب الشعبي الغجري
كما يتناول فيلم “معجزة البقاء” -وإن في عجالة- مجموعة من أسماء نجوم الطرب الشعبي الذين برزوا من مجموعات الغجر، منهم الريّس مثقال الذي أصبح ظاهرة في الستينيات والسبعينيات ووصلت شهرته إلى أوروبا أثناء جولاته الفنية، مثلما يعرّج على حكاية تعلق زكريا الحجاوي بسعاد بنت مازن وتزوجه منها عرفيا، ثم زواجه من خضرة محمد خضر التي اكتشفها أيضا الحجاوي وتبنى فنها وقدمها لجمهور التلفزيون المصري من خلال برنامج “الفن الشعبي” الذي كان يقدم في السبعينيات من القرن الماضي، وإن انفصلا بعد سنوات ست، فإنه كتب فيها قصيدة يصفها بعدم الأمان ونكران الجميل، وكأنه بذلك يختم على بعض من شظايا السمعة السيئة التي ظلت تلاحق الغجر في تغريبتهم.
يمر الفيلم سريعاً على حوادث الزواج، ويكتفي بالإشارة لدور زكريا الحجاوي في اكتشاف مواهب هؤلاء المطربين والمنشدين من الغجر والحفاظ على تراثهم وتوثيقه، وإن كان هذا يستحق المزيد من التعمق والبحث.
تكمن أهمية “معجزة البقاء” أيضاً في أن صُنّاعه نجحوا في أن يلتقوا بعدد من الغجر الذين قبلوا بالتصوير والوقوف أمام الكاميرا، وهم مجموعات في محافظات كالبحيرة والجيزة والأقصر، وكان لديهم الشغف للحديث أمام الكاميرا بعكس مجموعات أخرى وفق تصريح المخرج، وبعكس ما حدث معه حينما ولدت الفكرة في ذهنه، إذ يقول حسن وني “كنت أجلس ذات يوم بإحدى المقاهي، ورأيت سيدة ترتدي ملابس غريبة وعلى يديها وشم، كانت تبدو من بيئة مختلفة، فتحدثت إليها وعرضت عليها أن أقوم بتصويرها لكنها رفضت، كان ذلك حوالي عام 2004، وظلت الفكرة في ذهني أن أقوم بعمل فيلم عن هذه الفئة من المجتمع، والتي يطلق عليها فئة الغجرية، إلى أن عثرت على جهة منتجة وتحمست للمشروع”.

الهند وفارس
يتتبع الفيلم أصول الغجر تاريخيا، ويُحاول أن يفنّد الأساطير المروية عن هذه الأصول، فيستعين بدراسات نبيل صبحي حنّا أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وآخرين من الباحثين المعتمدين عليه أساساً.
كان البعض –وخاصة الأوروبيين- يُرجع لفترة طويلة أصول الغجر إلى مصر، معتقدين أن كلمة “جيبسي” (Gypsy) التي تعني الغجر في الإنجليزية مشتقة من مفردة “إيجيبشيان” (Egypt) التي تعني المصري، وقد ظل هذا الاعتقاد سائدا حتى أثبتت الدراسات الأحدث أن الغجر قبائل هندية الأصل، فقد كانوا يُجيدون الغناء والعزف والرقص، ويغزلون أجمل الألحان الشجية، وكان صيتهم يسبقهم في مجال الطرب، لذلك أرسلهم ملك الهند قبل 400 عام من الميلاد إلى بلاد فارس للترفيه عن ملكها وشعبه، ولأن عدد هؤلاء الغجر في فارس كان كبيراً يقدّر ببضعة آلاف؛ قرر الملك منحهم بعض الأراضي كي يزرعوها ويستقروا وينفقوا من ريعها على أنفسهم، وذلك كي يرفهوا عن شعبه الفقير، لكنهم أهملوا الأرض وذبحوا الماشية، ومن ثم أصبحوا عبئاً، فغضب الملك وصادر آلاتهم وممتلكاتهم القليلة، ومنذ ذلك اليوم وهم رُحّل جوّالون في العالم، جزء منهم اتجه إلى أوروبا وجزء إلى الدول العربية ومنها مصر.
