حافّة الديمقراطية.. جمهورية العائلات في البرازيل

عدنان حسين أحمد
يُعد فيلم “حافّة الديمقراطية” لبترا كوستا من أهمّ الأفلام الوثائقية التي أُنتجت في العقدين الأخيرين في البرازيل، وذلك لجهة تعلّقه برصد الأوضاع السياسية منذ زمن الدكتاتورية العسكرية (1964-1985) وحتى الآن.
رصدت المخرجة حياة “لولا دا سيلفا” مذ كان شابا في سن الثلاثين وهو يقود المظاهرات حتى تسلّمه السلطة لدورتين متتاليتين، ثم أُودع السجن بتهمة الفساد وغسل الأموال والحصول على شقة من ثلاثة طوابق من إحدى شركات البناء. أما عقوبته النهائية بعد التمييز فبلغت 12 سنة.
ثم أعقبته “ديلما روسيف” وهي أول رئيسة للبرازيل، وقد كانت نزيهة بيضاء اليد، لكنها اتُّهمت بالتقصير وارتفاع نسبة البطالة والركود الاقتصادي وارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وتمّ عزلها من قِبل أعضاء المجلس الوطني الذين أبعدوها وجاؤوا بالرئيس المؤقت “ميشال تامر” لأنه يستجيب لطلبات أعضاء الكونغرس والمجلس الوطني.
أما الشخص الرابع والأخير فهو “جايير بولسونارو” اليميني المتطرّف والشعوبي الذي يؤازر الدكتاتورية العسكرية ويؤيد حيازة السلاح، فقد ارتفعت الجريمة في عهده لتصل إلى نسب غير مسبوقة من قبل.
تَخْلص المخرجة إلى القول إن البرازيل هي جمهورية العائلات التي يرشِّح فيها الآباء أبناءهم ثم أحفادهم ثم أحفاد أحفادهم وهكذا دواليك.
ينطوي الفيلم على تفاصيل جانبية تتعلق بالأحزاب السياسية مثل حزب العمال والحزب الديمقراطي الاجتماعي، ولا تتورع المخرجة عن إماطة اللثام عن غالبية الأشياء المسكوت عنها مثل انشقاق المجتمع إلى يمين ويسار، وإلى مؤيدين للديمقراطية ومناهضين لها، حتى إن بعض السياسيين يطالبون بعودة الدكتاتورية العسكرية.
فيلم كبير في ثيمته، ويغوص في تاريخ البرازيل بدءا من اسمه الذي أُخِذ عن شجرة “برازيلوود”، وحتى السنوات الأخيرة التي تسلّم فيها جايير بولسونارو سدة الحكم وربما يقود البلاد برمتها إلى مصير مجهول، فهو مناهض للمؤسسة، ومعادٍ للنخب الحاكمة المنفتحة على الجميع، وأكثر من ذلك هو يميني متطرّف حتى نخاع العظم.
مُقارعة الدكتاتورية
ينطوي الفيلم على بنيتين ذاتية وموضوعية؛ الأولى تُمثِّل رؤية المخرجة بترا كوستا وهي تسترجع تاريخ أبويها النضالي وهما يقارعان الدكتاتورية، فقد تنكرا بشخصيتي بائع ومعلّمة كي يحرِّضا العمّال والطلاب على النظام، وقد اضطرّا في بعض الأوقات إلى الاختباء والتواري عن الأنظار، ومع ذلك فقد قُبض عليهما وزُجّا في السجن لفترة قصيرة، ثم انتقلا إلى الجنوب لمدة عشر سنوات ليواصلا مسيرة النضال من أجل الحرية، وقد تعرّضا للتعذيب، فيما قُتل مناضلون آخرون من بينهم زعيمهم “بيدرو بومار” فسُميّت “بترا” تيمنا باسمه الخالد في ذاكرة الشعب البرازيلي.

