الشاشة لا تكذب.. تساؤلات حول سينما المؤلف
حميد بن عمرة
الشاشة لا تكذب، ففي محيطها الحدّ بين المتعة والتأمل، بين الفضول والاستقطاب، وبين الدهشة والملل. قديما كان المستطيل الأبيض جنّة طفولتنا نتجول فيها بحريّة، فقد كانت الشاشة المسبح وحديقة الحيوان والسيرك والعرس والصحراء والمدينة والليل والقطب المتجمد والقمر والمريخ والمدرسة.
في طفولتي كان المقعد أمام الشاشة يساوي أسبوعا من الحلم المكرر، وأسبوعا من التحايل على أمي لكسب سعر التذكرة، وأسبوعا من الصبر في انتظار الملصق الجديد، كنا نُخلِص للشاشة أكثر من آبائنا، لأن الضوء المنبعث فيها كان يشرق بقلوبنا ويزيد من نشوة دقاته. كنّا الأبطال والأشرار والعشاق في آن واحد، ولم نكن نفرق بين الصور الذكية المشحونة بالمعاني السرية، وبين اللقطات المرحة الراقصة في عبثية طلاقتها، لقد كانت السينما الحركة والمحرّك الباطني لأحلامنا.
السينما.. فن وصناعة
باكرا في الجزائر صدرت مجلة سينمائية تلفزيونية باللغتين العربية والفرنسية اسمها “شاشتان” لازدواجية الرؤى فيها. اكتشفنا حينها المقال الدقيق الذي لا يُفسّر الفيلم بل يشوّق إليه، المقال الذي لا يسرد مضمون الفيلم وإنما يُعطي مفاتيح الدخول إلى أروقته، والمقال الذي يحيط بالفيلم دون الكشف عن علاقة شخصياته ببعضها. اكتشفنا أن الكتابة السينمائية صدى لكتابة بصرية لم نكن نعطيها حقها من الإمعان، لأن الممثل كان يحمل عبء الفيلم على ظهره. كان أبي ربّ البيت وكان الممثل هو ربّ الفيلم.
اكتشفنا أن التأطير بالتلفزيون يعتمد على اللقطة الكبيرة، خلافا للسينما التي تُماطل وتتباهى في عرض الفضاء الشاسع. القراءة كانت الطريق الموصل إلى أسرار السرد، والممهد الأساسي في اقتناء لغة جديدة نصرف بها أحلامنا في كل الفصول.
أما مصطلح النقد السينمائي فلم يكن متداولا في أعمارنا الـ14، لكن سلاسة المواضيع فتحت في أحداقنا آفاقا جديدة صرنا نتذوق من خلالها الأساليب المختلفة في التعامل مع القصص الفيلمية. فالسيناريو كلمة كانت أكبر منا، ولم ندرك بسهولة أهمية البنية السيناريستيكية في توجيه الفيلم والخطاب الفيلمي إلى اتجاه استعراضي بحت، أو إلى مادة مرئية مرصوصة البُنية والشكل.
صرنا نُفرّق بين قيمة “هتشكوك” الفنية وتوجه سينما شباك التذاكر، ونميز بين سينما “كوبريك” المعقدة وأفلام “بازوليني” السياسية، كما أصبحنا نفقه الأسلوب “البراغماتي” البليغ ونميزه عن التوجه “الغوداردي” التجريبي.
لم يتم هذا فقط من المشاهدة المستمرة بمتحف السينما وبرمجة مديرها “بوجمعة كارش”، بل من تصفحنا كل ما يصدر من مواضيع ودراسات نقدية حول السينما وصناعتها، ففهمنا أنها فن وصناعة، وأنها ليست دوما مزاج فنان مولع بعشيقة تسكن السحب، بل عمل أستوديوهات بمئات العمال كل في اختصاصه. هذا الاستيعاب كان ممكنا لأن المقالات لم تُكتب حسب أعمارنا، بل كانت أعمارنا تكبر من سنّها كي تدرك أبعاد هذا العلم الفني أو الفن العلمي.