الأمر اللافت في الفيلم هو التنقل بين أفكار عديدة تجعل المتلقي يشعر وكأنهم يحاولون تغطية الموضوع من كافة جوانبه وزواياه، إنه طموح المخرجين في تتبع الحكايات المتناثرة والمختلفة حول أصول الغجر، قبل أن يحسم المؤرخون الجدل ويُعيدوا تصحيح الصورة، لكن هذا الجزء استهلك جزءا من الفيلم كان يمكن تفاديه، فقد خصصوا مساحة مقدرة لبعض هذه الروايات التي ثبت عدم صحتها تاريخيا، وكان يمكن الاكتفاء بالرواية الأخيرة الأكثر دقة، وذلك لمنح مساحة زمنية لشخصيات أهمّ، مثل شخصية خيرية مازن التي بظهورها أضفت حيوية وكثيرا من الإنسانية على الفيلم. كذلك شخصية الفتاة الشابة الجميلة وعائلتها في البحيرة حيث لم يستفد الفيلم منها بقدر كاف واكتفى بالتصوير الخارجي للشخصية واللقطات البصرية للخيام والحصول على أغنية بصوتها وصوت صديقاتها وعائلتها، وتصريح حول أشياء شكلية لم تكن بالعمق الكافي تتعلق بالملابس المزركشة بألوانها المبهجة، والوشم أو الحلق أو ألسنة الذهب في مقدمه الفم.
ورغم أهمية كل ما سبق لكن الفتاة تبدو شخصية قوية يمكن أن تخبئ بداخلها حكايات خصبة وكاشفة عن الغجر، إضافة إلى شخصيات مثل خضرة محمد خضر، وزكريا الحجاوي والريس مثقال، أو أحمد بن عروس الشاعر الغجري الذي نكتشف فجأة أن أشعاره يستعيرها أو يسرقها شعراء كبار يضعون أسماءهم عليها من دون تعليق.
اللقاءات مع الغجر الآخرين أيضاً كانت مهمة ضمن نسيج الفيلم لكشف أشياء عن مهنهم وقوانينهم الصارمة وتقاليدهم، لكنها لم تنل ما يكفي من المساحة والعمق، كما أن صوت الراوي لم يكن موفقاً، إذا بدا وكأنه إخباري تلفزيوني مما أخذ من قوة وسينمائية الفيلم.

عن بنات مازن
في حين تظل أهم الحوارات في الفيلم تلك التي تخص اثنين؛ الشاعر والباحث والمخرج الراحل محمد حسان عاشور -الذي أهدى المخرجان فيلمهما إلى روحه حيث كان آخر ظهور له- فبأداء جذاب وسرد تلقائي شيّق تم من خلاله توضيح وتوثيق كثير من المعلومات عن الغجر وحياتهم، مثلما تطرق الأمر لأشهر فنانين ينتمون إلى عالم الغجر في مصر.
أما الحوار الثاني فيخص خيرية مازن آخر راقصات -أو غوازي- الغجر التي تحدثت عن تاريخ عائلة بنات مازن اللاتي احترفن إحياء الأفراح في مدن الصعيد، وقدرتهن على الدق بالصاجات والرقص والغناء الشعبي، وكن يمتزن بملابسهن اللافتة التي استعارت نقوشها وتفاصيلها من المعابد والرموز الفرعونية، وكيف قلدتهن نجمات الفن لاحقاً.
سبق لخيرية مازن أن شاركت في شبابها عام 1982 في الفيلم الوثائقي “غوازي.. أثر الغجر”، ونرى لقطات من الفيلم القديم بداخل فيلم “غجر مصر.. معجزة البقاء”. لكن رغم أهمية وحيوية حواراها بالفيلم الأحدث يظل الفارق الجوهري بين الفيلمين أن “معجزة البقاء” حاول الاقتراب من عالم غجر مصر السري المحاط بالغموض والأساطير وإن على استحياء أحياناً، خصوصا فيما يتعلق بالسمعة السيئة التي تلاحق نساء الغجر، إذ لم يتمكن من فعل ما فعله شريط “غوازي.. أثر الغجر” الذي أتاح للشقيقات الثلاث “بنات مازن”؛ سعاد وخيرية ورجاء أن يتحدثن بجرأة ودقة عن توصيف علاقتهن بالمجتمع الذي كان ينظر إليهن كعاهرات وفتيات ليل سيئات السمعة، ولذلك يُطلقون عليهم لفظ “الغوازي”، بينما اللفظ ذاته في نظر هؤلاء الشقيقات كان يعني أنهن غزون قلوب الرجال.
مثلما يتحدث فيلم غوازي عن إرادة بنات مازن في كسب الاحترام الاجتماعي وإضفاء صورة جيدة على أنفسهن، لذلك بدأن في تدريس فن الرقص، بينما يكتفي فيلم “معجزة البقاء” بكلمات خيرية مازن عن ارتباطهن بعلية القوم، وتحدي زوج أختها -ابن العمدة- للعادات والتقاليد والأعراف حين ارتبط بغازية من الغجر.