قطيع الذئاب
لم تتحقق الثورة الديمقراطية على أيدي المناضلين اليساريين، لكن الإضرابات الكبيرة والمظاهرات الحاشدة سدّدت ضربة قوية للدكتاتورية وهزّت أركانها، لكنها لم تستطع تقويضها، فلا غرابة أن يتعرّض المتظاهرون إلى حصار يطوّق اتحاد العمال ويحيط بالشوارع المكتظة بهم.
ومن قلب هذه التظاهرات انقدحت شرارة الفيلم الأولى لتعيدنا إلى لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وهو في سن الثالثة والثلاثين، وذلك حين كان عاملا في معمل الصلب ورئيسا لاتحاد العمّال. ومَنْ لا يعرف حياة “لولا دا سيلفا” عن كثب نقول إنه ينحدر من أسرة فقيرة جدا، حيث توقف عن الدراسة في سنّ العاشرة، وعمل في مهن متعددة منها ماسح أحذية وعامل في محطة وقود وبائع خضراوات وميكانيكي لإصلاح السيارات، ثم تخصص في التعدين، وقد فقدَ خنصر يده اليسرى أثناء العمل، ثم انضمّ إلى نقابة العمال وتدرّج فيها حتى أصبح رئيسا لها، وأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن حقوق هذه الشريحة الواسعة والمحرومة من المجتمع.
لم تلتفت المخرجة إلى هذه المراحل كلها، لكنها ركزت على “لولا” وهو في أوائل عقده الرابع، فقبْلها لم يكن منغمسا في عالم السياسة بما فيه الكفاية، وحينما زار المجلس الوطني للمرة الأولى واكتشف أنّ هناك نائبين ينتميان للطبقة العاملة من بين 443 نائبا؛ قرّر في حينه أن يخوض غمارها على أكمل وجه متسائلا في دخيلته “من يمثّل العمّال في قطيع الذئاب الذي لا يشبع ولا يرتوي؟”.
لذلك قرّر أن يؤسس حزب العمال ويترأسه في العام 1980، ثم ترشّح للرئاسة عام 1989 لإنهاء التضخّم ومهاجمة جذوره، وهو يعني بذلك المصرفيين ورجال الأعمال، لكنه لم يفز، وأعاد الكرّة عام 1998 كي يضمن الاستقرار الاقتصادي لكنه خسر أيضا، عندها أدرك خطورة اللعبة فقرّر أن يتنازل عام 2002 ليقول لرجال الأعمال صراحة إن البرازيل بحاجة إليهم.

“لولا” يعانق الجميع
كسبت البرازيل في مراحل متعددة ثروات كبيرة لكنها لم تقضِ على الجوع، وحقّقت الاستقلال لكنها لم تضع حدّا للعبودية، وأصبحت دولة صناعية كبرى لكن الفقر ظل معششا في أرجائها المترامية الأطراف.
كانت المخرجة بترا كوسا في سن الـ19 عندما تمّ انتخاب “لولا” واستلامه منصب الرجل الأول في الدولة، وذلك على أمل أن تستعيد البرازيل نفسها مجددا من دون تمييز بين الطبقات والأعراق والمعتقدات الاجتماعية والدينية والفكرية. لقد أحبّه الشعب وتعلّق بآرائه السياسية التي تلهث وراء العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
تميّز “لولا” طوال حياته النضالية والسياسية بكاريزما كبيرة، فهو يُحيّي الكل ويعانق الجميع ولا يتعالى على أحد، بمن فيهم أولئك الذين يناصبونه العداء ويناوئون أفكاره ورؤاه، وإذا اضطرّ فلا يجد حرجا في الميل إلى الحلول الوسطى.
وعندما انتُخب وحصل على أقل من نصف مقاعد المجلس الوطني سرعان ما تورّط حزبه بفضيحة فساد، واتهم بشراء الأصوات لتأمين الأكثرية، فاستقال رئيس الأركان وسقطت شخصيات أخرى، لكن “لولا” أبعدَ نفسه عن الفضيحة رغم أنّ غمامتها رافقت مسيرته، ثم أطلق تحالفا مع الحركة الديمقراطية في البرازيل، وهي أقوى حزب في المجلس الوطني الذي صوّت له على أمل إصلاح النظام السياسي، لكنه كان يكرّر الممارسات التي كان ينتقدها ويعقد تحالفا مع الأقليّة الحاكمة القديمة.
وعلى الرغم من الأخطاء والهفوات التي كان يرتكبها فإنه استطاع أن يُخرج 20 مليون شخص من الفقر المُدقع، فقد أسس برنامج الإعانات العائلية الذي أمّن 30 دولارا شهريا للفقراء، وزاد عدد المنحدرين من أصول أفريقية في الجامعات إلى ثلاثة أضعاف، وبلغت نسبة البطالة أدنى مستوياتها في التاريخ، ووسط انهيار اقتصادي عالمي تقدّمت البرازيل من المركز الثالث عشر إلى المركز الثامن بين أكبر اقتصاديات العالم.