سينما المؤلف والسينما التجارية
من تساؤلات المراهقة بقي عالقا بذهني مفهوم المؤلف الذي يتعامل مع الصورة كتعامل الساعاتي مع عقارب الزمن، وبقي مرافقا لهذا التصور معتقد المخرج الذي يبيعك الريح في كيس تشتريه بثمن باهظ رغم وعيك بالخدعة، لأن اللُعاب في عضّ التفاحة كان أكبر من التفاحة نفسها. كان المؤلف يبدو لنا كفيلسوف مادته الخام المحورية هي الصورة، وكان مخرج المغامرات يظهر لنا كتاجر أحلام بارع في تعليبها بشكل مُغرٍ.
من هذا التصادم والتواؤم كنا نجادل بعضنا بعضا حول فكرة سينما المؤلف والسينما التجارية في نقاط التقاطع والتنافر، حول الشكل والمضمون، حول الجدية والمرح، ونسعى إلى الإمساك بالخيط الرقيق الرابط بين الرسالة والاستعراض وتداخل مفاهيمهما أحيانا ببعض.
سينما المؤلف.. المفهوم الفرنسي المختلف
فهمنا سريعا أن الحروب ليست دوما بالمدافع والقنابل لأنها تجتاح الشاشات، فالاستثناء الثقافي الفرنسي حالة خاصة يعتز بها الفرنسيون كنوع من المقاومة ضد غزو الفيلم الأمريكي إلى شاشاتهم منذ اتفاقيات “برينز بلوم” 1946، والتي بمقتضاها تُوزع الأفلام الأمريكية على الشاشات الفرنسية بنسبة 43% مقابل 45% للفيلم الفرنسي، والتي ما زالت سارية المفعول.
عارض إثرها الحزب الشيوعي الفرنسي هذا الاتفاق، معتبرا إياه طريقة لنشر أسلوب الحياة الأمريكية، ونوعا من البروباغندا الاجتماعية. لذا فالمفهوم الفرنسي لسينما المؤلف يختلف عن باقي العالم، وذلك في كون المخرج هو صاحب الفكرة، وغالبا ما يكون هو كاتب السيناريو حتى وإن استعان بسيناريت أو أكثر في هذا التصميم.
سينما المؤلف.. نخبوية متعالية؟
عندما تتحول الصورة إلى لغة وأداة تفكير يسيطر بها السينمائي على محيطه الاجتماعي، ويتحكم بمتاهات بلاغاتها تُصبح بعدها اللغة كينونته وجنسيته الأساسية. فسينما المؤلف هي موضوع ذاتها ولا تحتاج إلى موضوع تتكئ عليه لإتمام بناء الجدار، لأنها حجره الأساسي وليست الطلاء الذي يزينه، فلماذا يعتبر شباك التذاكر سينما المؤلف نوعا متعاليا ونخبويا؟ ولماذا يتهم ممارسو الفيلم “المثقف” السينما التجارية بغسلها للأدمغة وحقنها جرعات كسل ضارة للمجتمع؟
كانت الأسئلة تتهاطل في طريق العودة مشيا من العاصمة الجزائرية إلى الحي الشعبي المنزوي في ضواحيها، كنا نُعيد كتابة السيناريو ونعدّل الأحداث ونحذف ونزيد ذهنيا الأدوار والموسيقى والديكورات. كنا نخرج من فيلم وسترني لنصل إلى الحي بعد مشي شاق، وقد تحول محتواه من فيلم رعاة بقر إلى فيلم رومنسي، ونحول فيلما تاريخيا عن الجيش الروماني إلى فيلم شاعري عن العشق.