صورة نمطية دونية
اللافت في أغلب الأفلام وتأمل الصورة الذهنية النمطية عن الغجر والغوازي بكل فئاتهم، أنهم -والنساء منهم بشكل أخص- يعملون في مجال الترفيه والرقص والغناء وعزف الموسيقى وقراءة الطالع، وأنهم كانوا مصدرا للوحي والإلهام، فشاعر مثل لوركا -الذي أُعدم إبان الحرب الأهلية الإسبانية- كان يستلهم أكثر ثقافته الشعرية من ثقافة الغجر، لدرجة أنه أُطلق عليه “شاعر الغجر”.
كان الغجر وما زالوا مصدراً لإضفاء البهجة والمرح والسعادة على الحياة الاجتماعية المصرية، ويلجأ الأثرياء إليهم لتحقيق تلك المتعة، لكنهم في الوقت نفسه ينظرون إليهم باحتقار، وهو ما يُؤكده علماء الاجتماع بفيلم “معجزة البقاء”، وخير دليل على ذلك المثل الشائع “اللي يضرب على الطار أصله مسلوب”، فالعائلات العريقة ذات المنزلة الاجتماعية المرتفعة يجب ألا يستخدموا مثل هذه الآلة الإيقاعية أو غيرها مما يقترن بالغجر، لأنهم في نظر المجتمع أصحاب أصول غير عريقة.
إنها تلك النظرة التهميشية للغجر والتي تقلل من دورهم الاجتماعي والثقافي، وذلك رغم أن هذه الجماعة الإثنية لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على الموروثات الشعبية المصرية، والتي يأتى على رأسها “السيرة الهلالية” والأغاني الشعبية وكذلك رقص الغوازي الذي يأتي الأجانب من شتى دول العالم للتدريب عليه، لكن مع وجود البرجوازية فإنها تستمتع بفنهم، ولا تخالط الغجر اجتماعياً، فالبرجوازية تفرض قوانينها الأخلاقية ونماذجها الفنية أيضاً.
كذلك يمكن تأمل حالة هؤلاء الغجر في مصر، إذ حاول بعضهم الاندماج والذوبان في المجتمع، حتى إن بعضهم -ممن ظهر بفيلم معجزة البقاء- يُخفي حقيقة كونه ينتمي للغجر أو النّوَر بسبب الصورة النمطية السلبية عنهم، كما يُؤكد محمد حسان “أن 90٪ من المدَّاحين غجر”، لكنه رفض ذكر أسمائهم لأن “بعضهم يُنكر انتسابه للغجر”، وهو لا يلومهم في ذلك بل يُفسر ذلك “بأنهم باعترافهم سيدفعون إرث وتاريخ الصورة السلبية عن الغجر، لكنهم غجر، والسيرة الهلالية تعتمد في سردها على آلات موسيقية للغجر”.

غجر أوروبا وغجر مصر
على العكس من ذلك نجد الغجر في الدول الأوروبية وفي أمريكا يُصرّون على الاعتراف بهويتهم وأصولهم ويفتخرون بها، فيُؤكد كثير منهم على المحافظة على العادات والتقاليد مهما حدث، ويغرسونها في أبنائهم رغم الحياة العصرية والمدنية التي يعيشونها. لكن في مصر ربما تؤدي حركة الحياة المعاصرة وسطوة المجتمع إلى اختفاء مجموعات الغجر، وبالتالي اندثار فنونهم مع الوقت، حتى وإن كان من بينهم مَنْ يحارب للبقاء، مما يجعلنا نتساءل مع صناع الفيلم: مَنْ المسؤول عن تهميش الفن الغجري؟ ومَنْ المسؤول عن الحفاظ على تراث غجر مصر؟ ومن المسؤول عن النهب المنظم لتراث الغجر؟
ورغم ما سبق، فإن عرض فيلم “غجر مصر.. معجزة البقاء” بكل أهميته وجاذبية موضوعه وإيقاعه السريع المتلاهث وثراء أفكاره، فإنه قد يفتح الباب أمام صُنّاع الوثائقي في مصر ليتتبعوا تراث الغجر، أو ليسبروا أغوار شخصيات في قوة وقيمة زكريا الحجاوي بكل محاولاته في إحياء وانتشار تراث الغجر، أو شخصيات بقدر خضرة محمد خضرة والريس مثقال وخيرية مازن ومَنْ تبقى من عائلتها المنتمين لنَوَر الغجر، وإقناعهم بالتصوير والانفتاح أمام الكاميرا وقول ما لا يُقال بجرأة، ومن دون خوف أو تردد.