سرطان الفساد
كانت آراء المواطنين من مختلف الشرائح تؤكد هذه النجاحات الكبيرة، وتمجّد الأساليب الإصلاحية التي اتبعها “لولا”، ومن الطبيعي أن يعارضه البعض الآخر من الذين يعتقدون بأنه لم يقدّم أفضل ما عنده، وكان بإمكانه تحسين البلاد بشكل أكبر.
لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار آراء الساسة الكبار في العالم بـ”لولا” وسياسته الإصلاحية، فقد قال عنه الرئيس السابق باراك أوباما “أدعمُ هذا الرجل وأحبهُ، فهو السياسي الأكثر شعبية على الكوكب”، لكن ذلك كله لم يمنع من تورطه في الفساد وغسل الأموال والرشوة التي قصمت ظهره إلى الأبد.
لم تأخذ المخرجة كل شخصية على انفراد، وإنما تُوصلها إلى ذروة الفساد وتتركها بعض الوقت لتتيح المجال لشخصية ثانية وثالثة ورابعة أخيرة، ثم نتعرّف تلقائيا على المصائر التي آلت إليها الشخصيات الأربع.
فبعد النجاحات الكبيرة التي حقّقها “بطل الفقراء” تُحاصره الاتهامات وتُضيّق عليه الخناق، بينما هو يعاني من المرض وآلام سرطان الحنجرة ويُشفى منه بأعجوبة، لكن سرطان الفساد سوف يأخذه إلى جهة مجهولة دامسة الظلام.

أول رئيسة للبرازيل
تلتقي المخرجة بترا كوستا بديلما روسيف فنكتشف أنها ابنة لمهاجر بلغاري، وقد أمضت ثلاث سنوات في السجن، لكنها استعادت حريتها عام 1972، وتعرضت للتعذيب وقاومته بإرادة صلبة. ومن بين التفاصيل المسهبة لهذا الحوار سنعرف أنها خبيرة اقتصادية ووزيرة طاقة ورئيسة أركان، كما شغلت مناصب أخرى عديدة، ولعل المشهد الأكثر تأثيرا الذي نستشفّه من التعليق الصوتي للساردة هو الاستجواب، فبينما كان المحققون يخبئون وجوههم عنها وراء الأقنعة كانت تجلس هي مفتوحة العينين ساخرة من ذعرهم في مواجهة ضحية عزلاء. ومع كل هذه المعاناة فإنها انتُخبت في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2010 كأول رئيسة للبرازيل.
تعود المخرجة إلى “لولا” وزوجته ماريسا التي تخبرنا بجملة مهمة مفادها “سنوّدع القصر ونعود إلى البيت، إلى شقتي الصغيرة في سان برناردو”، كما تخبرنا المخرجة بأنّ لولا غادر منصبه ونسبة الداعمين له 87%، وهي من أعلى النسب التي حصل عليها أي رئيس في العالم.
وعلى الرغم من كل المؤهلات العلمية والسياسية لديلما روسيف فإنها لم تنجح في إدارة البلد الذي يغصّ بقرابة 20 حزبا سياسيا مختلفا، لذا كان عليها أن تتحالف مع الحركة الديمقراطية أو حزب “بي إم دي بي” (PMDB) شرط أن يكون ميشال تامر -وهو سياسي محافظ من أصول لبنانية مارونية وزعيم في الحزب- نائبا للرئيس، وأوضحت أن هذا التحالف لا مفرّ منه، وبحسب قولها “لو أتى المسيح إلى البرازيل فإنّ عليه أن يتحالف مع بوذا”.