الخيال كان يشق طريقه عبر كل خطوة، فكان الظلّ والمظلة. الوصول إلى الحي كان أسرع من الذهاب إلى قاعة السينما، لذا لم نكن نعرف الإجابة عن الأسئلة لأنها كانت تحمل في استفهاماتها الفهم والمفهوم. هل سينما الرأي والانطباع والفلسفة في متناول الجميع، أم أنها حكر نخبوي ينفرد به المختص والباحث فقط؟ هل السينما تحتاج إلى الفهم مثل الرياضيات، أم أن الإحساس أولى لأنه يفتح طريق الفضول بسرعة؟
كيف نفسر خروج المشاهد من فيلم لبرغمان أو لملص مبتهجا ومنفعلا دون ضرورة الإلمام بالتوليف والتقطيع والبنية الفيلمية السرية؟ هل الإحساس والشعور أولى من الاستيعاب بالسينما، أم يحتاج المشاهد أن يفسر كل لقطة وكل حوار؟ هل سينما المؤلف ورشة مفتوحة يجرب فيها المخرج أدوات سرد مختلفة وجديدة، أم أنها خليط عشوائي غير متجانس وغريب؟
هل المؤلف يُشترط أن يكون مخرج أفلام روائية طويلة، أم أن الفيلم القصير والوثائقي لا يدخلان في خانة هذا الوصف؟ هل سينما المفكر تُخرج المشاهد من أُميّته السينمائية، أم أن سينما الأغاني المُبسّطة تطمئنه في استهلاكه المتواصل؟
سينما هتشكوك وغودار
محمد ملص الذي لا يغادره القلم يوميا يؤمن بالكتابة المرئية بالعدسة كخط سريع يُقرّب بين الملقي والمتلقي أكثر من فقرات يومياته، فالصورة أصدق من آلاف الكلمات كما يقول كوفيشوس، لكن كيف يمكن صهر الحروف وتحويل أنغامها وتشكيلاتها الهندسية ومحاورها الشعرية والفلسفية والسردية إلى أيقونات بصرية؟
“أعتقد أن أفلام التشويق من اختراعي فعلا ككاتب”، هكذا أنهى حديثه هتشكوك في حواره المطوّل مع المخرج الفرنسي فرانسوا تريفو.
قبل الولع الفرنسي وكتب “كرّاسات السينما” لم يكن لهتشكوك صيت عالمي، رغم أنه بدأ السينما في زمنها الصامت. هل النُقّاد واجهة لسينما المؤلف أم يُضخّمون ويقزّمون الأفلام حسب تناسبها لمزاجهم؟ هل المخرج هو مصدر قوت الناقد، أم أن الناقد يساعد على الانتباه إلى مجالات لم يعتنِ بها المخرج عفويا؟ هل التجريب مصطلح يُستعمل عندما لا نجد الخانة المناسبة لوضع فيلم فيها؟
غودار في كل أفلامه حاول إيجاد طرق مختلفة للخروج عن السيناريو، وكأن السيناريو عدوّه اللدود. هل الحقيقة تتجلى بشكل أوسع في سينما المؤلف، أم أن الحقيقة المصورة بكاميرات المراقبة الثابتة التي لا تتابع الشخصيات، بل ترتبط بمكان وزمان هي الأكثر صدقا؟
يُستعمل هذا التحايل مؤخرا عمدا أو تكاسلا في تصوير “اللاشيء”، وتسويقه كمادة فيلمية تُصدّر هذا المضمون كنوع مخالف للتقطيع الكلاسيكي، فكيف تحوّلت سينما “كاميرات المراقبة” بلقطاتها التي تفوق
أحيانا العشر دقائق إلى نموذج ونوع يُدرج في سينما المهرجانات؟
سينما “جون روش”.. سينما الأنثروبولوجيا
هل “السينما المباشرة” تشبه مباراة كرة القدم المبثة مباشرة والمستهلكة في توّها، والتي لا تُخزَّن كمادة تاريخية؟ هل السينما المباشرة التي تواجه الدبابات والعواصف والبراكين أقرب للبروباغندا في صقل الفكر الجماعي، أم أنها حقائق سياسية يُدون بها المؤلف تاريخه؟ هل تعتبر أفلام الحيوانات المتوحشة نوعا متفردا في رصد الحياة الحقيقية، أم أنها زاوية علمية تكتفي بمراقبة النمو والسلوك الحيواني فقط؟ هل سينما الأنثروبولوجيا استعمارية الرؤيا رغم تسترها بمبدأ الاهتمام بحياة الناس، أم أنها نوع فرنسي تفرّد به المخرج “جون روش”؟
يعتبر المخرج الإثيوبي “هايلي غريما” أن سينما “جون روش” أو سينما الأنثروبولوجيا عنصرية بحتة، لكنها تتعامل مع الإنسان كحيوان أليف وناطق توضع العدسة على حياته المفككة والمُشرحة لكل جزء من تحركاته. هل السينما حقيقة مؤطرة تتعرّى وتتستر حسب نوعية الإطار القريب أو العريض، وما الفرق بين التسجيل والتوثيق عند المؤلف؟
هل الكاميرا تحاول حصر الفضاء والديمومة في إطار العدسة، أم تنتقي فقط ما يبدو لها ثمينا جماليا ومضمونا؟ قد نجد أن كل شيء روائي، لأن حَدَقة العين يتحكم في فتحتها قبل كل شيء نبضات القلب الذي به يبصر المخرج، فالقلب واقع شخصي غير موضوعي. هل نحن أمام وظيفة سينمائية أم توظيف للسينما في أطر فلسفية اجتماعية سياسية؟
سينما المؤلف ليست أداة بقدر ما هي مخدع يسكن إليه الراوي، فاللغة السردية كيان وليست وسيلة تُشحن من خلالها المفاهيم.