رمزية القُبب البرلمانية
لم يفت المخرجة أن تنتبه إلى العاصمة التي تحتضن حلم الديمقراطية، ففي قلب المدينة ينهض مبنيا المجلس الوطني أو المجلس الأدنى بقبته المفتوحة للأعلى، والذي يرمز مجازيا إلى الانفتاح على الشعب، والكونغرس أو المجلس الأعلى بقبته المغلقة التي تُتخذ فيها القرارات المصيرية التي تترك أثرها الواضح على البلاد.
غير أن هذه الهندسة المثالية نسيت مكوّنا أساسيا في العملية الديمقراطية وهو الشعب الذي بقي منعزلا عن السلطة أطول من أي وقت مضى، إذ أبقت السلطة على نظام قديم ظل متماسكا عقدا تلو آخر، ففي عام 2013 وفي ظلّ الربيع العربي الذي انتقلت شرارته إلى أمريكا اللاتينية إثر مظاهرة صغيرة احتجاجا على زيادة أجرة النقل العام، ونتيجة لقمع الشرطة وضغط وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي؛ أصبحت من أكبر المظاهرات التي شهدها تاريخ البلاد، فقد استيقظ الشعب بعد عشرين عاما ليجد نفسه منقسما، ولم تعد الأعلام الحمراء لحزب العمّال تحرّك أحلام الجماهير.
فقبل هذه المظاهرات بلغت شعبية ديلما نسبة عالية جدا دفعتها إلى طرد سياسيّي حزب الحركة الوطنية من مناصب حكومية مهمة، وتحدّت المصرفيين عبر تخفيف نسبة الفوائد. وعندما بدأ الاقتصاد بالتراجع كشفت الاستطلاعات أن شعبية ديلما قد تراجعت بنسبة 27% خلال ثلاثة أسابيع من المظاهرات.
قامت وكالة الأمن القومي بمراقبة شركة النفط الوطنية العملاقة “بتروبراس” وتوصلت إلى عمليات غسل أموال، وكشفت شبكات فساد تربط بين بتروبراس وشركات بناء متعددة تقدّم رشاواها لشخصيات سياسية متنفذة، الأمر الذي يضعنا أمام شخصية قانونية برّاقة سيَذيع صيتها بسرعة مذهلة، وهو القاضي الاتحادي سيرجيو مورو الذي كشف عن عقود بمليارات الدولارات ورشاوى محددة تتراوح بين 1 و3% مقابل الموافقة على هذه العقود التي لم تحدث مرة أو مرتين، وإنما كانت أسلوبا ممنهجا.

عزل أم انقلاب؟
وبما أنّ مورو الذي تدرّب في أمريكا يُبقي المشتَبه بهم في السجون دون محاكمة إلى أن يشوا بشخصيات أكثر أهمية طالت الرؤساء وجعلتهم يمتثلون إلى العدالة. ومع اقتراب موعد الانتخابات الجديدة لامَ ديلما روسيف لأنها لم تتدخل في التحقيق، ولعل هذه الخطوة هي التي أدّت إلى سقوطها وعزلها من المشهد السياسي نهائيا بمعية “لولا” وحزب العمّال.
وفي ظلّ الركود وارتفاع نسبة البطالة وتراجع شعبية ديلما إلى 9%، وافق المجلس الوطني في ديسمبر/كانون الأول 2015 على عزلها رغم أنها لم ترتكب أعمالا غير قانونية، كما أنها لا تمتلك أرصدة في حسابات خارجية. ولتفعيل قرار العزل سمح مورو للشرطة باعتقال “لولا” وأجبروه على الشهادة، فشكّ المحققون بأنه متورط في عملية فساد، فأخذوا يبحثون عن أدلة؛ شقة من ثلاثة طوابق يُزعَم أنه حصل عليها هدية من شركة بناء متورطة في فضيحة “كارووش” (Car Wash)، فدهمت الشرطة بيته ومكتبه ومنزل ابنه، وشرعوا بمراقبة مكالماته الهاتفية التي كشف فيها قضية تعيينه رئيس أركان كي يحتفظ بالحصانة ولا يقع تحت طائلة الاستجواب والمساءلة القانونية.
تتعالى الأصوات مُطالبة بتدخل القوات المسلّحة وباستقالة الحكومة، فالفاشيون والشيوعيون هم سيّان من وجهة نظر المحتجين، فالبعض يحنّ إلى زمن الدكتاتورية ويعتقد أن الأمور كانت أفضل بكثير، أما الحكومة التي ستتولى السلطة فهي حكومة رجال أعمال ومصرفيين وأصحاب أراضٍ وأمريكيين يريدون السيطرة على الأمازون وآبار النفط المُكتشفة.
وقد وصل التذمّر إلى درجة أن الكثير من المحتجين يعتقدون أنّ ديلما وقادة حزب العمال قد تركوا لهم الفتات، لكنهم الآن لن يجدوا حتى الفتات نفسه. وقد وصف محامي ديلما هذه المحاولة بالانقلاب، ورَفض تسميتها بقرار عزل.

ديلما وخزت الدُب بعصا قصيرة
ضمن حوارات المخرجة مع ديلما اعترفت الأخيرة بأنّ إدواردو كونيا الذي انتخب رئيسا للمجلس الأدنى هو الذي خطّط لهذه الهيكلية ورسم معالم الانقلاب. بعض المتحدثين يضعون أصبعهم على الجرح، إذ أوضح أحدهم أنّ سبب سقوط الحكومة هو حديث ديلما في عيد العمّال حين قالت إن المصرفيين والأثرياء هم الذين سيدفعون ثمن الأزمة، وقد وخزت الدبّ بعصا قصيرة، وهذا الأمر هو الذي قضى على شعبيتها فصوّت 367 عضوا في المجلس الوطني بالموافقة على إقالتها، وغادر الكثير من النواب وعيونهم مغرورقة بالدموع.
حلّ ميشال تامر محل الرئيسة ديلما، وعيّن حكومة جديدة مؤلفة من رجال بيض البشرة مدعيا أنه سيجعل من البرازيل بلدا متماسكا، وسيعيد إليه القيم الأساسية للمحافظين اليمينيين الذين يدافعون عن المسيحية وحاملي السلاح وتحالف المزارعين.
لعل من المفيد أن نورد السؤال الأبرز الذي وجهه القاضي إلى الرئيسة المتهمة ديلما روسيف حيث قال “إلى أي درجة تشعرين أنتِ وحكومتك بأنكم مسؤولون عن هذا الركود، وعن بطالة 12 مليون مواطن، وعن وقوع 60 مليون شخص في الديون، وخسارة 5% من دخل العمّال البرازيليين؟”، فكان ردّها عميقا ومؤثرا إذ قالت “إنني لم أرتكب الجرائم التي تتهمونني بها ظلما واعتباطا، فمن غير القانوني وكما يرغب متهميّ إقالة رئيس حكومتي لأنهم لا يتفقون مع أسلوب عمله. الشعب هو من يفعل ذلك في صناديق الاقتراع”.

لا أخشى سوى موت الديمقراطية
ثم توسعت ديلما روسيف في الحديث عن شتى أنواع التعذيب الذي تعرضت له لأيام متتالية، كما عرّجت على مرض السرطان الذي كاد أن يقضي على حياتها، لكنها اليوم لا تخشى شيئا سوى موت الديمقراطية التي تفانت من أجلها.
يعترف “لولا” المؤازر لديلما بأنّ قطاع الإعلام في البرازيل تُديره تسع عائلات، وأنّ لديهم تراكمات قرون من الهيمنة من قِبل أسياد المزارع وسوء معاملة العبيد، لكنه لم ينجُ من التُهمة الكبرى التي وُجهت إليه بوصفه العقل المدبِّر الذي يقف وراء خطّة الفساد التي كشفت عنها عملية كارووش، كما أُدينت زوجته ماريسا بقضية الشقة أيضا، لكنها بعد أربعة أشهر أُصيبت بجلطة وفارقت الحياة.
وربما تكون لقطات الوداع الأخيرة هي من أجمل المَشاهد السينمائية في هذا الفيلم الوثائقي الذي يتنقّل بحرية بين السرد الروائي والتوثيق. كما أنّ الأدعية الدينية كانت مُحرّكة للمشاعر، من بينها “تمسّك بيد الله وامضِ، سيُنيركَ في الظلام”.
تتوالى جلسات المحكمة بصدد الشقة فنكتشف أن “لولا” زار الشقة مرة واحدة ورأى فيها الكثير من العيوب، لكنه ظلّ مُصرّا على أنّ هذه القضية غير قانونية، وأنها مجرّد أضحوكة، وأنه امتثل أمام العدالة احتراما للقانون والدستور البرازيليين، وطالبهم بالتوقف عن التلاعب بالكلام.
المحتجون من جهتهم خرجوا بالآلاف يطالبون بمنع توقيف “لولا” وضرورة هزيمة الانقلاب، وقد آزرهم قضاة ومحامون أوروبيون مثل جيفري روبنسون الذي انتقد النظام القضائي البدائي للبرازيل الذي ورثوه عن الانتداب الإسباني، وأن المتهم لا يمتثل فيه أمام قضاة محايدين، فهم يتنصتون على هواتفهم ويفتشون بيوتهم ويحصون عليهم أنفاسهم من دون أي اعتبار لخصوصيات المتهم الذي يظل بريئا حتى تثبت إدانته.