السيناريو وسينما المؤلف
ما الفرق بأن تقول شيئا شفويا أو أن تُظهره في صور غير ناطقة؟ هل سرد سينما المؤلف أكثر تأنيثا في جماليته، أم أن في حساسية وحميمية تعامله مع الوجوه ما يُقرّبه أكثر إلى الأنوثة؟ هل التأليف تصوّف أم تمرد على شبّاك التذاكر؟ هل الطبخ الرفيع في المطاعم الفرنسية ذات الثلاث نجوم أكثر إشباعا لجوعك وأكثر مدخولا من الأكلات السريعة الطهي في محلات الكباب والشاورما التي تُرّمم بطنك بسرعة، أم أنك تسد جوعك بقراءتك لكتاب للطهي؟
هل الشاعر يحتاج للتمكن من قصيدته أن يُجيد الخط العربي وأنواعه وأن يُلمّ بقواعد الإعراب، أم أن الشعر أقرب للخيال أكثر من النثر بنسيج قوافيه وتقطيره لتراكم الصور الذهنية؟ هل القصيدة أيقونة سهلة الاستيعاب لتراصّ المعاني بها؟ هل النطق وفصاحة اللسان تضيفان للشاعر سلاسة في تشابك الحروف المستعملة، أم أن الخطابة مضمون وليست أداة فقط؟
هل هناك منطقة وسطى بين المدخول المالي والمخزون الفكري؟ هل شاعرية سينما المؤلف مرئية أم تحتاج لقافية الفعل الجريح والفعل الطليق والأحرف الرشيقة كي تزين صورها بهم؟ هل قواعد السيناريو التجاري تخضع لتزامن محطات الإشهار، أم أن السيناريو المكتوب لا يتحول إلى سينما المؤلف إلا بعد تنفيذ معين؟
السيناريو ليس الفيلم، والنجم لا يصنع التحفة، فما الذي يجعل من نص شاعري جيد ونجم اسمه أكبر من الملصق فيلما جيدا أو مفلسا؟ عدد كبير من أفلام هتشكوك كانت مفلسة، ورغم ذلك تُدّرس بالجامعات، ولم تفقد من قوتها السينمائية شيئا لحد الآن.