قصر مسكون بالأشباح
تدور أسماء الروايات والمسرحيات العالمية على ألسن بعض الشخصيات، فديلما روسيف تقارن نفسها بشخصية جوزيف كي الشهيرة في رواية “المحاكمة” للكاتب التشيكي فرانز كافكا، وهناك من يتذكر شخصية بروتوس في مسرحية “يوليوس قيصر” لشكسبير، حيث يعجز عن النوم لأن شبح قيصر يلاحقه، فلا غرابة أن يعترف ميشال تامر بأنه لم ينم طوال أسبوع معتقدا أنّ المنزل الرئاسي مسكون بالأشباح، وذلك في إشارة إلى إيمانه بالخرافات.
لم يسلم ميشال تامر من الهفوات، لكن أعوانه في المجلسين الأعلى والأدنى آزروه ومنعوا محاكمته مقابل الانصياع التام لرغباتهم، والبعض يطالب بعودة الجيش بوصفه ضامنا للحرية والديمقراطية.
وعلى الرغم من أهمية مورو فإن بولسونارو استحوذ على مكانته بحسب الرأي العام، وعلى الرغم من تصريحاته المناهضة للديمقراطية فإن جزءا كبيرا من طبقة النخبة يرونه أفضل بديل للدفاع عن مصالح السوق.

قتل وردة لا يمنع قدوم الربيع
ترتكز ثيمة الفيلم على شخصية “لولا” ودراميتها، فهو لا يزال حرا طليقا لكن المحكمة العليا حسمت أمرها عندما أصدر مورو أمرا لـ”لولا” بتسليم نفسه لسلطات السجن خلال 24 ساعة، فاقترح عليه الأنصار والمؤازرون ألاّ يسلم نفسه، لكنه أيقن أنّ الانقلاب لن ينتهي إلى أن يقبضوا عليه، لأن قرار عزل ديلما كان وسيلة للنيل منه.
في تلك اللحظة الحاسمة تتذكر المخرجة مقولة وراين بافيت الذي يقول إن ما يحدث هو مجرد “صراع طبقي” لا غير. وقبل أن ينفّذ “لولا” أوامرهم يصرّح بالفم الملآن إنه يؤمن بالعدالة، ولولاها لما أسس حزبا سياسيا، واقترح قيام الثورة لكي تُعاد الأمور إلى نصابها الصحيح.
تتكثّف بلاغة “لولا” في خطابه الأخير الموجّه لمناصريه حين يقول “لا فائدة من محاولة قمع أحلامي لأنني عندما أتوقف عن الحلم سأحلم عبر عقولكم وأحلامكم، لا فائدة من التفكير في أنّ كل شيء سيتوقف يوم يُصاب “لولا” بنوبة قلبية لأن قلبي سيستمر بالخفقان عبركم. يمكن للأقوياء أن يقتلوا وردة أو اثنتين أو مئة لكنهم لن يوقفوا قدوم الربيع”.
ورغم كل المحاولات المستميتة لمنعه من تسليم نفسه فإنّ الشرطة الفدرالية قبضت عليه في كوريتيبا، وبعد ستة أشهر انتخب جايير بولسونارو رغم آرائه المتطرفة التي تنادي بنفي “المجرمين الحمر” من البرازيل وكأنهم قادمون من كوكب آخر.
يتحول بولسونارو إلى أسطورة حتى وإن كانت زائفة، ويعِد شعبه ببناء أمة جديدة. وبينما يقبع “لولا” في السجن يتم تعيين القاضي سيرجيو مورو وزيرا للعدل في حكومة بولسونارو التي تؤمن بعودة الدكتاتورية وهيمنة الجيش، وترخيص الأسلحة للمزارعين بحجة الدفاع عن أنفسهم، وكأنّ الحكومة غائبة ولا تمتلك أكبر جيش في قارة أمريكا الجنوبية.