هل كان متقدما عن زمانه أم أن الجمهور قد تفلت منه تحف لانهماكه الاستهلاكي؟ هل تراكم المواد الإعلامية يُتخم المشاهد لدرجة لا يُفرّق بعدها بين الأسلوب السينمائي الرفيع والحشو الإخباري المتسارع؟ هل سينما المؤلف هي آخر منطقة سليمة تتبلور فيها السينما بشكل مرهف؟
“المدرعة بوتمكين” و”الجحيم الآن”
هل فيلم “المدرعة بوتمكين” سياسي جماهيري، أم أنه فيلم بروباغاندا يخدم أجندة حزبية مسبقة التقرير؟ هل سينما “ليني ليفنشتاين” رغم جودة تنفيذها خارجة عن الفكر الاستعماري، أم أن مضمونها “الهتلري” يصنفها حتما في خانة الفيلم الدكتاتوري؟
عندما يصور كوبولا فيلما بثلاثين مليون دولار في السبعينيات “الجحيم الآن”، هل يعتبر إنجازا مستقلا يجعل منه مؤلفا، أم أنه يندرج في سباق شباك التذاكر لكونه أنجزه خارج نظام الأستوديوهات؟ هل الاستقلالية مالية أم ترتبط بالتعامل مع الموضوع بحرية تامة؟ هل يعتبر العامل بمصانع هوليود عنصرا من ماكينة عملاقة أم ينطبق عليه مصطلح الفنان؟ هل هذا العامل عنصر اقتصادي أم مُكوّن فني؟
“الرسالة” و”إدال”.. من سينما المؤلف؟
مخرجو الموجة الجديدة الفرنسية كانوا نقادا دون استثناء يكتبون في السينما وضدها، فهل صنفوا سينما المؤلف حسب مقاسهم وبرروا ضعفها التقني كنوع من الثورة ضد الكلاسيكية “العقيمة”؟ بيكاسو وإليشينسكي كانا يجيدان الرسم بدقة مجهرية قبل تأسيس التكعيب في الفن التشكيلي.
هل سينما المؤلف هي سرد للذات أم سرد حياة الآخر بمنظور شخصي تتطابق فيه القراءة الذاتية والصورة الجماعية للأحداث؟ أم هي نوع من التظاهرة المرئية ومزيج من الهتافات واللافتات التي تمّ صقلهما في السيناريو كحجة لتمرير المواقف السياسية والاجتماعية وحتى الدينية بسلاسة؟
هل فيلم “الرسالة” ترويج للإسلام، أم تنطبق عليه مواصفات سينما المؤلف رغم تحطيمه أرقاما خيالية في شبابيك التذاكر بالعالم كله، أم أنه كان أول حافر للتدين في البلدان العربية متقدما بثلاث سنوات على حرب الأفغان ضد الروس عام 1979، والتي جندت لها عناصر كثيرة من بلدان عربية؟
هل توظف سينما المؤلف لمصالح سياسية بحتة مثل فيلم “تيمبكتو” الذي بررت إثره الحكومة الفرنسية تواجد الجيش الفرنسي بالساحل الأفريقي، أم أن هذا مجرد صدفة أخذ بعدها سبع جوائز “سيزار” ما زالت تحت الاستفهام؟ هل السعفة الذهبية لفيلم “إدال” كانت بمثابة ترويج عالمي سمحت لتمرير قانون زواج المثليين في فرنسا بعد شهرين فقط من عرضه؟ هل هناك أفلام مصممة في قالب سينما المؤلف تخدم أساسا توجها سياسيا مقصودا ومصمما لذلك للتحايل على المشاهد والرقابة والرأي العام؟
هل أفلام “سبيلبرغ” المتقنة التنفيذ والتي تعالج قضايا مختارة بعناية فائقة تُعدّ أفلاما تجارية بحتة، أم أن لها رجل بشباك التذاكر وأخرى بكراسات السينما؟
هل الفيلم الجماهيري أكثر تأثيرا على الشعوب، أم أن أفلام النخبة تصل إلى ذهنية الناس بوضوح أكبر؟ هل الفيلم الجدّي يساهم في تثقيف وفتح آفاق جديدة في أبصار العامة؟ هل سينما الشباك مُلغمة وتتحايل في زرعها لمفاهيم أيدولوجية لا شعورية، أم أن الخطاب الصريح لأفلام “بازوليني” أكثر مفعولا؟
هل تكذب الشاشة؟
الشاشة لا تكذب، فبإشراقها تبزغ الوجوه الساطعة، وفي سدولها تُسدل الأسماء والعناوين. الشاشة أكثر فصاحة من الشعر والفلسفة، لأنها تنعكس في عين المشاهد بصدق، وتجعل منه صاحب القرار والفصل، وتجعل منه البطل والمشاهد والكاتب والمستمع.
لكن المؤلف قد يكون صنيعة الإعلام الذي يكبر ويصغر في صحفه ونشراته من يشاء، فهل المؤلف بالضرورة شخص معروف يتداول الناس خبره، أم أنه رهين عدد اللايكات بالمواقع الاجتماعية، أم يحتاج إلى حياة تقشفية بعيدة عن الموضة والطقوس المتغيرة حتى يكتب بموضوعية بعيدا عن التأثير الاجتماعي؟
هل كانت أفلام الإخوة “لوميير” لا تختلف عما تصوره كاميرات المراقبة الآن إلا في مدتها التي كانت لا تتعدى الدقيقة لقصر طول الشريط؟ هل بدايات التصوير يمكن إدراجها ضمن السينما، أم تُعد اكتشافا علميا لا يتعدى مفهوم المختبر؟
الشاشة لا تكذب إلا إذا كان بالعين ورم وبالأذن صمم، لأنها تفرق بين المخرج والسينمائي، بين النجم والممثل، بين السيناريست وكاتب المسلسلات، بين تنفيذ العدسة والتصوير السينماتوغرافي، لأنها تُفرّق بين الفيلم الأصيل والنسخ المفتعل.
اختفت مجلة “شاشاتان” منبئة باختفاء الشاشات الأربعمئة التي كانت تشرق كل يوم بالجزائر، فصارت خطواتنا أكبر، وتقلصت المسافة بين الحي والعاصمة، لكن القاعات تحوّلت إلى بلاط زفاف ومتاجر وحمامات. اختفت “الشركة الوطنية للصناعة السينماتوغرافية الجزائرية”، ومعها أفلام أشرقت بسعفة ذهبية بمهرجان كان، وأفلام كانت سفيرة الوطن في القارات الخمس، وغربت وتغربت بعدها وجوه لم يدون لها التاريخ صفحة، ولم تترك على أوراقه اسما أو دليلا.
السينما توليف وتأليف وأُلفة وطريقة في العيش، في عُشّها تكبر الأحلام، وتُبنى في فضاء شاشاتها قصور الحب الدائم، فهل سينما المؤلف تعتبر حكرا على متحف السينما النحيف الذي لا يدخله إلا المدمن، أم سينما تُدرَّس فقط في الجامعات والمدارس المختصة لفئة تملك حق التسجيل الباهظ، وحظ اقتناء منحة من ملحق ثقافي يفرز الناس حسب طبقاتهم الاجتماعية وقابليتهم للتجنيد لسينما فلكلورية؟
الشاشة.. عشق لا ينفد
حتى وإن نفدت الأسئلة فلن تنفد إثرها خطوات الطفولة نحو الشاشة، ولن ينفد عشق اللقطة في حدة إحاطتها بالوجه الأنيق، ولن ينفد بعدها خفقان القلب بوتيرة تجاذب اللقطات ببعضها، ولن ينفد بعد كل هذا نور القاعات المتدفق بغزارة على ظهورنا.
سيبقى المستطيل الأبيض سجادتي وقبلتي، وستبقى بمساحته أحلام مدينتي المدمرة وسُلّم دمشقي الواقف، وهواجس ممثلي المعزول وحدوتتي المصرية المستمرة، والمدخل والمخرج لبوابة حريتي. سيبقى صدى “توكي بوكي” وجنون مخرجه “جبريل مونبيتي” وسينيغاليته اللامعة، وسيبقى صوت الليث الخارق المتوفي أثناء كتابتي لهذا المقال الموريتاني “محمد هوندو” وملصق فيلمه “الضوء الأسود”، كما سيبقى على شاشتي حنين أول قبلة وأول طلقة رصاص وأول ابتسامة، وأول دمعة وأول رعب.
الشاشة ما زالت مخزن مشاعرنا ومخبأ أفكارنا السرية، عليها نكتب ونخطّ هوس الأنا والآخر، ونرتبط في ظلالها الخيل والسرج، ونترقب في أفقها الغائب والمنفي وعابر السبيل. في طفولتي كانت السينما درعا وقلعة وراية ووطنا ونشيدا ودينا وحبا أبديا، كان الجلوس أمام الشاشة عبادة ومتعة أكبر من العيد ونهاية العام الدراسي وفوز الفريق الوطني.
الشاشة لا تكذب لأنها مرآة تلمع بجوفها وجوهنا وقلوبنا، وتكبر من خلالها عقولنا وأجسادنا.